لا شك أن تولى السيدة ساناى تاكايتشى منصب رئيس الحكومة فى اليابان، أى رأس السلطة التنفيذية، فى هذا البلد المهم على خريطة العالم بشكل عام، والقارة الآسيوية على وجه الخصوص، والعضو فى مجموعة السبعة التى تمثل الدول الصناعية الكبرى فى عالم اليوم، فى نهايات شهر أكتوبر الماضى، هو حدث مهم وكبير، وله دلالات لا يجب أن نغفل عنها، مع ضرورة عدم المبالغة من جهة أو التقليل من جهة أخرى من شأن أهمية هذا الحدث الكبير سياسيًا واجتماعيًا وتاريخيًا. وعندما نتحدث عن ضرورة عدم التقليل من أهمية الحدث، فلأنها المرة الأولى فى تاريخ اليابان الذى تتولى فيه سيدة هذا المنصب الرفيع، وذلك بعد فترة وجيزة من فوزها فى انتخابات زعامة الحزب الليبرالى الديمقراطى، الشريك الأساسى فى الائتلاف الحاكم فى اليابان، وهو الحزب الذى حكم اليابان أو قاد حكوماتها لأغلب فترات الفترة المنقضية منذ انطلاق النظام السياسى الجديد فى اليابان عقب هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية والاحتلال الأمريكى لها ومن ثم وضع أسس نظام سياسى جديد يسير على النهج الليبرالى الديمقراطى الغربى وحدوث أول انتخابات نيابية على هذا الأساس بها فى 10 أبريل من عام 1946، ثم إعلان دستور جديد، كان واضحًا فيه التأثير الأمريكى الكبير، فى 3 مايو 1947. وجاء تولى السيدة ساناى تاكايتشى رئاسة الحكومة اليابانية لأول مرة فى التاريخ، بعد 65 عامًا من تولى المرأة لمنصب وزارى لأول مرة فى تاريخ اليابان، حيث شهد شهر يوليو من عام 1960 تولى السيدة ناكاياما ماسا منصب وزيرة الصحة والرفاه الاجتماعى، وهى أيضًا كانت تنتمى للحزب الليبرالى الديمقراطى. وفى فترة ما بين هذين التاريخين جرت فى النهر مياه كثيرة، كما كان يقول فلاسفة الإغريق، فيما يتعلق بتطور عملية التمكين للمرأة اليابانية، خاصة فى مجالات العمل السياسى، وصار عدد من النساء يتولين عدة مناصب وزارية فى الحكومة الواحدة، وتولت المرأة على سبيل المثال منصب وزير الدفاع، وهو بالطبع منصب وزارى سياسى منفصل عن القيادة العامة لقوات الدفاع الذاتى اليابانية (أى القوات المسلحة اليابانية التى أنشئت لأغراض دفاعية فقط فى عام 1954)، وهو المنصب الذى تولته السيدة يوريكو كويكى فى عام 2007. ولرئيسة الوزراء اليابانية الجديدة خلفية مهنية وسياسية ثرية ومتنوعة وعميقة، فهى بدأت حياتها المهنية والسياسية فى سن مبكرة كمساعدة لعضو الكونجرس الأمريكى عن الحزب الديمقراطى آنذاك السيدة بات شرودر، وذلك برعاية وتوصية من معهد ماتسوشيتا اليابانى للحوكمة والإدارة. وعملت فى بداية عودتها من الولاياتالمتحدةالأمريكية لليابان كمحللة برلمانية، إلا أنها سرعان ما اتجهت للعمل الإعلامى كمقدمة برامج وإعلامية محاورة فى شبكة تليفزيون «أساهى» ثم شبكة تليفزيون فوجى اليابانيتين الشهيرتين. إلا أن السيدة ساناى تاكايتشى سرعان ما دخلت معترك العمل السياسى من أوسع أبوابه فى اليابان آنذاك، وهو الترشح فى الانتخابات البرلمانية. وبالرغم من سقوطها فى انتخابات مجلس المستشارين (الغرفة الأعلى من البرلمان اليابانى) فى عام 1992 فإنها أثبتت قوة شخصية وقدرة على النهوض مجددًا وترشحت مجددًا كعضو فى مجلس النواب فى انتخابات عام 1993، وحققت النجاح هذه المرة. وفى الحالتين ترشحت كمرشح مستقل دون أى انتماء حزبى. وبالرغم من انضمامها إلى حزبين يابانيين صغيرين ما بين عامى 1994 و1996، فإنها فى نوفمبر من عام 1996 استجابت لدعوة أمين عام الحزب الليبرالى الديمقراطى للانضمام لصفوفه، وأصبحت جزءًا من فصيل «مورى» الشهير داخل الحزب. وإذا كانت السيدة ساناى تاكايتشى قد سقطت فى الانتخابات النيابية فى عام 2003، فإنها قد عادت إلى الفوز فى انتخابات 2005 النيابية. ومنذ عام 2006، أصبحت السيدة ساناى تاكايتشى من الساسة المحسوبين داخل الحزب الليبرالى الديمقراطى على رئيس الوزراء الراحل شينزو آبى، والذى تولى فى ذلك العام رئاسة الحكومة اليابانية خلفًا لرئيس الحكومة الأسطورى الذى قرر آنذاك اعتزال العمل السياسى جونيتشيرو كويزومى، وسواء خلال حكومة آبى الأولى بين 2006 و2007، أو حكوماته المتعاقبة ما بين عامى 2012 و2020، تولت السيدة ساناى تاكائيتشى عددًا من المناصب الوزارية، مثل وزارة الشباب والمرأة، ووزارة العلوم والتكنولوجيا، ووزارة الشئون الداخلية والاتصالات، وفى حكومتى «كيشيدا» و«إيشيبا» ما بين عامى 