ما أن تُذكر الأهرامات حتى يقفز إلى الذهن تساؤل محير، وهو كيف تم بناء مثل هذه الأبنية الضخمة؟! وبقدر ما يثير هذا التساؤل من حيرة الشخص العادى، فإنه يثير كذلك حيرة المهندسين وعلماء الآثار، إذ إن طريقة بناء الأهرامات المصرية تنطوى على كثير من المسائل الخلافية، ولا أحد يستطيع أن يزعم أنه توصل إلى معرفة طريقة بنائها بالتحديد، ووصلت درجة غموض بناء هذه الأهرامات إلى القول بأننا لو طلبنا من أعظم المهندسين المعماريين فى عصرنا الحالى أن يشيدوا هرمًا واحدًا، مثل أهرامات مصر القديمة فمن المرجح أنهم سوف يترددون ويحجمون عن ذلك، رغم ما يتيسر لهم من أدوات العلم الحديث بالإضافة إلى خبرة تجارب القرون السابقة كلها. لم تصل أهرامات الجيزة الثلاثة إلى الكمال المعمارى والإنشائى فجأة بل كانت هناك تجارب بدأت بالمصطبة ثم الهرم المدرج لزوسر فى سقارة ثم أهرامات دهشور وأبرزها هرم سنفرو إلى أن نصل إلى أعظم هرم الفرعون خوفو ويتراجع بنيان الأهرامات بعد ذلك فى عصر الدولة الوسطى، ويذكرنا تطور بنيان الأهرامات ومراحل نموه ثم تراجعه بأطوار الدول لدى ابن خلدون. ومن الأسباب التى أدت إلى جهلنا بطريقة بناء الأهرامات، أن الوثائق المصرية القديمة سواء النقوش الجدارية أو البردى التى عثر عليها، لا تذكر أى شىء عن طريقة بناء الأهرامات. إلا أننا لو أمعنا النظر وأعملنا العقل لاستطعنا أن نتوقع ما كانوا يفعلون لبناء هذه الأبنية الضخمة، وبمساعدة الدراسات الحديثة الدقيقة لطرق البناء، نرى أن تشييد مجموعة هرمية كان يمر بعدة مراحل متتابعة، وهى كما يلى: المرحلة الأولى: تقتصر هذه المرحلة على اختيار موقع الهرم المراد بناؤه، واختيار موقع الهرم لم يكن بالمسألة السهلة، حيث يجب مراعاة عدة اعتبارات فى المكان المختار فيفضل أن يكون على الضفة الغربية للنيل، حيث تغرب الشمس، وحيث توجد مملكة الموتى، كذلك يجب أن يكون هذا المكان مرتفعًا عن مستوى مياه النيل، وأن يكون قريب من الضفة الغربية للنيل، وذلك لأن الكثير من الأحجار كانت تأتى من المحاجر بالسفن، ولهذا يجب مراعاة سهولة نقلها بعد ذلك من على ظهر هذه السفن الراسية على ضفة النيل إلى موقع البناء، من الأمور المهمة كذلك فى اختيار مكان بناء هرم أن تخلو الأرض الصخرية من أى عيب أو احتمال للتصدع، وأن يكون مسطحًا يسهل البناء فوقه. وكذلك يجب أن يكون الموقع المختار ذا مساحة كبيرة حتى تستوعب الهرم والمبانى الملحقة به، وحتى يتسع كذلك لمقابر أفراد الأسرة المالكة ولأى توسعات لاحقة، ويعتقد البعض أنه يجب أن يكون الموقع قريب من القصر الملكى، حتى يتسنى للملك الإشراف على أعمال البناء. المرحلة الثانية: وفيها يتم تنظيف الموقع الذى تم اختياره، وذلك برفع كل الرمال والحصى حتى تظهر الأرضية الصخرى، بعد أن تسوى هى نفسها من النتوءات الصخرية الموجودة بها، ولم يكن من السهل تسوية سطح الموقع كله، ولذلك كان من الممكن أن يتركوا بعض النتوءات الصخرية لتصبح جزءًا من البناء نفسه. المرحلة الثالثة: وفيها يتم تحديد المربع الذى سيصبح قاعدة للهرم، ويجب مراعاة أن تكون الأضلاع الأربعة للمربع مواجهة للجهات الأربع الأصلية، ولإنجاز مثل