«الثورة هى علم تغيير المجتمعات جزئيا وكليا»... هكذا تقول بعض تعريفات علم الاجتماع السياسى، لكن ما لم تقله التعريفات إن الثورة المصرية هى ذلك الحدث الذى تتغير فيه مواقع النشطاء والسياسيين فى السجون فمن خارج إلى داخل ثم خارج مرة أخرى وهكذا دواليك، ثورة أشبه ب«المرجيحة». بدأت الحكاية مع الإرهاصات الأولى للثورة، حيث سارع النظام القديم إلى الزج بقيادات الإخوان فى السجن، ومعهم بعض النشطاء من الحركات الثورية مثل كفاية و6 أبريل، وبعد نجاح الثورة، تبدلت المواقع فأخذ رموز نظام مبارك مواقعهم فى سجون طرة وغيرها، فيما خرج الإخوان والإسلاميون، ومع تواصل تطورات الثورة أثناء حكم المجلس العسكرى بات النشطاء السياسيون ضيوفا دائمين على السجون أيضا، وبوصول الإخوان إلى الحكم بدأ رموز نظام مبارك فى حصد قرارات بإخلاء السبيل على ذمة قضايا، بينما وجهت تهم إهانة الرئيس لمعارضى حكم المعزول محمد مرسى، الذى حل بدوره مع جماعته سجينا بعد ثورة 30 يونيو». «الشروق» ترصد فى هذه السطور لعبة «الكراسى الموسيقية» التى شهدتها الثورة خلال السنوات الثلاث. الإخوان سنوات من الملاحقة الأمنية .. وسنة فى السلطة تنتهى ب«كراهية شعبية» مرسي وقيادات الجماعة يعودون مرة أخرى خلف القضبان «1» جماعة الإخوان أحد أبرز اللاعبين على المسرح السياسى المصرى فى العقود الماضية، وقد اشتدت الضربات الأمنية ضدها منذ عام 2005، الذى تمكنت فيه من اختراق البرلمان المسيطر عليه الحزب الوطنى الحاكم وقتها وحصلت على 88 نائبا موزعين على 20 محافظة، يمثلون خمس مقاعد البرلمان آنذاك. وخاضت الجماعة الانتخابات البرلمانية فى عام 2010، على الرغم من إعلان أغلب القوى الوطنية مقاطعة الانتخابات التى شابها تزوير فاضح قبل شهور قليلة من قيام الثورة مباشرة. ورفض الإخوان إعلان موقف واضح من دعوات الشباب للنزول يوم 25 يناير، ولم يستجب لهذه الدعوات سوى عدد قليل من شباب الجماعة. «2» مع اشتعال الأحداث فى 25 يناير ألقت الأجهزة الأمنية القبض على أغلب قيادات الصف الأول فى جماعة الإخوان، وعلى رأسهم الرئيس المعزول محمد مرسى، والدكتور سعد الكتاتنى، لينضما فى السجن إلى نائب المرشد العام خيرت الشاطر الذى كان محبوسا لاتهامه فى قضية «ميليشيات الأزهر». «3» فى اليوم التالى ل«جمعة الغضب» هرب 34 من قيادات الإخوان من سجن وادى النطرون وعلى رأسهم مرسى والكتاتنى، الذى ترأس وفد الجماعة المشارك فى اجتماع نائب الرئيس السابق عمر سليمان مع مجموعة من ممثلى شباب المتظاهرين فى ميدان التحرير، فى إطار ما عرف ب«الحوار الوطنى» الذى أجراه سليمان مع ممثلى الأحزاب السياسية ولجنة الحكماء، وذلك فى تحرك مخالف لموقف الإخوان السابق بأنه لا تفاوض مع الحكومة حتى رحيل حسنى مبارك. وبعد سقوط مبارك وخلال عهد المجلس العسكرى كانت قيادات الجماعة وأغلب قواعدها الشعبية خارج السجن، وشكلت حزبا سياسيا هو «الحرية والعدالة». «4» منذ وصول جماعة الإخوان إلى السلطة وبدأ رصيدها الشعبى فى النقصان، حتى وصل إلى مرحلة النزيف الحاد مع الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس السابق مرسى فى نوفمبر 2012 ثم أحداث الاتحادية، واصطدام الجماعة بالقضاء والإعلام. «5» مع تصاعد حدة الصراع والمواجهات التى دخلها الإخوان من الأطراف الأخرى فى البلد ظهرت حملة «تمرد» التى دعت لجمع توكيلات سحب الثقة من مرسى، وكانت الحملة بمثابة «مسمار فى نعش الإخوان» حيث انتهت بثورة 30 يونيو التى أسقطت الإخوان من الحكم وأعادت الجماعة إلى السجون مرة أخرى. العمل الإرهابى الذى تعرضت له مديرية أمن الدقهلية بمدينة المنصورة، زاد من الضغط الشعبى على الحكومة فأصدرت قرارها باعتبار الإخوان «جماعة إرهابية» طبقا لنص المادة 86 من قانون العقوبات ليساعد فى محاصرة الجماعة والتيارات والجماعات الدينية الأخرى، وتضييق الخناق على قيادات الجماعة وأملاكها ومؤسساتها. بذلك استقر قطار الإخوان المسلمين فى محطة جديدة داخل السجون، كأول منعطف نوعى فى مسيرة الجماعة التى نشأت فى العام 1928، ليصبح التحدى أمام الإخوان هو مواجهة الكراهية الشعبية وليست السياسية من جانب السلطة فقط. الوطنى 30 عاما من السيطرة .. وشهور مطاردة تنتهى بعودة أخرى للصدارة «1» نشأ الحزب الوطنى بقرار من الرئيس أنور السادات فى عام 1978 بعد حل الاتحاد الاشتراكى، وفى يوم 7 أغسطس 1978 اجتمعت الأمانة العامة للحزب وتم الاتفاق على تسميته ب«الحزب الوطنى الديمقراطى»، وترأسه السادات حتى اغتياله سنة 1981. وتولى مبارك رئاسة الحزب منذ 1981 حتى الثورة فى عام 2011. وتم تغيير اسم الحزب إلى «الوطنى الجديد»، بعد تولى طلعت السادات رئاسته فى 13 أبريل 2011، حتى تم حل الحزب نهائيا بقرار من المحكمة الإدارية فى 16 أبريل 2011. وقد أشعلت الجموع الغاضبة خلال الأيام الأولى للثورة النيران فى العديد من مقار الحزب، انتهاء بحريق المقر الرئيسى فى القاهرة مساء 28 يناير «جمعة الغضب» فكان بمثابة إعلان بسقوط الحزب «معنويا على الأقل»، وسط موجة ارتياح كبيرة بين قطاع كبير من أبناء الشعب. وبعد حرق المقر أُعلن رسميا إقالة الحكومة التى كانت تمثله، وتم تشكيل حكومة جديدة، ومنع كبار قياداته من السفر وتجمدت أرصدتهم فى البنوك لحين خضوعهم للمحاكمات. وفى يوم السبت 16 أبريل 2011 أصدرت محكمة القضاء الإدارى أعلى جهة قضائية بمجلس الدولة حكما بحل الحزب الوطنى الديمقراطى. «2» كانت «موقعة الجمل» أكبر القضايا التى ضمت رموزا من نظام مبارك، حيث كشفت التقارير الأولية للجنة تقصى الحقائق أن عبد الناصر الجابرى عضو مجلس الشعب السابق عن دائرة الهرم، ومساعده يوسف خطاب عضو مجلس الشورى عن الدائرة ذاتها، حرضا على قتل المتظاهرين فى يوم «موقعة الجمل» لإخراجهم من ميدان التحرير بالقوة. كما اتهم أيضا الأمين العام السابق للحزب الوطنى صفوت الشريف بالتحريض للهجوم على المتظاهرين. إلا أن دائرة الاتهام قد اتسعت وشملت العديد من رموز النظام السابق من