يعتقد يوسف بطرس غالى أنه يدير ثانى «أخطر» وزارة فى الحكومة بعد وزارة الدفاع. هو قبطى ينتمى إلى عائلة لها باع وتاريخ فى العمل السياسى المصرى منذ بدايات القرن الماضى. لكن غالى الحفيد هو أول وزير يتولى حقيبة وزارية غير تلك التى عهد بها تقليديا إلى الأقباط منذ قيام ثورة يوليو. وقائمة الوزارات السيادية التى جرى العرف ألا تعهد إلى أقباط كانت تضم الدفاع والداخلية والخارجية والاقتصاد. فلم يحدث فى التاريخ المصرى أن تولى قبطى وزارتى الداخلية أو الدفاع وإن ظلت هناك دائما احتمالات لوزارات مثل الخارجية أو حتى رئاسة الوزراء. فقبل الثورة كان يتولى وزارتى المالية والخارجية قبطيان، هما واصف بطرس ومكرم عبيد. لكن فى عهد السادات مثلا كان بطرس غالى قريبا من حقيبة الخارجية، لكن الرئيس اكتفى به وزير دولة يتعاقب عليه الوزراء. تجاوز غالى الصغير وزارتى البيئة والهجرة وإن بدأ «وزير دولة للتعاون الدولى»، وزارات ثلاث انحصر فيها ترشيح الأقباط مع تعاقب الحكومات. الدين ليس عقبة «أنا أول وزير قبطى كامل مش وزير دولة»، يقول يوسف غالى بفخر وهو يستعرض ما يقرب من ربع قرن قضاها فى اروقة الحكومة. انتقل من وزير دولة لشئون الاقتصاد إلى وزير اقتصاد ثم إلى وزير تجارة خارجية إلى أن استقر على قمة وزارة المالية فى حكومة أحمد نظيف منذ عام 2004. لا ينكر يوسف غالى أنه استثناء. «أنا لست مؤشرا. لكنى مؤشر انه عندما توجد الكفاءة فالدين ليس عقبة أمام المنصب»، يقول ردا على الحائط «الوهمى» فى رأى الدولة والذى يمنع تولى الأقباط بعض المناصب المؤثرة. غالى الوزير القبطى لا يعترف بهذا الحائط، لكنه يعترف أيضا بوجوده أمام «ناس كتير أوى»، لكنه يرجعها إلى قرارات ومبادرات «فردية». فرئيس الجمهورية فى رأيه «لا يرى هذه الفروقات» بين مسلم ومسيحى، «ولا تعنيه الديانة عند الاختيار». لكن الممارسة تشير إلى صورة تبدو عكسية. وبعيدا عن الحقائب الوزارية لا يوجد من بين الأقباط رئيس جامعة أو رئيس مجلس شعب أو شورى أو وكيل لأحد المجلسين أو رئيس مجلس ادارة بنك. القائمة بها منير فخرى عبدالنور، قبطى على الطرف الآخر فى صفوف المعارضة، ويشغل منصب سكرتير عام حزب بنى شعبيته وشرعيته على اساس انه حزب الأمة: مسلمين وأقباط. مثله مثل الوزير، يبدو عبدالنور أيضا حالة خاصة، «لا أعرف إذا كنت استثناء، لكن قطعا أنا لست القاعدة»، هكذا يقول. رجل حزب الوفد يعتقد انه لا ينظر اليه داخل الحزب أو خارجه على أساس أنه قبطى ربما لأسباب مختلفة لها علاقة كما يقول «بانتمائى لأسرة كانت طول عمرها منفتحة ولخطابى المتوازن والوطنى». أما من ينظر إليهم على أنهم أقباط «فيشعرون بالغربة، نتيجة للثقافة السائدة والتعليم والإعلام». هى فكرة عزوف الأقباط عن المشاركة السياسية، «ينزوون ولا يشاركون وبالتالى لا يتقلدون المناصب»، يقول عبدالنور ويصيغها وزير المالية بعبارة أكثر وضوحا «يجب أن تحارب وتصارع، لو قعدت نايم فى الركن ينسوك». قائمة الكنيسة يتحدث وزير سابق عن «القاعدة غير المكتوبة» لتولى الأقباط المناصب العليا، ويعتقد أن الاختيار يكون فى البداية «لاستكمال الشكل»، والبقاء لمن ينجح. «يوسف غالى كان كده فى البداية اختاروه علشان الصورة واستمر وتم تصعيده بسبب الكفاءة». وفى القاعدة بنود أخرى «أن يكون مواليا للنظام بقدر الإمكان، تكنوقراط حقيقى». وهكذا يعتقد