قبل نحو 50 عاما، كتب الدوق أوتو هابسبورج، آخر المطالبين بعرش النمسا والمجر، محذرا من أن التعاون الاقتصادى وحده لن يرضى شعوب أوروبا، وأن الوحدة الأوروبية لا يمكن أن تنجح ما لم يتم غمسها فى مبدأ مجرد. كما كتب أنه لن يمنح الناس الأمل سوى ما يشبه الفكر الصوفى، أو الإمبراطورية الرومانية المقدسة، بمعنى التجديد الدينى ومكافحة الآثار الضارة لتركيز الاهتمام على الشأن وكراهية الأجانب والشوفينية والعنصرية. ●●●
وتوضح الأزمة الأوروبية الحالية، أن المؤسسات السياسية الكبرى لا يمكن تشكيلها بصورة منفردة على أساس منطقى، أو عبر البيروقراطية وتسلسل الوظائف فى مقر الاتحاد الأوروبى فى بروكسل. ويعتبر تحقيق السلام والرخاء والمساواة بين مختلف الأقاليم والجماعات، الغرض الحقيقى من إنشاء الاتحاد الأوروبى. وقد ساد السلام معظم أنحاء القارة، ولكن فى السنوات القليلة الماضية، مع تراجع الازدهار، استمر التفاوت الإقليمى ليصبح أكثر وضوحا، بينما أطلت القومية المتطرفة برأسها القبيح.
وقدمت الإمبراطوريات التاريخية سواء كانت الوحدة المسيحية العالمية أو الجمود العقائدى الماركسى اللينينى فى الاتحاد السوفييتى النماذج التى كان الناس قادرين على الإيمان بها، بغض النظر عن مدى قصور الحاكم، ومدى فساد المؤسسات الإمبراطورية. ومن المرجح أن يدوم النظام ما دام الناس يؤمنون بالمبادئ.
وتمتلك أوروبا اليوم مؤسسات مثالية، مثل برنامج إيراسموس، الذى يتيح تبادل الطلاب، ومعهد الجامعة الأوروبية فى فلورنسا، وبرنامج جان مونيه للعلماء البارزين، وبرنامج ليوناردو دا فينشى للتعليم المهنى. ولكن من الواضح أنها لا تكفى للتغلب على التوترات الإقليمية، والانقسامات المريرة بين الشمال والجنوب، واللامبالاة العامة تجاه المشروع الأوروبى.
●●●
عندما انهارت روما فى القرن الخامس، وغرقت أوروبا فى حرب أهلية، تركزت الآمال على الطرفين اللذين من شأنهما إعادة السلام الرومانى؛ أحدهما كنيسة الروم الكاثوليك بطقوسها اللاتينية، والآخر شارلمان أمير الفرنجة، الذى كان قد توج نفسه إمبراطورا عام 800. وشملت مملكته معظم ما يعرف اليوم بالاتحاد الأوروبى. ولم يكن شارلمان يتمتع بجنسية، فلم يحدث التمييز الرسمى لأول مرة بين المتحدثين بالألمانية والناطقين بالفرنسية، أو اللاتينى، إلا فى زمن أحفاده.
وشهدت محاولة جديدة لتحقيق وحدة المسيحيين، سميت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، المشاركة والتنافس مع البابوية فى وقت واحد. ودفعت أعظم أميرين فى أوروبا إلى أن يحارب كل منهما الآخر ويدعمه أيضا.. ويمكن للدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى استخلاص العبرة من هنرى الرابع، الملك الذى طرده الألمان وصار فيما بعد الإمبراطور الرومانى المقدس: ففى 1077 ظل واقفا لمدة ثلاثة أيام تحت أسوار كانوسا حافى القدمين، جائعا، مرتديا قميصا من الشعر يلتمس العفو من البابا جريجورى السابع.
