ضاق رضا بن صالحة ذرعا من انتظار أن تترجم الثورة التونسية إلى حياة أفضل في بلدته. فقد أمضى مع مجموعة من أصدقائه وجيرانه أسابيع معتصمين أمام محطة لمعالجة الغاز والنفط تابعة لأكبر شركة في تازركة من أجل الضغط على أصحابها لتوفير المزيد من الوظائف لسكان البلدة واستثمار مزيد من الأموال في المجتمع المحلي.
وكانوا يأملون بعد الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في يناير ببعض الارتياح من الفقر وعدم تكافؤ الفرص.
لكن هذا لم يحدث.. ويشتعل غضب الناس في تازركة الواقعة على بعد 90 كيلومترا جنوب شرقي العاصمة.
وقال بن صالحة "لا نطلب سوى حقوقنا" وكان يتحدث من أمام المحطة التي أوقف العمل فيها هو وعشرات آخرون في أواخر الشهر الماضي بمنعهم الشاحنات من مغادرة المحطة وهي تحمل أسطوانات غاز الطهي.
وتمثل تازركة تحذيرا للسلطات في تونس في مرحلة ما بعد الثورة مما قد يحدث للبلاد في حال لم تقترن الحريات الجديدة التي حققتها الثورة مع رفع مستويات معيشة الناس العاديين.. وبسرعة.
يقول دبلوماسي غربي في العاصمة تونس "لماذا يدعم السكان الديمقراطية ما لم يحصلوا على أي شيء..ما لم يحصلوا على عمل".
واندلعت الشرارة الأولى للثورة التونسية عندما أشعل بائع خضروات النار في نفسه احتجاجا على قمع السلطات لتتفجر احتجاجات ضخمة أجبرت بن علي على الهرب.
وألهم نجاح الثورة التونسية انتفاضات في مصر وليبيا واليمن وسوريا غيرت المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط.
والشهر الماضي حظيت الدولة الواقعة في شمال أفريقيا بإشادة جديدة باعتبارها منارة في المنطقة عندما أجرت أول انتخابات ديمقراطية في تاريخها وسلمت السلطة لحكومة إسلامية معتدلة.
لكن وراء تقدم تونس صوب الديمقراطية تكمن حقيقة مزعجة هي أنه بعد مرور عشرة أشهر على الثورة تدهورت مستويات معيشة المواطن التونسي العادي على نحو أكبر.
وتتفهم الحكومة الجديدة- التي تدرك أن الثورة تفجرت ضد ارتفاع البطالة والفقر كما تفجرت ضد القمع- الحاجة إلى رفع مستويات المعيشة. لكن التباطؤ الاقتصاد الحاد بعد رحيل بن علي يكبل يديها.
وألغى سائحون أجانب - هم أكبر مصدر للعائدات لتونس- حجوزات وجمد بعض المستثمرين الأجانب مشروعاتهم.
وتضرر النمو بشكل أكبر جراء الصراع في ليبيا أكبر شريك تجاري لتونس في المنطقة.
وتشير التوقعات إلى تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي من ثلاثة في المئة في العام الأخير من حكم بن علي إلى نحو 0.2 بالمئة هذا العام بالرغم من أن مسؤولين يتوقعون ارتفاع النمو إلى 4.5 بالمئة في 2012.
ووفقا لتوقعات البنك المركزي سيرتفع معدل البطالة الذي بلغ 13 بالمئة في نهاية 2010 إلى 14.5 بالمئة هذا العام. ومعدل البطالة بين الشباب أعلى كثيرا.
وحذر محافظ البنك المركزي التونسي مصطفى كامل النابلي من عواقب الفشل الاقتصادي.
وكتب في تقريره السنوي أن العملية الديمقراطية التي يتطلع إليها التونسيون لن تنجح الا اذا كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية مواتية. وتازركة واحدة من حكايات الآمال المحطمة والفقر المدقع.
وتقع البلدة على مسافة قصيرة بالسيارة من الحمامات ذلك المنتجع الفاخر الذي يقيم فيه السياح الألمان والفرنسيون في شواطئ خاصة تحيط بها شجيرات البوجنفيلية المورقة.
وقبل الثورة كان ابن شقيق بن علي يمتلك فيلا هناك بها حوض للسباحة وحديقة تزينها أحجار الكوارتز.
وفي الطريق الى تازركة يتوارى هذا المشهد. فالقرى المتناثرة على الطريق ما هي الى مجموعة متداعية من الأكواخ البدائية تتناثر أكوام القمامة فيما بينها.
وخارج البلدة ينحني مزارع عجوز وزوجته في حقل يزرعان الجزر. وهناك عدد قليل من السيارات. ويستخدم الشبان الدراجات في تنقلاتهم بينما يستعين المزارعون بعربات تجرها الخيول لنقل منتجاتهم.
