بين الحين والآخر يلوح ضوء فى الأفق يذكرنا بأن جنس الرجال المحترمين لم ينقرض بعد فى مصر. كان ذلك هو انطباعى بعدما قرأت الحوار الذى نشرته «الشروق» فى 6/7 الحالى مع المستشار عادل زكى أندراوس رئيس محكمة استئناف القاهرة، والرئيس السابق للجنة العليا للانتخابات. فى ذلك الحوار تحدث الرجل فى أمور عدة كان من بينها ما يلى : أنه باعتباره عضوا فى مجلس القضاء الأعلى التقى الرئيس مبارك عدة مرات مع غيره من أعضاء المجلس، وفى تلك اللقاءات كان الحديث يدور حول الأوضاع السياسية والاقتصادية العامة. ورغم أن الظروف المالية للقضاة ليست مريحة عموما، إلا أن الموضوع لم يثر فى أى لقاء مع الرئيس. لأنه من العيب أن يطلب القاضى زيادة راتبه من رئيس السلطة التنفيذية. أنه حين كان رئيسا للجنة العليا للانتخابات طلبت منه مباحث أمن الدولة شطب أسماء بعض المرشحين الذين ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك فعل بعض المرشحين المنافسين. وقد حققت اللجنة فى هذه الطلبات ثم تجاهلتها بعدما تبين أنها غير جدية. أن اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات اعتبرت أن شعار «الإسلام هو الحل» الذى اعتاد مرشحو الإخوان على رفعه يتوافق مع الدستور. ذلك أنه يتضمن نصا صريحا يقرر أن دين الدولة هو الإسلام وأن شريعته هى المصدر الأساسى لقوانينها. فضلا عن ذلك فإن تطبيق مبادئ الشريعة لا ىشكل أى إضرار بالمجتمع. أن الشعارات الدينية المحظورة قانونا هى التى تطلب من الناخبين التصويت لصالح مرشح معين تبعا لديانته، مسلما كان أو مسيحيا، إذ إن تلك هى الحالة التى يتعين فيها على السلطة أن تتدخل لإزالة الشعار (وهو ما لم يحدث على أرض الواقع لأن أجهزة الأمن قامت برفع وتمزيق لافتات «الإسلام هو الحل» التى رفعها مرشحو الإخوان). يخرج المرء من قراءة الحوار بأفضل مما دخل فيه. إذ يدرك أنه بإزاء قاض نزيه، يعتز بمهنته ويحترم نفسه ويحترم القانون والدستور، ويحترم المجتمع الذى ينتمى إليه. لا أعرف الرجل واستحى أن أقول إننى لم أسمع به من قبل، لأنه كما ذكر فى الحوار ظل حريصا على أن يعيش بكبريائه فى محرابه، بعيدا عن الأضواء والإعلام. ولا أخفى أن كلامه فاجأنى، من حيث إنه يتحدث بلغة لم تعد مألوفة فى زماننا، الذى تحولت فيه النخب إلى أذرع لأجهزة الأمن، وإلى معسكرات مشتبكة. وأحيانا ميليشيات متصارعة. لأسباب سياسية أو دينية أو مذهبية. لم أستغرب أن تطلب منه أجهزة الأمن شطب بعض مرشحى الإخوان لانتخابات ملجس الشورى، فذلك موقف تقليدى عادى من تطبيقات شعار «الشرطة فى خدمة الشعب». إنما الذى استغربت له هو قدرته أن يرفض الاستجابة للطلب لأننا اعتدنا على أن تعامل طلبات الأمن باعتبارها «أوامر». استغربت أيضا حديثه عن شعار «الإسلام هو الحل» واعتبار الدعوة إليه أمرا يتوافق مع الدستور. ليس فقط لأن استهجان ذلك الشعار وتسفيهه موقف تقليدى للإعلام والسياسة فى مصر، ولكن أيضا لأن الرجل ليس مسلما، ولم أنتبه إلى أنه قبطى إلا حين قرأت اسمه. ذلك أن لغته التى استخدمها فى هذا الشق لم تعد مألوفة بين النخبة القبطية، التى شاعت الحساسية بين أفرادها، حتى العقلاء منهم الذين أصبحوا يتكلمون لغة مسكونة بالتوتر والاحتقان. ذكرنى المستشار عادل أندراوس بجيل الرجال المحترمين بين المثقفين المصريين، وبين الأقباط بوجه أخص، الذين كان منهم بين القانونيين الدكاترة سليمان مرقس وشفيق شحاتة ووليم سليمان قلادة. ولست أشك فى أن جنس المحترمين من الرجال والنساء لم ينقرض تماما، رغم أن النماذج الطافية على سطح المجتمع المصرى توحى بغير ذلك. لكن المشكلة فيما يبدو أن المناخ العام يجذب الأخيرين وحدهم ويسلط عليهم الأضواء. وحالة المستشار عادل أندراوس دالة على ذلك. إذ لم نسمع له صوتا ولم نر له صورة، إلا حين أحيل إلى التقاعد، وبعدما اطمأنت السلطة إلى أنه خرج من منصبه ولن يعود إليه.