ولكن، أين اليوم، الكهنة والملوك العظام الذين خلقت اشتباكاتهم الدامية وتحدياتهم الروحية أساس التجارب الدستورية الأوروبية وألهمت الأوروبيين الاعتناء بها؟ وبمجرد أن مارس المدرسون والطلاب الناطقين باللاتينية حرية الانتقال فيما بين الجامعات كما يفعلون اليوم، نشأت صداقة بين معهد إيراسموس فى روتردام والسير توماس مور، وكامل المؤسسة الفكرية الأوروبية. وجاءت الصدمة القاتلة للثقافة اللاتينية الأوروبية المشتركة، عندما ارتقت حركة الاصلاح باللهجات العامية إلى مستوى الأدب، وهكذا خلقت أسس قومية علمانية وثقافية. كما أدت إلى نشوب حروب رهيبة. أما الإمبراطوريات اللاحقة؛ مثل إمبراطورية نابليون، وألمانيا فى عصر ويلهيلم، وروسيا القيصرية، فكانت تخدم أساسا مصالح الأسر الحاكمة أو المصالح القومية.
وبحلول عام 1900، لم يتبق سوى اثنتين من الإمبراطوريات متعددة الجنسيات الحقيقية. الأولى هى الإمبراطورية العثمانية، التى كانت فى ذلك الوقت تتخلى عن التسامح الدينى التقليدى لصالح القومية، بل والعنصرية التركية. وكانت الثانية إمبراطورية النمسا والمجر، موطن إحدى عشرة جماعة وطنية كبرى: تشبه النعيم مقارنة بما ستكون عليه بعد ذلك. وكان لجيشها إحدى عشرة لغة رسمية، ويضطر الضباط إلى إلقاء الخطب بأربع لغات منها.
ولم يكن ذلك الأمر فعالا للغاية، لكنه ضمن درجة مذهلة من الولاء. كما حقق أيضا تقدما اقتصاديا وثقافيا سريعا فى منطقة تمتد من الحدود السويسرية إلى ما يمثل اليوم غرب أوكرانيا. وخلال الحرب العالمية الأولى، بلغ قوام جيش النمسا والمجر ثمانية ملايين جندى، بقيادة نحو 25 ألف ضابط من اليهود وغيرهم. وبعد ثلاثين عاما، أرسلت الدول القومية، التى خلفت الإمبراطورية، معظم الضباط اليهود الباقين على قيد الحياة إلى غرف الغاز.
●●●
والمشكلة أن الاتحاد الأوروبى قائم حاليا من أجل النخب: الساسة، ورجال الأعمال، والمهنيين، والأكاديميين، والطلاب المتفوقين الذين يمكنهم عبور الحدود بسهولة. فهو لا يمثل، بعد، أوروبا ذات الغالبية الشاسعة ممن يعانون من مشكلات مع اللغات، ويعتبر إيجاد عمل لهم فى الخارج أمرا صعبا للغاية.
ونظرا لموت اللغة اللاتينية، سوف يتعين اختيار لغة وسيطة إن عاجلا أو آجلا. واليوم، يكلف برج بابل فى بروكسل ما يزيد على مليار يورو سنويا، مع قيام المترجمين المحترفين من لغات متعددة، بترجمة وثائق وخطب إلى 23 لغة رسمية، من الإستونية إلى المالطية ومن الأيرلندية إلى السلوفينية.
وعلى الأوروبيين أن يقرروا ما إذا كانوا راضين عن السوق المشتركة والعملة الموحدة، أو ما إذا كانوا يريدون أن يكون لديهم مؤسسات سياسية وقانونية وثقافية مشتركة. وهم بحاجة إلى متحف ومعرض أوروبيين كبيرين، وموسيقى أوروبية أكثر ومهرجانات سينمائية، ونشر مفهوم الوحدة الأوروبية فى الثقافة الشعبية بهدف التخلص من الاستهانة بالمشروع الأوروبى.
ثم، ربما يتفهم الأوروبيون أيضا أنه على الرغم من الصعوبات التى تواجههم، فهم مازالوا ضمن أغنى الشعوب وأكثرها حظوة فى العالم. بل إنهم ربما يقررون أن باستطاعتهم تحمل أعباء عدد قليل من الأطفال.
وربما يكون خلق بنية امبراطورية جديدة، تضم جميع الدول، والديانات، والأيديولوجيات غير الشمولية، البديل الوحيد لإحياء القبلية بكل تداعياتها المأساوية. وستكون المهمة المقدسة أمام القادة، إقناع بقية المجتمع بهذا الأمر، باعتباره هدفا ساميا، يكاد يكون دينيا: عقيدة أوروبية جديدة لا تنتمى لأى كنيسة.
كل الحقوق محفوظة لشركة النيويورك تايمز لمبيعات الخدمات الصحفية.