ومنذ ثلاث سنوات شيدت المحطة بجوار البحر. وهي مملوكة لشركة ايني النفطية الايطالية والمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية المملوكة للدولة وتعالج المحطة إنتاج النفط والغاز من حقلي بركة ومعمورة الواقعين في البحر المتوسط. وساور الأمل السكان في تازركة في أن تجلب لهم المحطة الوظائف والمال.
لكن سرعان ما أصابتهم خيبة الأمل. وأبلغ أشخاص شاركوا في الاعتصام رويترز أن 20 فقط من أبناء المنطقة يعملون في المحطة في وظائف لا تتطلب مهارات مثل حراس الأمن.
وكان هناك حديث عن أن الشركة المالكة للمحطة تسهم في تحسين البنية التحتية بالبلدة مثل شق طرق جديدة وهو ما أكد المحتجون انه لم يحدث على الإطلاق.
لم يثر أهالي البلدة المساءلة فالوقت لم يكن مناسبا. فقد كانت الدولة البوليسية التي يحكمها بن علي تطارد أي منشق وفي كل الأحوال كان الناس يتوقعون أن تتجاهلهم السلطات.
لكن الثورة غيرت كل هذا.
تغير رئيس البلدية ومع تجدد الأمل في مساندة السلطات الجديدة لهم حاول سكان تازركة مرة أخرى أن يحصلوا على ما يعتبرونه حقهم.
فوضعوا قائمة بمطالبهم لتسليمها إلى المحطة هي تقديم منحة قدرها ثلاثة مليارات دينار تونسي (مليونا دولار) سنويا إلى مكتب رئيس البلدية وتعيين 100 ألف من سكان البلدة وتقديم 120 ألف دولار للجمعيات الشبابية المحلية و2000 دولار لكل عائلة من العائلات الفقيرة في البلدة وعددها ثلاثة آلاف.
وحاول رئيس البلدية الجديد التدخل. وعقدت اجتماعات واجتمع مسؤولو مكتب المحافظ بل ومسؤولون من الشرطة والجيش مع المحتجين.
ولكن عندما لم يظهر المال قرر السكان أن يتخذوا موقفا متشددا. فأقاموا المتاريس أمام كافة مداخل المحطة لتعطيل العمل ونظموا نوبات حراسة على مدار الساعة.
وانتهى الحصار في وقت سابق من الشهر الحالي بعد أن أجرت الحكومة محادثات مع ممثلين لشركة ايني والمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية.
وقالت وزارة الصناعة في بيان أن حلول النزاع لا تزال قيد البحث. وليس في وسع سكان البلدة سوى الانتظار على الأقل في الوقت الحالي.
وقال عبد اللطيف الاسعد (23 عاما) الذي غادر تازركة بحثا عن عمل في باريس وعاد في عطلة "ليس هناك سوى شيء واحد في هذه البلدة..هذه (المحطة).
"هناك الكثير من العاطلين في تازركة. هناك فقط مكتب البريد ومركز الشرطة.. وهذا كل شيء".
وقال مسؤول تنفيذي لايني في تونس انه غير مخول بالحديث عن النزاع. ولم يرد مقر الشركة في ايطاليا على طلب من أجل الحصول على التعقيب.
ويمكن أن تنطبق قصة تازركة على أي واحدة من مئات البلدات التونسية التي تشبهها.
وحصلت الحكومة المؤقتة على حزمة مساعدات كبيرة من الاتحاد الأوروبي ومجموعة الثماني بغية درء أزمة اقتصادية وشيكة. وشجع الائتلاف الذي يقوده الإسلاميون الذي سيتولى السلطة قريبا المستثمرين بتعهده بانتهاج سياسيات ليبرالية صديقة للسوق.
لكن من المستبعد أن تتمكن الحكومة من تحسين الأمور بسرعة كافية لتفادي الاحتجاجات لاسيما في المحافظات الفقيرة البعيدة عن المراكز السياحية الساحلية.
ومن المرجح أن تستأنف النقابات العمالية التي كانت إحدى القوى الرئيسية المحركة للثورة الإضرابات والاعتصامات التي علقتها قبل انتخابات الجمعية التأسيسية. ومن الممكن أيضا أن يقوم الشبان العاطلون بأعمال شغب كما فعلوا عدة مرات هذا العام.
وقال جان بابتيست جالوبين من مؤسسة كونترول ريسكس الاستشارية "تسببت احتجاجات جمعت بين شبان محرومين... ونشطاء (النقابات) في إسقاط حكومتين بالفعل منذ الإطاحة ببن علي.