هذا العمل كان عليهم أولًا تحديد اتجاه الشمال بدقة شديدة، وحتى يمكن ضبط اتجاهات الهرم الأربع، كان يشيد حائط دائرى فى وسط الموقع، وتسطح قمة الحائط بشكل مستوى، ما يصنع خط أفق صحيح، وذات مساء يقف راهب فى مركز هذه الدائرة قبل ظهور أول نجم فى الشرق، ويرسم خطًا مستقيمًا من هذه النقطة إلى مركز الدائرة، ثم يراقب الكاهن القوس الذى يرسمه هذا النجم فى حركته فى السماء، وفى اللحظة التى يختفى فيها النجم خلف الحائط فى الغرب، يحدد موقعه الجديد، ويرسم خطًا ثانيًا من هذه النقطة إلى مركز الدائرة، ومن حيث إن النجوم تبدو كأنها تدور حول القطب الشمالى، فإن الكهنة كانوا يعرفون أن خطًا ثالثًا يبدأ من مركز الدائرة ويقع على مسافة متساوية من الخطين السابقين سيحدد الشمال بدقة، ويقوم المتخصصون فى المساحة بعد ذلك بتحديد موقع مربع قاعدة الهرم بدقة، وأثناء ذلك تقدم القرابين للمعبودات، لكى تبارك بناء المجموعة الهرمية، ويجرى تحديد زوايا الهرم الأربع، وبانتهاء هذه العمل تنتهى المرحلة الثالثة، وهى آخر المراحل التمهيدية لبناء المجموعة الهرمية. المرحلة الرابعة: وهى أولى المراحل العملية لبناء الهرم، وفيها يجرى العمل لإنجاز الممر المؤدى إلى حجرة الدفن، وذلك بقطع الجزء الموجود تحت مستوى سطح الأرض من الهرم، حيث يقوم عدد من العمال بحفر ممر فى الصخر مستخدمين كرات من حجر الديوريت الصلب لكسر الصخر، ويتبعهم عمال مهرة يستخدمون الأزاميل لتسوية جدران هذا الممر الذى يهبط بانحدار خفيف، وعندما يصل هذا الممر إلى عمق معين يستمر أفقيًا، وفى نهايته يجرى قطع حجرة فى الصخر التى ستصبح حجرة الدفن، حيث يوضع فيها التابوت الذى سيحفظ جسد الفرعون، وكان العمل فى قطع هذه الحجرة يبدأ من أعلاها، وفيما بعد كانت تغطى بسقف من كتل الجرانيت الصلب، لكن كان من الضرورى وضع التابوت داخل حجرة الدفن قبل بناء سقفها، حيث إن التابوت كان أكبر من أن يمر فى ممر الدخول، وفى جدار هذا الممر كان يجرى إعداد تجويفات كبيرة لكى تستقبل أبواب سميكة ولاصقة من الجرانيت لكى تغلق حجرة الدفن إغلاقًا محكمًا بعد دفن الملك. وأثناء عمليات حفر الممر وحجرة الدفن، كانت هناك مجموعات متفرقة من العمال تقوم بأعمال أخرى مختلفة، فهناك مجموعة من الكتبة يعدون قائمة الأحجار اللازمة للعمل، محددين عددها والمقاس المطلوب لكل واحد منها، وترسل نسخ من هذه القائمة إلى المحاجر، ويصدر الأمر ببدء العمل. تنقل الأحجار من المحاجر المليئة بالعمال المستعدين لقطع كل ما يطلب منهم من أحجار أيًا كان نوعها، وإرسالها عبر النهر فى موسم الفيضان وذلك باستخدام السفن الكبيرة المعدة خصيصًا لمثل هذه الأعمال الشاقة، ثم بعد ذلك تخزن هذه الأحجار على الشاطئ فى أقرب مكان من موقع البناء، ثم يعهد بها بعد ذلك إلى فريق من العمال مهمتهم نقلها، فيقوم هؤلاء العمال بدحرجتها مستعينين بالحبال وبعروق خشبية كروافع حتى يصلوا بها إلى هذه الزلاقة التى تنزلق فوق مجموعة من الإسطوانات الخشبية المتراصة بشكل متوازى، ثم تشد هذه الزلاقة بواسطة مجموعة من الرجال الأقوياء حتى مكان البناء، وكان كل حجر يحمل علامة باسم الفريق المكلف بنقله، وعندما