وزراء وغيرهم مثل فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب الأسبق، وعائشة عبد الهادى، وزيرة القوى العاملة وقتها، وحسين مجاور رئيس اتحاد العمال الأسبق، ورجل الأعمال وعضو الهيئة العليا للحزب الوطنى المنحل إبراهيم كامل، حتى بعض من كانوا يعتبرون أنفسهم معارضة مثل مرتضى منصور، ورجب هلال حميدة. «3» بعد شهور من المحاكمات بدأت أحكام البراءات تنهال على رموز نظام مبارك، ففى 16 يناير 2013 وافقت نيابة الأموال العامة على طلب قدمته عائلة مبارك، للتسوية فى قضية «هدايا الأهرام»، ورد قيمة تلك الهدايا وفى الأسبوع الأول من شهر فبراير صدرت سلسلة من الأحكام القضائية التى أثارت العديد من الدهشة والتعجب، فقد تم الإفراج عن معظم رجال المخلوع بعد قبول تظلماتهم أو دفوعهم بالنقض من محكمتى الجنايات والنقض اللتين قضتا بإعادة محاكمتهم مرة أخرى. قضت المحكمة بإعادة محاكمة زكريا عزمى، مدير ديوان مبارك بعدما أدين بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة الكسب غير المشروع. أما صفوت الشريف، ضابط المخابرات العامة فى عهد عبدالناصر والرجل الذى استطاع أن يصعد سلم الحكم ويبقى فى سدته حتى سقوط مبارك، فقد قررت محكمة جنايات القاهرة إخلاء سبيله بضمان محل إقامته على ذمة القضية المتهم فيها بإهدار المال العام لصالح نجله أشرف، ولم تجد النيابة العامة أى تهم أخرى لهذا الرجل الذى أفسد الحياة السياسية فى مصر طيلة ما يزيد على أربعين عاما غير هذه التهمة التى خرج منها مثل «الشعرة من العجين». كما قضت محكمة النقض برئاسة المستشار حسين الجيزاوى، بإلغاء حكم محكمة جنايات الإسماعيلية الصادر بمعاقبة وزير الزراعة السابق أمين أباظة ورجل الأعمال عمرو منسى، بالسجن المشدد ثلاث سنوات، لاتهامهما بالاستيلاء على أراضى الدولة بسيناء. وقررت محكمة جنايات الجيزة إخلاء سبيل يوسف والى، وزير الزراعة الأسبق. وأودعت محكمة جنايات القاهرة برئاسة المستشار محمد عامر جادو، حيثيات حكمها فى قضيتى أرض الطيارين المتهم فيها أحمد شفيق وجمال وعلاء مبارك نجلا الرئيس الأسبق، وعدد من اللواءات بجمعية الطيارين. أما بالنسبة لبراءة الفريق أحمد شفيق، ونجلى مبارك، وباقى أعضاء الجمعية، وإن كانوا ظلوا بمجلس إدارتها فإن المحكمة قد ثبت لديها أن ما نسب إليهم لا يعدو أن يكون مخالفة إدارية، وأنه لا يوجد نص بقانون التعاون الاستهلاكى يلزم بتوحيد المساحات بين الأعضاء، كما أن حصول جمال وعلاء مبارك على قطعة أرض بزيادة فى مساحاتها على المساحة المسجلة فى العقد، وعدم تحصيل مقابل الزيادة لا يعدو أن يكون مخالفة مالية لا تشكل جريمة جنائية، فضلا على أن جمال وعلاء تنازلا عن قطعة الأرض منذ بداية سؤالهما بالتحقيقات، كما أنهما يداينان جمعية الطيارين الآن بمبلغ 30 ألف جنيه، «وهو المبلغ المسدد منهما مقابل تخصيص الأراضى لهما ولم يستردا المبلغ حتى الآن». ذلك بخلاف أحكام البراءات التى حصدها المتهمون فى قضايا قتل