فى ثانى أيام الشهر الفضيل، وبعد إقامة صلاة العشاء مباشرة، فوجئ الإمام والمصلون فى مسجد السلطان حسن بانقطاع التيار الكهربائى، وبمجرد أن سلم الإمام حتى أخذت مصابيح المسجد تنير واحدا تلو الآخر، لتعاود إضاءة كل أرجائه، وليعلو صوت الإمام مرة أخرى فى «الميكروفون» ليقيم صلاة التراويح. لم تسلم المساجد الكبرى فى القاهرة من انقطاع التيار والتى دخلت فى إطار سياسة تخفيف الأحمال التى تقوم على توفير الطاقة الكهربائية، على الرغم من أن تلك المساجد تعمل بطاقة كابلات كهرباء منفصلة عن الكابلات الرئيسية فى الأحياء والمناطق المختلفة، لضمان عدم تأثرها بأى مشكلات قد تصيبها. ربما لم يزعج انقطاع الكهرباء المصلين الذين أدوا صلاتهم فى خشوع ولكنه أزعج زوارا آخرين لهم مقاصد أخرى، فالمسجد الأثرى البديع الذى يمثل قمة نضوج العمارة المملوكية فى مصر، يتسم بكبر واتساع مساحته التى جعلت منه ملاذا للهدوء والراحة النفسية فتقصده أسر تحضر أطفالها ليقضوا وقتهم فى ساحاته، بالإضافة لكونه مزارا سياحيا مهما يقصده العديد من السياح من مختلف الدول. فى باقى شهور السنة ينتهى الوقت المخصص لزيارات السياح بعد صلاة العصر مباشرة، ولكن فى شهر رمضان تمتد ساعات الزيارة إلى العاشرة مساء بعد انتهاء صلاة التراويح، لذا يكثر وجود السياح فيه فى أوقات الصلاة، باعتبارها الأوقات المحددة التى يفتح فيها المسجد أبوابه لجميع الزوار من كل حدب وصوب. بمجرد صعود عتبات المسجد الأولى، وبعد تجاوز المكان المخصص لخلع الأحذية، توجد سلتان كبيرتان على قبة عالية، كتب على إحداهما «new» بمعنى جديد، وكتب على الأخرى «used» بمعنى مستعمل، الكتابة باللغة الإنجليزية لها مغزى واضح الدلالة، إذ إنها تخاطب الأجانب دون المصريين، وتحتوى هاتان السلتان على أوشحة وأغطية للرأس، جميعها مصبوغة باللون الأحمر المائل للقرمزى. توحيد اللون صبغ على زوار المسجد من الأجانب روح الألفة والاتحاد، وظهرت السيدات الأجنبيات وكأنهن ترتدين زيا موحدا لدخول المسجد. توحدهن أيضا مشاعر انبهار ورهبة مع أول خطوات دخولهن إلى ساحة المسجد. اللحظات الأولى التى تمر على زوار مسجد السلطان حسن يبدو أنها الأكثر روحانية على الإطلاق، فروعة وعظمة مبناه، تسرق الأنظار إلى أدق تفاصيله التى تتجاوز عمارة المساجد. «إنه ليس مسجدا بل هو مدرسة»، هكذا وصف د. محمود إبراهيم، أستاذ الآثار والحضارة، ورئيس مجلس إدارة متحف الفن الإسلامى، مسجد بن قلاوون المعروف ب«السلطان حسن»، متابعا: «مدرسة السلطان حسن أنشئت لضم المذاهب الإسلامية الأربعة الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية فى دار علم واحد، وهو عبارة عن أربعة إيوانات تتوسطها الساحة المكشوفة ذات القبة التى تحتوى على المحراب ودكة المبلغ المرتفعة قليلا عن باقى أرضيات المسجد، التى كانت تعتليها الفرق الموسيقية فى شهر رمضان لإنشاد التواشيح والمدائح النبوية، كما استخدمها حرس السلطان حسن فى توزيع الهدايا على عامة الشعب فى شهر رمضان والأعياد». يبدو أن هناك من يحاول أن يستمر فى تقليد مشابه، فمع انتهاء الركعة الرابعة من صلاة التراويح، وقبل أن يبدأ الإمام فى إلقاء خطبته القصيرة فى منتصف الركعات الثمانى وصلاتى الشفع والوتر، أخذت مى ورفيقاتها فى الطواف بين المصلين