خلافا لكل التوقعات قبل كل أطراف النزاع بيسر وسلاسة قرار محكمة التحكيم الدولية فى لاهاى يوم الثانى والعشرين من هذا الشهر حول إعادة ترسيم حدود منطقة إبيى السودانية المتنازع عليها بين الشمال والجنوب، وقد جاء هذا القبول بردا وسلاما، ليس على إبيى وحدها، وإنما امتد ذلك ليشمل كل فئات الشعب السودانى، وكل القوى الإقليمية والدولية، التى كانت تترقب حكم المحكمة وتضع يدها على قلبها خشية حدوث توترات أو انفلات أمنى فى هذه المنطقة الحساسة، التى مثلت فى الآونة الأخيرة أهم مصادر التهديد لاتفاقية نيفاشا الموقعة فى يناير 2005، حيث خيم شبح العودة إلى الحرب بين الشمال والجنوب إثر الصدامات الدامية التى وقعت فى العام الماضى. ومن المعروف أن منطقة إبيى هى مثلث من الأرض يقع فى منطقة التخوم الجغرافية الفاصلة بين الشمال والجنوب تقطنه قبيلة الدينكا نقوك الجنوبية، وقد جرى تحويل التبعية الإدارية لهذه المنطقة إلى الشمال منذ عام 1905، وبقيت كذلك حتى الآن، رغم أن الفرصة كانت سانحة لإعادة تبعية المنطقة للجنوب مرتين فى عامى1930و1956، ولكن زعماء الدينكا نقوك فضلوا لحساباتهم الخاصة الاستمرار كجزء من الشمال، الأمر الذى كان يجعل من هذه المنطقة مثالا للتعايش والتواصل بين الشمال والجنوب. غير أن هذا الوضع لم يعد قابلا للاستمرار بالنظر إلى حصول الجنوب على حق تقرير المصير المقرر أن يتم الاستفتاء عليه فى عام 2011، وبالتالى طالب الجنوبيون بعودة منطقة إبيى إلى الجنوب فى حين أن الحكومة السودانية كانت ترى أن هذه المنطقة أصبحت شمالية بعد بقائها لحوالى قرن كامل تابعة للشمال، فضلا عن التداخل القبلى التاريخى لقبائل المسيرية العربية وحقوقها المستقرة فى الرعى والعبور فى هذه المنطقة، الأمر الذى كان مثار خلافات حادة أثناء مفاوضات نيفاشا، وانتهى الأمر بإفراد برتوكول خاص لإبيى فى اتفاقية نيفاشا نص فى بنوده الأساسية على أن يتفق الطرفان على ترسيم حدود إبيى وبعد ذلك يتم إجراء استفتاء بين سكانها يعلنون فيه موقفهم من الانضمام إلى الجنوب أو الاستمرار كجزء من الشمال، على أن يكون هذا فى نفس يوم الاستفتاء على حق تقرير المصير لإقليم جنوب السودان. وأنه إذا عجز الطرفان عن الاتفاق، يحال الأمر إلى لجنة من الخبراء للنظر فى الأمر، على أن يكون تقرير اللجنة ملزما للطرفين. ومن الواضح أن حساسية ترسيم الحدود لمنطقة إبيى تعود إلى أن الجنوب قد ينفصل فى عام 2011، ومن ثم فإن الحدود التى سيتفق عليها قد تتحول إلى حدود سياسية بين دولتين مستقلتين، وبالنظر إلى الفجوة الشاسعة بين رؤى الطرفين الجنوبى والشمالى حول ترسيم الحدود فقد تم رفع الخلاف إلى لجنة الخبراء، التى أصدرت تقريرا ذكرت فيه أنها لم تستطع تبين الحدود التى كانت عليها منطقة عموديات الدينكا نقوك التسع فى 1905. وبدلا من أن تعيد لجنة الخبراء الأمر إلى الطرفين الأصليين، قامت من جانبها باقتراح حدود