لطالما راودني حلم مثل الكثير من أبناء وطني بالتغيير الذي يضع مصر في مكانتها اللائقة. كنت أثناء دراستي في أمريكا للحصول على درجة الدكتوراة أشعر بالفخر والزهو عندما أرى في عيون من يعرف أنني مصرية استحضاراً لمصر الفرعونية العظيمة التي شهدت مهد الحضارة، غير أنني كنت أشعر بالشجن الشديد لما آل إليه حال مصرنا الحديثة. منذ أن بدأت رحلة التدريس الجامعي في إحدى الجامعات المصرية وأنا أحاول أن أبث في نفوس الطلبة أن التغيير الحقيقي لن يحدث فقط بتغيير شخص أو نظام بل أنه يبدأ بكل فرد منا، بالخروج عن ثقافة القطيع إلى أُفق رحب من الإبداع والاختلاف الإيجابي. وعلى الرغم من أنني كنت أشعر بالأسى لافتقاد بعض شبابنا الطلبة روح الحماسة والطاقة التي تتغير بها الأوطان، فقد وجدت في العديد منهم ضوءاً شارداً يشع نور وطاقة وسط ظلام من السلبية والنمطية. اشتركت مع هؤلاء الشباب في أنشطة جامعية فجرت طاقات أقنعتني بأن مستقبل مصر سيضئ قريباً وأن التغيير الحقيقي سوف يحدث تدريجياً على يد شبابها. ولكنني لم أكن أحلم يوماً بثورة عارمة تجتاح مصر وتُحدث في لحظات تغييراً لم نكن نتوقعه في سنوات. نظرت إلى هذه الثورة بمشاعر متداخلة. تحمست كثيراً لمطالب الثورة وأسفت كثيراً ككل المصريين للشهداء الذين راحوا ضحية جهاز أمني عقيم يتعامل بعقلية القرون الوسطى، ولكن سيطرت علي قناعة بأن التوازن والعقلانية يجب أن تحكمنا حتى لا تتحول فورة الغضب إلى فوضى. ارتبت كما ارتاب غيري في أن تكون هذه الثورة التي بدأت بلا أي أيدولوجية سياسية أو دينية قد اُخترقت من قبل جماعات دينية تحاول أن تستغل الموقف. بادرت بالتوجه إلى ميدان التحرير لكي أكون رؤية مباشرة غير متأثرة بشتى الرؤى الإعلامية المتحيزة لموقف أو لشخص أو لفكرة. رأيت في ميدان التحرير كثيراً مما أسعدني وأنار بصيرتي. رأيت مزيجاً رائعاً يمثل مصر بكل أطيافها الدينية والطبقية والعمرية. رأيت تسامحاً دينياً وتنوعاً كنا نفتقده، رأيت المتظاهرين يهتفون باسم محمد وحنا، رأيت المنقبات إلى جانب غير المحجبات يتحدثن بحميمية ويعملن معاً على تأمين مداخل الميدان، وأنا التي كنت أرقب في قاعات الدراسة المنقبات يجلسن في جماعة والمسيحيات في جماعة وهكذا، وكأن كل جماعة تشكل كياناً مستقلاً لا يقبل الاندماج مع الآخر. لم أرى رجلاً ملتحياً ينظر إلى فتاة غير محجبة بنظرة إزدراء واتهام كما شاع في الشارع المصري قبيل هذا الحدث. رأيت شباباً وشابات يقوموا بتنظيف الميدان بلا كلل على مدى ساعات متواصلة ليلاً ونهاراً. رأيت آماناً لم أشهده في مصر من قبل. رأيت فتيات يسرن في الرابعة صباحاً دون أن يضايقهن أحد. رأيت كمَّاً رائعاً ومدهشاً من الإبداع فجرته هذه الثورة. تصميمات فنية ورسومات كاريكاتيرية وأغاني جماعية حولت الميدان إلى كرنفال للحرية. رأيت حباً للوطن يطغى على كل شئ. اجتذبتني مجموعة من الشباب تغني على العود، وعندما رأت هذه المجموعة شابين يقفان بجوارها على وشك الاختلاف والعراك بادرت فوراً برفع صوتها بغناء نشيد "بلادي بلادي" حتى لا يعلو صوت فوق صوت الوطن، ومن المفارقات أن تنجح هذه الحيلة في فض النزاع. رأيت تكافلاً اجتماعياً جديراً بأن يُحتذى به في كل