يحاول الناقد الدكتور محمد فكري الجزار في كتابه "البلاغة والسرد..نحو نظرية سردية عربية" استعادة دور البلاغة في الحقل الذي طال غيابها عنه وهو حقل النظرية الأدبية الحديثة وتحديدا في مجال النظرية السردية . ويرى أن هذه المحاولة لم تبدأ من فراغ ولا تعسفت العلاقة بين بلاغتنا العربية والنظرية السردية، مشيرا إلى أن البلاغة العربية تنزع ككل إلى التجريد ومن ثم التعميم وبالتالي فإن مقولاتها الكبرى قادرة على أن تنطبق على أي نص لغوي أكان قرآنيا أم إنسانيا شعريا كان أم سرديا وهذه النتيجة المنطقية كانت الحافز الأساسي في عملية تحويل المقولات البلاغية الكبرى إلى أسس لنظرية سردية عربية.
ويقول المؤلف في مقدمة الكتاب، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، "إن هذا الكتاب يقوم علي محورين الأول :قراءة منجزنا العربي بحثا عما يخص السرد إن نصا أو تأويلا بالمفهوم الأصولي لكل من النص والتأويل والمحور الثاني :نقد النظرية الغربية عن السرد سواء فيما لم يستقم منهجا له أو ما فرضته أيديولوجيا الغرب عليه ومن هنا كان مبدأ هذا الكتاب هو قراءة الخطاب العربي عن منطوقة المباشر أو الغير مباشر عن السرد بدءا من مهاده التراثي ووصولا إلى النسق التواصلي (مرسل - مرسلة -مرسل إليه ).
ويذكر المؤلف في بداية الكتاب أنه قبل الدخول إلي نظرية عربية للسرد لا بد من وجود إطار عام لها هو نظرية الأدب العامة فهل توجد هذه النظرية عربيا ؟ .. ويجيب المؤلف قائلا : أزعم وجود هذه النظرية لكنها متناثرة وموزعة علي صفحات تراثنا العربي الإسلامي وعلي مساحتها كلها وإن كان للبلاغة النصيب الأكبر بما أن موضوعها الأداء الجميل وأهمية البلاغة العربية لها أكثر من سبب منها :أنها الخطاب الوحيد والأكثر اكتمالا ووضوحا من سواه وان موضوعها هو ما نطلق عليه اليوم الأدب وإنها خطاب جمالي موضوعه التحليل .
ويقول المؤلف إن البلاغة العربية لم تركن في نشأتها إلي جنس أدبي بعينه وفي الوقت نفسه لم يكن لها أن تهمل تلك الأجناس ولا القرآن الكريم وهي تصوغ خطابها لذا كان هذا الموقع العبقري الذي شغله الشاهد البلاغي سواء قرآنيا أو أدبيا بل كان تسميته شاهدا بما يشير إلى استقلال المقولة البلاغية عن الأداء من ناحية واتصالها به من ناحية أخرى وهذا ما يجعل أن هناك قابلية استنباط بلاغات أجناسية قارة في الخطاب البلاغي العربي وخصوصا بلاغة القص.
ثم يتناول المؤلف البلاغة الغربية فيرصد أن هناك ثمة إشكالية تخص النظرية السردية الغربية فيما يخص موقع البلاغة الغربية منها فمن المعروف أن البلاغة اليونانية قامت باعتبارها مقابلا للشعر نظرا لقيامها بوظيفة نقيضه للتخييل في الشعر ولم يجد ما ذكره "بارت" من تحول البلاغة الغربية بعد اليونان من تقابلها مع الشعر لتصبح بلاغة عامة تضم جميع الأجناس عبر فعل الكتابة، فمع التطور الحديث بعد "دي سوسير" مباشرة أعلنت وفاة البلاغة اليونانية والوسيطة علي السوء لتحل الأسلوبيات محلها وترث وظيفتها.
أما البلاغة العربية فكانت علي العكس إذ نشأت استجابة لإحساس بجماليات اللغة والتي تجلت أرقي صورها في إعجاز القرآن الكريم وفي السبيل إلي عقلنه هذا الإحساس تطورت مترافقة مع الذوق الأدبي إلي أن بلغت ما بلغته من اكتمال مقولات ومصطلحات ومفاهيم علي يد "السكاكي " فالبلاغة العربية لم تنشأ حول الشعر فقد انفردت بدراسة هذا الجنس كتب النقد والطبقات والموازنات كما إنها لم تنشأ حول النثر فقد لهذا الجنس كذلك كتبه فهي بذلك تؤسس علما مفرطا في عمومية مقولاته.
ويشير المؤلف إلي النقد التي تعرضت له البلاغة العربية فيقول "ربما لم يتعرض منجز عربي لسهام النقد المغرض وغير المغرض كما تعرضت البلاغة العربية أما النقد غير المغرض فإنما هو وجهة نظر تستحق الوقوف عند مضمونها وامتحان ما صدقاته أما النقد المغرض فإنه يعرف ما يقول ؟ ولماذا يقول ؟ فهو ينطلق من وعي شديد الصواب بما لم يلتفت إليه المدافعون عن البلاغة العربية والذين غالبا ما دخلوا في مجادلات علمية تفصيلية من داخل الخطاب البلاغي دونما دخول موضوعي إلي أيديولوجيا ذلك النقد المغرض.
ويوضح المؤلف أن ذلك النقد قد أفلح بنوعيه في تحقيق غاياته المسكوت عنها أفلح في أن ظل الخطاب البلاغي علي حاله قائما في خطابه لا يكاد يتجاوز قرون نشأته ونضجه من القرن الثالث حيث كتاب "البيان والتبيين" إلي القرن السابع كتاب "مفتاح العلوم " للسكاكي وظللنا فيه كما ظل فيه أهل القرون الأربعة الأولي فقد كان هؤلاء مشغولين بإنتاج هذا الخطاب وتلقيه لا بالتفكير فيه .
ثم يتناول المؤلف السرد فيعرفه أنه جنس أدبي ولكنه ليس كبقية الأجناس فجمالياته في تقنياته بينما لغته لغة الناس إذا حكوا إلي الحد الذي لا تعاب بنزولها في سلم الفصاحة وقد تنقد أشد الانتقاد لو أنها أوغلت صعودا في هذا السلم اللهم إلا إذا كانت من الإعجاز إلي حد الجمع بين الإبانة والدرجات العلى من اللغة كما هو الحال في لغة القصص القرآني وكون لغة السرد كذلك يجعلها مفتوحة علي كل ألوان الخطابات انفتاحها علي كافة أصناف الموضوعات حتي ليبدو التناص وكأنه حتمية سردية.
ويختم المؤلف الكتاب فيقول " إن ما سبق يؤكد علي صحة زعمنا أن البلاغة العربية علي الرغم من اكتمالها خطابا وتصورات ومصطلحات وفق المطلوبات القديمة منها لم تزل بعد قارورة ممكنات وخطاب وعود سواء على مستوي نظرية الأدب أو نظرية النقد الأدبي فقط هي بحاجة إلي قراءة توليدية تحويلية إذا صح الوصف تبتكر قوانين الانتقال من المكون الأساسي (المقولة البلاغية ) إلي خطاب النظرية.