الباحث سامح فوزى أن «من لديهم القدرة على الاشتباك وقدرة على تقديم تحليلات وآراء مختلفة غير موجودين». أما علاقة «المرشح للمنصب» مع الكنيسة فهى «إضافة تحسب له لكن ليست شرطا». يوسف بطرس غالى، لم يرشحه أحد من الكنيسة. وعلاقته توطدت بالبابا عندما أصبح له نفوذ وسلطان. والوزير نجح فى تلك المعادلة الصعبة، فهو حريص جدا ألا يكون محسوبا على الكنيسة لكنه احتفظ معها بشعرة معاوية. «مكرم عبيد وويصا واصف ومن بعدهم ميلاد حنا ويونان لبيب رزق وفيليب جلاب وموسى صبرى وليلا تكلا ومنى مكرم عبيد وجمال أسعد، كان ينظر إليهم أنهم خارج الكنيسة أو أن البابا غير راض عنهم لأنهم يعملون بالسياسة أو يطرحون أفكارا مختلفة»، كما يشرح استاذ مقارنة الأديان إكرام لمعى الدور الذى تلعبه الكنيسة فى اختيار الأقباط للمناصب القيادية. وفى المقابل «الأسماء التى ترسلها الكنيسة باهتة، اشخاص يخضعون لها ويرجعوا لها كل شوية». فلم يعد خافيا مثلا أن الكنيسة ترسل للحزب الحاكم قائمة بأسماء لمرشحين تود أن يضمهم على قوائمه فى الانتخابات، أحيانا يؤخذ بها أو ببعضها وأحيانا يتجاوزها النظام. لمعى يعود إلى تاريخ ليس ببعيد ويتوقف عند ثورة يوليو باعتبارها نقطة فارقة فى تلك العلاقة. «بعد أن ألغيت الأحزاب بدأ النظام يختار مسيحيين لا يشتم منهم رائحة معارضة أو لا يحلمون بالمنصب وليسوا كوادر سياسية. وفى هذا الظرف ظهرت مجموعة مثقفة فى الكنيسة كانت تصطدم مع الأنبا كيرلوس وتأخذ عليه انه غير متعلم. دخل الجامعيون الدير لأنهم رأوا أن الكوادر السياسية لا تمثل الكنيسة. مثل الأنبا شنودة وبيشوى وصموئيل وموسى». والنتيجة ظهور قيادة ثقافية سياسية كنسية، هذه هى المعادلة. أصوات الأقباط نضبت مصر من السياسيين الأقباط المحترفين مع نضوب الأحزاب وفشلها فى تربية كوادر وبدأت الكنيسة تمثل الأقباط وتتحدث عن المطالب السياسية لهم وظهر البابا بصفته كادرا سياسيا مهما جدا. «البابا شنودة أراد أن يوحد بين الكنيسة والسياسى العلمانى، فأصبح قائدا كنسيا وفى نفس الوقت مثقفا وشاعرا وسياسيا»، رغم نفى الكنيسة دائما أى علاقة بالسياسة أو باحترافها. «فحسب اللاهوت الكنسى لا خلط للسياسة بالدين»، يضيف إكرام لمعى، وهذا ما شجع القاعدة الشعبية من الأقباط على العزوف عن المشاركة السياسية، «وتكون غالبا غير مرتاحة لمن يشارك بالسياسة فى إطار الرؤية للعالم الانتهازى. هذا هو الاتجاه العام لدى المسيحيين فى مصر خاصة أن الحركة الرهبانية عالية جدا». فى نهاية نوفمبر من العام الماضى خاض وزير المالية يوسف غالى انتخابات مجلس الشعب مرة أخرى فى دائرة المعهد الفنى بشبرا. حى به تكتل مسيحى ويمثل فيه الأقباط أكثر من 40% من الكتلة التصويتية. لكن عدد من انتخب ذهب لانتخاب الوزير القبطى لم يتجاوز ربع الأصوات التى سمحت له بالحفاظ على مقعده. أول مرة طرأت فكرة خوض انتخابات الشعب على بال منير فخرى عبدالنور كانت قبل 15 عاما. ذهب إلى حى الوايلى الذى ترشح عنه لاحقا وجلس على مقهى شعبى مع مجموعة صغيرة يتحسس وقع الفكرة عليهم. «مستحيل» هكذا قال له بتلقائية شديدة أحد الأقباط فسأله الرجل لماذا؟