مكان وزمان. رأيت شباباً يجول المكان يسأل الموجودين إذا ما كانوا يحتاجون إلى أي شئ. رأيت روح الفكاهة المصرية والرغبة في استمرار الحياة في عيون بائعي البطاطا والسوداني الذين أوجدت لهم جموع المتظاهرين في الميدان فرصة لكسب الرزق. ضحكت كثيراً وأنا أرى في ميدان التحرير صورة حية لحبيبتنا مصر، بلد المتناقضات، بلد النكتة وخفة الدم حتى في أحلك الظروف. رأيت إيجابيات كثيرة ترسم صورة مصغرة للمجتمع المصري وتثير روح التفاؤل بما هو آت. ولكنني رأيت أيضاً بعض السلبيات أتوجه بها إلى شباب الثورة عسى أن نتفاداها لكي تكتمل الصورة المضيئة التي نريدها ليس فقط لميدان التحرير ولكن لمصر التي ننشدها جميعاً. - رأيت متظاهرين يسيطر عليهم منطق "نحن وفقط". أثناء جولتي بالميدان مررت على مجموعة من الشباب فإذا بأحدهم يصيح في وجه أحد زملائه قائلاً: "من يأت إلى هنا عليه ألا يُعبر إلا عن مطالب الثورة – انتهى النقاش"، وصدَّق على كلامه معظم الشباب الواقفين. يا شباب الثورة، معكم كل الحق في التمسك بموقفكم. رأيتم من الدماء والشهداء ما يعطيكم شرعية المطالبة بحقوقكم. ولكن هذا لا يعني إقصاء الآخر تماماً. كنا نعاني مسبقاً من الوصف الأمني لكل من يخالف النظام بأنه عدو الوطن، وهآنتم على وشك وصف كل من يخالف رأيكم بأنه عدو للثورة. إذاً ما الجديد؟؟ سندور في دائرة مفرغة من دكتاتورية الرأي التي خرجتم أنتم لتقويضها. إن فيلسوف الحرية جون ستيوارت مل يقول: "لو اجتمع البشر جميعًا على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد، لما كان لهم أن يسكتوه، وبنفس القدر الذي لا يجوز لهذا الفرد إسكاتهم لو كانت له القوة والسلطة". هذا هو جوهر الحرية والديمقراطية و الكرامة التي تنادون بها. - رأيت بعض الأطفال يحثهم الكبار على الهتاف ضد النظام وضد الرئيس مبارك بكلمات بذيئة. من الرائع أن نُعلم أطفالنا الحرية والثورية والمطالبة بحقوقهم، ولكن يجب أيضاً أن يتعلم أطفالنا الرقي والتحضر عند المطالبة بحقوقهم إذا كنا حقاً نريد بناء مصر جديدة تسابق دول العالم. - روعني كم السجائر المشتعلة في ميدان التحرير. لم يخل شبر في الميدان من رائحة السجائر الخانقة. أقولها ثانية: إذا كنا نريد حقاً بناء مصر جديدة تستعيد عظمة الماضي فعلينا كما نكافح الفساد والاستبداد أن نكافح أيضاً كل السلبيات التي نقع فيها جميعاً والتي تسئ لنا ولمصر ولصورة مصر في الداخل والخارج. تجربتي في ميدان التحرير رسخت قناعتي بأن روح العزيمة والحماس والإصرار التي تسيطر على ميدان التحرير قادرة على أن تنقل مصر نقلة نوعية وحضارية يبتغيها كل عاشق لهذا الوطن. ولكن علينا أن نستثمر هذه الروح التي أوجدتها الثورة استثماراً إيجابياً للعمل على إحداث حالة تغيير جذرية وشاملة لا تقف فقط عند تغيير شخص أو نظام بل تتعدى ذلك إلى تغيير ذواتنا إلى الأفضل، وإلا فلن تتغير مصر كثيراً. أدعو الله أن ندرك جميعاً في الميدان وفي كل مكان في ربوع وطننا دورنا في هذه المرحلة حتى لا يأت يوم نتغنى فيه بكلمات الرائع صلاح جاهين: "نوح راح لحاله والطوفان استمر مركبنا تايهه لسه مش لاقيه بر آه م الطوفان وآهين يا بر الأمان إزاي تبان والدنيا غرقانه شر عجبي!"