لاشك فى أن أهم مظهر لأزمة العالم العربى منذ عقود، هو «الحصر» السياسى الحائل دون الانخراط فى العصر وتشييد مجتمع متوازن، يعتمد الصراع الديمقراطى والتناوب على السلطة، واحترام حقوق المواطنة. إلا أن الكثير من المنتقدين المناهضين لما هو قائم، ينجرون نحو تعليل المشكلات والتعثرات بأسباب سياسية من دون تمييز بين الإشكاليات ومجالاتها الخصوصية التى لا يتوقف حلها بالضرورة على حل المعضلة السياسية. ومثل هذا «الإجماع» على تفسير الأزمة بإخفاق السياسة المطبَقة يكتسى طابع الاستسهال والاستعجال عند المعارضين وقلما ينفذ إلى لب المشكلة. وهو ما يضعنا أمام أزمة خطاب القوى اليسارية التى لم تتمكن بعد من إعادة النظر فى «السياسى» وعلائقه بمكونات المجتمع الأخرى، أى الدينى والثقافى والاقتصادى. أسوق هذه الملاحظة بعد مشاهدتى لفيلم يسرى نصرالله الأخير «احكى يا شهرزاد» أو «نساء القاهرة»، حسب العنوان الذى اختاره لتقديم الفيلم إلى الجمهور الأوروبى. الموضوع حساس ومطروح باستمرار على الساحة العربية لأنه يتصل بوضعية المرأة فى مجتمعاتنا الغارقة فى الذكورية وقيمها الماضوية الموروثة، على الرغم من وجود القوانين وجمعيات حقوق الإنسان. وقد كشف المخرج فضاءات القاهرة المتباينة، المتجاورة، كما أبان تناقضات السلوكات وزيف الخطاب السياسى الرسمى. لكننى أرى أن العودة إلى تناول هذا الموضوع المهم تقتضى أن يحمل الفيلم السينمائى عناصر جديدة، نوعية، تتعدى عرض وتشخيص علاقة المرأة بالرجل فى المجتمع المصرى. بعبارة ثانية، وجدت أن شكل الفيلم وكتابة السيناريو (تقديم أربع حالات من خلال برنامج تليفزيونى) تعبران عن رغبة المخرج فى الإيحاء برؤية جديدة تتيح إعادة التفكير فى هذه المعضلة المزمنة. فهل نجح فيلم «نساء القاهرة» فى تقديم رؤية مغايرة لمشكلة قديمة تتجدد على ضوء السياقات المتحولة؟ ينبنى الفيلم على أربع حالات لعلائق الرجل بالمرأة، تصلنا عبر محكيات متجاورة، والخيط الرابط بينها هو «هبة» مقدمة برنامج تليفزيونى ناجح، عنوانه «نهاية الليل، بداية الصباح». وتشتمل هذه الحالات على ما يلى: أ قصة سيدة تحولت، فى مسار حياتها، من امرأة متعلمة، عصرية، إلى امرأة مصابة بالعصاب تعيش فى ازدواجية وقلق، نتيجة تجربة زواج لم يتم لأن خطيبها اشترط عليها أن ترتدى الحجاب، وتلازم البيت، وتمتنع عن التدخين، ويصبح هو المتصرف باسمها. فسَخت الخطبة وأعرضت عن الرجال لتحافظ على بعض من حريتها! ب الحالة الثانية تقدم ثلاث أخوات عزاب، مات والدهن وترك دكانا لبيع الصباغة يشرف عليه شاب فى مقتبل العمر. اتفقت الأخوات على أن تتزوجه إحداهن للحفاظ على الدكان وتأمين مردوديته. لكن الشاب أدرك خطتهن فأخذ يتحايل على كل واحدة ليقضى وطره. عندئذ قررت الأخت الكبيرة أن تقتله وجاء الانتقام عنيفا مروعا. ج الحالة الثالثة تروى قصة دكتور درس وتخرج فى أمريكا، يستهويه ابتزاز بنات العائلات الغنية عن طريق مشاريع زواج