المتظاهرين، ومعظم المتهمين بالاستيلاء على المال العام، و«كأن نظام مبارك لم يرتكب جرما». وبعد 30 يونيو عاد الحزب الوطنى لصدارة المشهد السياسى مرة أخرى، بعدما ظل رموزه خلف القضبان ما بين عامى 2011 و2013 فى تجسيد غريب للعبة الكراسى الموسيقية بالسجون. كما عاد أعضاء لجنة السياسات بالحزب الوطنى المنحل، الذين كانوا مقربين من جمال مبارك إلى الظهور سياسيا مرة أخرى، وعلى رأسهم محمد كمال ومفيد شهاب وعلى الدين هلال وعبدالرحيم الغول وفتحى سرور وهانى سرور وغيرهم، وذلك بعد طول غياب واختفاء، مستغلين أحداث ما بعد 30 يونيو. النشطاء الجميع يتودد لهم .. وبعد الوصول إلى الكرسى يُدخلهم السجن علاء عبدالفتاح داخل القفص كانت حركات مثل «كفاية» و«شباب 6 إبريل» و«الجمعية الوطنية للتغيير» و«الحملة الشعبية لدعم البرادعى» من أبرز الأصوات التى تعارض نظام مبارك، فيما كان جهاز مباحث أمن الدولة يتعامل مع أعضائها منذ عام 2006 بالسحل والضرب فى المظاهرات أو القبض العشوائى أو تلفيق تهم تزج بهم فى السجون والمعتقلات لشهور، ومن بين هؤلاء نشطاء من أمثال علاء عبدالفتاح، وأحمد دومة، ومحمد عادل، وأحمد ماهر. ومع انطلاق ثورة يناير بات النشطاء هدفا ضمن مجموعة أهداف لجهاز أمن الدولة، الذى كان يرقص رقصته الأخيرة قبل سقوط حكم مبارك، وحاول التقاط بعضهم من الشوارع قبل أحداث جمعة الغضب فى 28 يناير 2011، إلا أن الحراك الشعبى وكرة الثلج التى تدحرجت دفعت بآلاف الشباب الثائر من غير المعروفين لدى أجهزة الأمن إلى الشارع لمواجهة الداخلية، حتى إسقاط مبارك وتولى المجلس العسكرى إدارة شئون البلاد. لم يدم شهر العسل طويلا بين المجلس العسكرى وبعض من تصدروا مشهد «ثورة الشباب»، فمن أحداث ماسبيرو حيث أصبح علاء عبد الفتاح متهما إلى اشتباكات مجلس الوزراء، إلى مواجهات محمد محمود التى أصيب فيها الكثيرون، وصولا إلى أحداث مجلس الوزراء التى اتهم فيها أحمد دومة، حيث اتسعت رقعة المتهمين والمصابين من شباب الثورة. وقبيل وصولهم إلى الحكم حاول الإخوان التودد إلى الثورة وشبابها، ونجحوا فى استمالة قطاع كبير من هؤلاء الشباب لحسم جولة الإعادة فى الانتخابات الرئاسية بترجيح كفة محمد مرسى على أحمد شفيق، لكن بعد نجاح مرسى فى يونيو 2012 بدأت فصول المواجهة. وبدأت المواجهة باستدعاء قضية حرق المقر الانتخابى لأحمد شفيق، المتهم فيها علاء عبدالفتاح واخته منى، على الرغم من تنازل الرجل وتصالحه ورقيا، كما تقدم محامٍ إخوانى ببلاغ ضد الناشط أحمد دومة يتهمه فيه بإهانة الرئيس مرسى، وسرعان ما تطور الموقف إلى حكم بسجن دومة. نجحت ثورة 30 يونيو فى الإطاحة بحكم الإخوان الذين عادوا للسجون بتهم «الإرهاب»، ومع بدء عودة النظام القديم فى تصدر المشهد ظهرت «تسريبات النشطاء» مع اتهامات لشباب الثورة ب«الخيانة والعمالة»، وعاد علاء عبدالفتاح وأحمد دومة وأحمد ماهر ومحمد عادل إلى السجن بتهمة خرق قانون التظاهر والاعتداء على قوات محكمة عابدين.