يصل إلى مكانه فى موقع البناء يشطب من القائمة وأثناء هذه الأعمال كانت تقدم القرابين، ويحرق البخور رغبة فى إرضاء المعبودات، عسى أن تكلل أعمالهم بالنجاح. المرحلة الخامسة: هنا تبدأ المرحلة الجديدة، وهى بناء الجزء العلوى من الهرم نفسه، وهنا كانت جوانب كل كتلة حجرية تسوى بالأزاميل، ويوضع على كل حجر رقم حسب الترتيب الذى سيوضع فيه فيما بعد، ذلك أن كل حجر يشد لكى ينزلق فوق عروق خشب أسطوانية حتى يصل إلى موقع البناء، وعلى قاعدة كل كتلة حجرية وعلى أطرافها كانت توضع طبقة خفيفة من الملاط، وبعد ذلك يسحب العمال العروق الإسطوانية ويدفعون الحجر لكى ينزلق فوق الملاط الرطب إلى مكانه بالضبط، ثم يوضع صف من الحجارة الجيرية المقطوعة والمشذبة بعناية حول المسطح الذى سيوضع فيه أساس الهرم، ويلى هذا وضع كتل الكسوة الخارجية للمدماك الأول فى مكانه، وكان العمل فى المدماك الأول سهلًا، ولكن بناء باقى المداميك والتى قد يصل عددها إلى 120 مدماكًا ليس بالأمر الهين، وهنا وقف المتخصصون فى علم الآثار وقفة الحائر المفكر فى كيفية بناء الأجزاء المرتفعة من الهرم. وقد أثبتت الاكتشافات الأثرية الحديثة أن طريقة البناء بالطرق الصاعدة، كانت مستخدمة بالفعل فى مصر القديمة، وأكد ذلك وجود مثال واضح تمامًا هو هرم الملك "سخم - خت" خليفة زوسر فى سقارة، حيث ثبت أن هذا الهرم بنى بواسطة الطرق الصاعدة، والتى ما زالت باقية حتى الآن، حيث أن العمل أوقف فى هذا الهرم قبل أن يتم نقل الأحجار. ولكن.. كيف كان بناة الأهرامات يرتبون وينظمون هذه الطرق الصاعدة؟ وهل كان هناك طريق صاعد واحد أم أكثر من طريق صاعد؟ وقد اجتهد كثير من المشتغلين بالآثار من أجل الإجابة عن هذه التساؤلات، وظهرت لذلك مجموعة آراء حول عدد وتنظيم هذه الطرق، ومنها رأى يقول إن المصريين القدماء كانوا يبنون جسرًا رئيسيًا واحدًا بعرض واجهة واحدة من الهرم، وهذا الجسر أو الطريق الصاعد كانوا ينقلون عليه الأحجار الثقيلة، أما الجوانب الثلاثة الأخرى فكانت لها جسور أكثر ضيقًا وانحدارًا، وكانت مخصصة لتنقل العمال والمؤن ومواد البناء الخفيفة. وهناك رأى آخر يرى أنه كانت هناك مجموعة كبيرة من الطرق الصاعدة، قد تصل إلى 16 طريقًا أو 4 طرق على كل واجهة من واجهات الهرم الأربع. ورأى ثالث، يرى أصحابه أنه كان هناك طريق واحد صاعد، يبدأ عند إحدى زوايا الهرم، ثم يأخذ بالدوران حول واجهات الهرم الأربع، ومع كل دورة يرتفع إلى مستوى جديد فى البناء. المرحلة السادسة: وهى آخر مراحل بناء الهرم، وفيها تتم إزالة الطرق الصاعدة التى استخدمت فى نقل الأحجار أثناء عملية البناء، وفى الوقت نفسه يقوم مجموعة من العمال بصقل أحجار الكساء الخارجى، والتى وضعت فى أماكنها عند إقامتهم البناء، لكنهم الآن يقومون فقط بصقل سطحها صقلًا دقيقًا باستخدام السقالات التى ترتكز على هذه الطرق الصاعدة. وربما كانت أحجار الكساء الخارجى تطلى بلون معين أو تزخرف بنقوش وكتابات هيروغليفية، وربما كانت تحلى فى بعض أجزائها بقطع من الذهب والأحجار الكريمة، وذلك حتى يبدو الهرم فى النهاية وكأنه قطعة فنية هائلة الحجم تناسب عصر كل ملك وقدرته على البناء.