2022 و2025، شغلت منصب وزير الأمن الاقتصادى، بعد نجاحها فى إدارة مسألة توزيع الإمدادات خلال فترة الإغلاق إبان جائحة كوفيد-19، ثم عادت لتولى منصب وزيرة الشئون الداخلية والاتصالات. وقد ترشحت السيدة ساناى تاكايتشى ثلاث مرات لزعامة الحزب الليبرالى الديمقراطى، أعوام 2021 و2024 و2025، وخسرت فى المرتين الأوليتين ثم نجحت فى المرة الثالثة. ويعتبر تولى السيدة ساناى تاكايتشى منصب رئاسة الحكومة اليابانية إنجاز تاريخى للمرأة اليابانية، وله دلالات رمزية مهمة لا يمكن التقليل من أهميتها ووزنها وتأثيرها، ولكن بجانب ذلك الجزء من الصورة يتعين النظر إلى مواقفها تجاه عدد من الموضوعات ذات الطابع المدنى والسياسى التى تهم المرأة اليابانية على وجه الخصوص، سواء منها ما هو أيضًا يتسم بالرمزية، مثل معارضتها لتعديل الدستور اليابانى، بحيث يسمح للمرأة بتولى منصب الإمبراطور الذى هو حتى الآن مقصورًا فقط على الرجال أو معارضتها أيضًا للإقرار القانونى اليابانى بحق المرأة اليابانية فى الاحتفاظ باسم أسرتها الأصلية وعدم التضحية به وإجبارها على الحصول على اسم أسرة زوجها أو شريكها بدلًا من اسم أسرتها كما هو الحال حاليًا. ولكى نتفهم خلفية هذه الأفكار القانونية والسياسية يتعين ألا يجعلنا الاحتفاء برئيسة الوزراء اليابانية الجديدة وكونها أول امرأة تتولى هذا المنصب فى تاريخ اليابان نغفل عن حقيقة انتمائها الأيديولوجى والسياسى، فهى تقود الحزب الليبرالى الديمقراطى اليابانى صاحب التوجهات اليمينية الواضحة، وهى معروفة من قبل بمواقفها اليمينية المحافظة بصفة عامة وبما يشمل موضوعات حيوية ومحورية ومطروحة بشكل مستمر على الساحة السياسية اليابانية منذ سنوات بل وعقود. ومن ضمن هذه الموضوعات دعم رئيسة الحكومة الجديدة لمطلب الساسة اليمينيين فى اليابان بمراجعة المادة التاسعة من الدستور اليابانى والتى ترفض استخدام القوة المسلحة، بالإضافة إلى تبنيها سياسة واضحة مؤيدة لتايوان، وهو الأمر الذى يصعد من التوتر بين اليابانوالصين، وتسبب بالفعل فى أزمة أولى لحكومتها مع الصين، وذلك عندما تحدثت عن تدخل محتمل لبلادها فى حالة قيام الصين بالهجوم على تايوان، وهو ما عرضها لملاحظات ذات طابع تهديدى صدرت عن مصدر دبلوماسى صينى. ويرتبط بهذا الموقف إزاء الصين مواقفها إزاء مسألة «اعتذار اليابان» عما ارتكبته من جرائم فى الحرب العالمية الثانية، وهو ما جعلها تضغط على رئيس الوزراء الراحل آبى فى عام 2013 لسحب أو تعديل اعتذارين تقدم بهما رئيسا وزراء سابقان لليابان فى هذا الشأن، إلا أن آبى تحفظ على ذلك واكتفى بالإعلان فى عام 2015 بأن اليابان لن تقدم اعتذارات جديدة فى هذا السياق وهو الأمر الذى أثار ردود فعل غاضبة آنذاك من جانب الصين وكل من كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. كما يتصل بتلك المواقف أيضًا أنها زارت ثلاث مرات، وهى تتقلد مناصب وزارية ضريح ياسوكونى الشهير المعروف بأنه يضم رفات القادة العسكريين وكبار الضباط اليابانيين فى الحرب العالمية الثانية، والذين تنظر لهم بقية بلدان شرق وجنوب شرق آسيا باعتبارهم مجرمى حرب، وذلك فى أعوام 2007 و2014 و2020، وهو تقليد يقدم عليه الساسة اليابانيون أصحاب التوجهات القومية اليمينية. وعلى الصعيد الداخلى، فإن رئيسة الحكومة اليابانية الجديدة ستكون ملتزمة باتباع السياسات الاقتصادية لرئيس الوزراء الراحل «آبى»، بما فى ذلك ما يتعلق بالإنفاق الحكومى، وقد تم فض الائتلاف الحكومى بين الحزب الليبرالى الديمقراطى وحزب «نيو كوميتو» الدينى فى أكتوبر الماضى، بعد 26 عامًا من هذا الائتلاف، بسبب خلافات بين حزب نيو كوميتو وسياسات حكومة السيدة ساناى تاكايتشى الجديدة، وتحركت رئيسة الحكومة الجديدة سريعًا واتفقت مع حزب الابتكار اليابانى، صاحب التوجهات الشعبوية اليمينية، للانضمام للحكومة الائتلافية بديلًا عن حزب نيو كوميتو. وسوف تجيبنا الأيام المقبلة عن طبيعة سياسات رئيسة الوزراء اليابانية الجديدة الداخلية والخارجية وتوجهاتها، وتحديدًا إذا ما كانت ستلبى مطالب خاصة بالمرأة اليابانية طال زمن الدعوة لتحقيقها على صعيد التمكين المدنى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى لها، أم أن انتماءها الأيديولوجى والسياسى سيكون الغالب فى توجيه سياساتها بخصوص قضايا المرأة فى اليابان، كما بشأن القضايا الأخرى المطروحة.