جديدة للمنطقة، أدت من الناحية العملية إلى توسيع حدود منطقة إبيى وامتدادها إلى مناطق لم يكن الجنوب يطالب بها من الأصل. والأكثر خطورة أن الحدود التى رسمتها لجنة الخبراء أدت إلى وقوع الآبار النفط فى داخل حدود إبيى، الأمر الذى نظر إليه على أنه يمثل تشجيعا للجنوب على الانفصال، حيث من المتوقع أن يختار سكان إبيى الانضمام إلى الجنوب فى الاستفتاء المقرر فى 2011. الحكومة السودانية رفضت تقرير الخبراء على أساس أنهم تجاوزوا صلاحياتهم، فى حين تمسكت حكومة الإقليم الجنوبى بالتقرير واعتبرته ملزما، مما أدى إلى وقوع صدامات دامية بين الجانبين ودخول قبيلة المسيرية على خط هذه الصدامات بعد أن أعلنت أنها لن تعترف بأى وضع يمثل اعتداء على مصالحها وحقوقها التاريخية. وبعد أن بلغ التوتر ذروته، وخشية من الانزلاق إلى حرب شاملة أتفق الطرفان على اللجوء إلى المحكمة الدائمة للتحكيم الدولى فى لاهاى لحسم النزاع، حول ما إذا كان الخبراء قد تجاوزوا صلاحياتهم أم لا؟. وفى حالة ثبوت التجاوز.. ما هى الحدود التى يجب أن تكون عليها منطقة إبيى طبقا للوثائق والأدلة، التى سيقدمها الطرفان. كما اتفق الطرفان مسبقا على أن الحكم الصادر سيكون ملزما للطرفين فورا ودون أدنى نقاش أو تراجع. على هذه الخلفية كان هناك ترقب هائل مشوب بالتوتر والقلق انتظارا لقرار التحكيم، حيث أعلنت حالة الطوارئ القصوى فى قوات الأممالمتحدة المرابطة بالجنوب، وتم اتخاذ إجراءات أمنية احترازية واسعة النطاق، وفُرض حظر التجول فى المنطقة، كما أنتقل إليها كل من المبعوث الرئاسى الأمريكى سكوت جريشن، والمبعوث الأممى أشرف قاضى، ووزير الداخلية السودانى حاد محمود للمتابعة الميدانية ولاحتواء أى توترات قد تحدث. الحكم فى مضمونه جاء منصفا لوجهة نظر الحكومة السودانية وأطاعها الكثير من المصداقية، فقد نص على أن الخبراء قد تجاوزوا صلاحياتهم فى ترسيم الجهتين الشرقية والغربية لإبيى، وإنهم تجازوا صلاحياتهم أيضا جزئيا هذه المرة فى تحديد الحدود الشمالية، كما وضع الحكم حدودا جديدة أدت إلى منح الشمال مساحة تتراوح بين عشرة آلاف واثنى عشر ألف كيلومتر مربع من إجمالى المساحة المتنازع عليها والتى تبلغ حوالى 16 ألف كيلومتر مربع، والأهم أن هذه الحدود جعلت أهم حقول نفط السودان، وهو حقل هجليج تابعا للشمال. كما أكد الحكم على الحقوق الثابتة فى الرعى والتنقل عبر المنطقة لكل من قبيلتى المسيرية والدينكا نقوك، حتى لو تحولت الحدود الإدارية لإبيى فيما بعد إلى حدود سيادية طبقا للقانون الدولى المعمول به فى مثل هذه الحالات. ومما لاشك فيه أن إعلان الطرفان قبولهما للحكم وإبلاغ الأممالمتحدة رسميا بانتهاء النزاع بينهما حول إبيى يعد انتصارا حقيقيا للسلام والاستقرار فى السودان، ويُرجح أيضا كفة الوحدة.. فمن الأفضل للجنوب أن يبقى فى الوحدة لكى يكون له نصيب من إيرادات النفط الذى أصبح معظمه الآن شماليا.