، فرد عليه «لأنك قبطى». «الفكرة بالنسبة له كانت ثورية، بسبب غياب سنوات طويلة عن المشاركة». نجح غالى وخرج منير خالى الوفاض، فى استحقاق أثار الكثير من الجدل وخرج منه الأقباط بثلاث مقاعد فقط تحت قبة البرلمان، بالرغم من إقبالهم النسبى هذه المرة على الترشيح. ما يقرب من 140 مسيحيا خاضوا الانتخابات معظمهم خارج قوائم الأحزاب الرسمية رغم دفع الأخيرة بأعداد أكبر من أية مرة. حزب الوفد كان له النصيب الأكبر بتقديم 14 مرشحا تلاه الحزب الوطنى بعشرة مرشحين والتجمع بتسعة. لكن النسبة الأقل ظلت عند الحزب الحاكم الذى رشح على قوائمه ما يقرب من 890 مرشحا، ورغم طرح الوطنى لوثيقة عن «المواطنة» منذ سنوات. «نعم كنا نريد مرشحين أقباطًا، لكن أيضا كنا نريد مرشحين ينجحون وعندهم شعبية وللأسف هم غير منخرطين فى السياسة»، يدافع غالى عن حزبه. ولترضية خاطر الأقباط ربما قرر رئيس الجمهورية وفق صلاحياته تعيين 7 أقباط بمجلس الشعب لتصل نسبتهم إلى أقل من 2%. أحزاب بلا أقباط فى أوراق السياسات التى يطرحها الحزب الحاكم لا حديث عن تمكين الأقباط أو عن توسيع مشاركتهم السياسية وإنما يطرح القضية ضمن ورقة «المواطنة» وهى ترتكز بشكل أساسى على «الحقوق الأساسية المنصوص عليها فى الدستور والقوانين»، مثل الحق فى الرعاية الصحية والتعليم والمساواة وفى حرية العقيدة والعبادة والعمل والتنقل. الأرقام الخجولة للأقباط فى البرلمان أو الحكومات لا تختلف كثيرا فى صفوف قيادات الأحزاب. ففى حزب الأغلبية الذى يضم فى عضويته أكثر من مليونى مصرى. لا وجود لقبطى واحد ضمن هيئة المكتب بأعضائها الستة، ولا وجود لهم على رأس أية أمانة من 15 أمانة نوعية للحزب الوطنى. ولا تضم هيئة مكتب أمانة السياسات التى يرأسها جمال مبارك سوى قبطى واحد هو يوسف غالى. ويشارك مع اثنين آخرين فى عضوية الأمانة العامة. أما منير فخرى عبدالنور فلا يزامله فى الهيئة العليا للوفد سوى قبطيين من إجمالى 50 عضوا. السياسة أم البيزنس؟ «الأحزاب ليست منعزلة عن المناخ العام وتترجم الواقع»، يدافع الرجل. والواقع يقول إن هناك فرزا دينيا وأن الأقباط اكتفوا فى هذه اللحظة بالمنافسة الاقتصادية. سيكولوجية الأقليات إذن «السياسة بها مغامرة والأقليات لا تغامر وهى تبحث عن الأمان. السياسة صراع غير متكافئ والأقليات تبحث عن الصراع المتكافئ»، يعتقد لمعى. عندما أختير بطرس غالى لرئاسة الحكومة قبل قرن من الزمان تفاقم الوضع بين المسلمين والأقباط، كما يقول مصطفى الفقى فى كتابه «الأقباط فى السياسة المصرية»، «بعد وفاة مصطفى كامل فقدت الحركة الوطنية حيويتها وكانت أيضا سنوات العلاقات الحساسة بين المسلمين والأقباط وأقدم إبراهيم الوردانى على اغتيال غالى». فهل يحلم الحفيد بمنصب رئيس الوزراء أم توقف عند درجة وزير، فالدرجة الأعلى لا يمكن تجاوزها لأنه قبطى؟ يتحايل يوسف بطرس على الإجابة لا ينفى ولا يؤكد رغبته فى المنصب لكنه يقول «أحلم ببلد مش منصب. أحلم أترك أثر فى التاريخ مثل أجدادى أيا كان المنصب». يضيف الفقى فى كتابه الذى يعرض لحالة مكرم عبيد باعتباره نموذجا للحركة الوطنية إن «وجود قبطى على مستوى القمة فى زعامة الوفد كان رمزا له معناه ومغزاه». فهل يصل عبدالنور إلى المنصب أم أن الرئاسة لم تسع إليه ولم يسع هو اليها باعتبار الأمر محسوما سلفا فى ظل تديين للمناخ العام؟ يقول الرجل بإجابة لا تقل دبلوماسية، «بمنتهى الأمانة لو سعيت لرئاسة الوفد لا اعتقد انها عملية مستحيلة لكنها ليست فى طموحاتى ولا أهدافى. كيف أجلس فى كرسى سعد زغول ومصطفى النحاس؟. المنصب كبير أوى على