وتوزيع العصائر والمياه المثلجة والتمر. فبالاتفاق مع إدارة المسجد، تحضر مى وصديقاتها اللاتى تسكن بالقرب فى المسجد فى أحياء القلعة والسيدة عائشة، قبل أذان العشاء بنحو نصف ساعة، استعدادا لاستقبال ضيوف المسجد، ولإعداد صوانى الأكواب لتكون جاهزة لسكب العصير بها مباشرة. إعداد العصائر والمياه المثلجة الممزوجة بماء الورد فى المنزل يستغرق نحو ساعتين من العمل قبل أذان المغرب، بحسب مى، التى أضافت أنها بعد تناول الإفطار تبدأ فى تجميع الأدوات والذهاب بها إلى المسجد، وكذلك الحال مع باقى الفتيات. تلك الفكرة بدأتها أول مرة نعمة، صديقة مى، التى تسكن بجوار المسجد واعتادت هى وعدد قليل من رفيقاتها على خدمة ضيوفه منذ نحو أربعة أعوام، إلا أن العدد فى تزايد عاما بعد الآخر، حتى وصل هذا العام إلى ما يقرب من 20 فتاة، وبعد انتهاء صلاة التراويح، يحين موعد إغلاق المسجد، لذا تسارع الفتيات فى تجميع الأدوات وتخزينها فى غرفة من غرف المسجد لاستخدامها فى الأيام التالية، وذلك «بالطبع بالاتفاق مع إدارة المسجد»، بحسب مى. النشاط المنظم لمى ورفيقاتها يجاوره نشاط آخر أقل نظاما لمجموعات من الصغار التى وجدت مكانا للعب فى الساحة الدائرية حول النافورة التى تتوسط الإيوانات الأربعة. فى أروقة المسجد العديد من الأماكن الأخرى التى يتخللها الهواء البارد فيستمتع الصغار باللعب فيها بينما يصلى آباؤهم وأمهاتهم. الإمام أحمد محمود حماية، إمام وخطيب المسجد، يعتبر وجود الصغار فى المسجد أمرا لا ضرر منه، على الرغم من وجودهم بالقرب من ساحة الصلاة. فبحسبه لايزال الكثيرون من زواره يقصدونه بهدف الاستجمام والراحة النفسية فى ساحاته التى تتميز بالهدوء. إمام مسجد السلطان حسن وخطباؤه لهم مكانة خاصة، ويتم اختيارهم بعناية فائقة من قبل وزارة الأوقاف ومفتى الجمهورية، حيث يتم ترشيح مجموعة من الأسماء على وزارة الأوقاف والمفتى، ليتم اختيار إمام المسجد وخطيبه، بحسب الإمام حماية. قبل سنوات كان د. على جمعة هو خطيب الجمعة فى مسجد السلطان حسن قبل أن يتولى منصب مفتى الجمهورية وكان الكثير من الشباب وطلبة الأزهر يقصدون خطبته ودرسه القصير بعد صلاة الجمعة. ولايزال الكثيرون من الرواد الدائمين للمسجد يتذكرون حضوره المميز. أهل المنطقة القدامى لديهم ارتباطات أخرى بالمسجد. فيحكى المهندس أحمد فرج قائلا: «ما بين مسجدى الرفاعى وسلطان حسن قضينا أجمل السهرات الرمضانية منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما». يسترجع بعض التفاصيل مضيفا: «كان الإقبال على مسجد الرفاعى أكثر من السلطان حسن، نظرا لأن الثانى كان أقرب إلى كونه مزارا سياحيا يقصده السياح طوال العام، وكان أهلنا يرفضون اختلاطنا بهم، لذا كنا نصلى فى الرفاعى وبعدها نتوجه إلى ساحة السلطان حسن لمشاهدة السياح والتقاط الصور معهم». أما مدفع رمضان فكان بالقرب من المسجدين الرفاعى والسلطان حسن فى «آرميدان» أمام قلعة صلاح الدين، ويقول المهندس فرج: «كنا نصلى العصر فى الرفاعى وننطلق إلى ساحات السلطان حسن للعب الكرة والطاولة حتى يحين موعد أذان المغرب، نركض مباشرة فى اتجاه مدفع الإفطار الموضوع فى القلعة الآن، ثم نعاود النزول مرة أخرى مع صلاة العشاء لنقضى سهراتنا الرمضانية مع السياح فى ساحات السلطان حسن».