يتخذها ذريعة لاتهام الزوجة بأنها ليست عذراء، ويساومها على مبلغ من المال لكتمان الفضيحة. ويقدم لنا الفيلم محاولة قام بها الدكتور المحتال مع طبيبة شابة أوقعها فى الفخ، لكنها لم تخضع لابتزازه وعملت على كشف سلوكه المغرض. د الحالة الرابعة نعاينها من خلال الحياة الخاصة لمقدمة البرنامج التليفزيونى، فهى متزوجة من صحفى طموح يتطلع إلى الظفر بمنصب رئيس تحرير جريدة الحزب الحاكم، إلا أن صراحة البرنامج الذى تقدمه زوجته تحرج الحكومة فيحاول هو أن يضغط عليها لتخفف من انتقاداتها، وهو ما تفعله أحيانا ومع ذلك لم ينل الزوج المنصبَ المشتهى، فظن أن فشله يعود إلى برنامج زوجته، فأقدم على إهانتها وضربها ! ما لم أستسغه فى الفيلم البارع فى السرد ولغة السينما، هو الإلحاح على أن مشكلات الحالات الأربع تعود فى نهاية التحليل إلى السياسة المتبعة والقائمة على الزبونية وحماية مصالح ذوى المال، ورهن الترقية فى الوظائف والمسئوليات بالولاء غير المشروط للحاكمين...أى أن النغمة الغالبة فى خطاب شخصيات الفيلم ترتكز على تفسير المشكلات الاجتماعية والسلوكية بالأزمة السياسية العامة. ولا شك أن لهذا التفسير نصيبا من الصحة، وهو ما يجعل السلطة تسمح بتمرير انتقادات موجهة ضدها فى وسائط الإعلام، لامتصاص جزء من غضب المواطنين، من ثم ضرورة أن يحرص الروائيون والكتاب والسينمائيون على تعميق خطابهم وطرحهم للقضايا من دون تنازل عن العناصر الفنية التى تمنح عملَهم القدرة على التأثير والجاذبية. وبالنسبة لإشكالية المرأة فى المجتمع المصرى التى يستوحيها فيلم نصرالله، نجد أن لها تجليات وجذورا تتعدى السياسة فى مظهرها الظرفى لتلامس مجالات أخرى تشمل الدين والتقاليد الموروثة، والقيم الثقافية.. ولم لا نقول إن علاقة الرجل بالمرأة هى المدخل الأساس لفهم الحضارة والتاريخ اللذين ينتمى إليهما المجتمع؟ أعرف أن مقتضيات التعبير السينمائى لا تسمح بتقديم الحلول، وأن الصورة تنوب عن الكثير من التحليلات؛ لكن ما أقصده هو ابتداع صوت، داخل الفيلم، يتعالى عن ظرفية الحالات المعروضة ليطرح تساؤلات أعمق تتصل بسبب استمرار الذكورية المتعجرفة، والعنف الهمجى فى ردود فعل الرجل والمرأة، ومعوقات المساواة بينهما؟ لِمَ لا يكون هذا الصوت الباعث على التفكير فى شمولية الإشكالية هو صوت «هبة» مقدمة البرنامج، من خلال تسجيل ملاحظات أم تأملات يتضمنها حوار داخلى؟ أخشى أن يخرج مشاهد «نساء القاهرة» بانطباع يوحى بأن الصراع بين الرجل والمرأة لا حل له، لأنه يدور حول حيازة سلطة القرار، ولأن سياسة الدولة لا تحرص على تطبيق القوانين المنظمة لهذه العلاقة. لأجل ذلك أعتقد أننا فى مرحلة تقتضى الخروج من أسلوب عرض وفضح مشكلاتنا المزمنة، والبدء بإلقاء ضوء مغاير وجرىء عند تحليل المعضلات الحساسة التى تكبل الفرد العربى وتمنعه من بلورة فعل اجتماعى وثقافى قادر على تغيير العشوائية السياسية التى تحتمى بها أجهزة الدولة التسلطية.