تفقد الكلمات معانيها بطرق عدة؛ فحين تُستعمل كلمة للإشارة إلى أشياء متباينة، تفقد معناها. مثال على ذلك استعمال كلمتى «الاعتدال» و«الممانعة» فى وصف مواقف الدول الضعيفة من هيمنة القوى الاستعمارية عليها؛ فكلمة «الاعتدال» استُعملت فى وصف سياسات أقرب إلى الخضوع والتواطؤ، فى حين استُعملت «الممانعة» للإشارة إلى مواقف المقاومة والصمود، وليس مجرد «الممانعة» التى تبدو فعل امتناع بلا غاية أو هدف. تفقد الكلمات معانيها كذلك حين يستعملها متكلم يحترف الكذب والتلاعب. فالعبارات التى يتشدق بها الساسة والإعلاميون الداعمون للإبادة تولد ميتة، لأنها تصدر عن أشخاص لا يفتقدون المصداقية فحسب، بل الإنسانية والحياء أيضًا. فيحاولون تزييف الواقع، وإنكار الحقائق، والتلاعب بالكلام إلى حد يبعث على الغثيان. لكن الكلمات تصل إلى حد الانتحار حين تُستعمل بمعنى نقيضها وعكسها؛ فالتحرير الذى رفعته أمريكا شعارًا لغزوها للعراق لم يكن إلا احتلالًا، والتحضر الذى يزعم مجرم الحرب نتنياهو أنه يدافع عنه فى مقابل الهمجية، ليس إلا الشكل الأقصى من الهمجية التى يبيد فيها احتلال غاصب شعبًا كاملًا لينتزع أراضيه. ويمكن أن نضرب مثالًا لهذا الانتحار للغة السياسية فى اسم «جائزة نوبل للسلام». • • • لقد مُنحت جائزة نوبل للسلام لشخصيات ساهمت بحق فى دعم التعايش والسلام والعدل فى العالم، مثل نيلسون مانديلا، السياسى المناضل لأجل حقوق الأغلبية السوداء فى جنوب إفريقيا، ومحمد يونس، الاقتصادى المناضل من أجل دعم الفقراء فى بنجلاديش. لكن الجائزة مُنحت كذلك لمجرمى حرب مثل مناحم بيجن، وإسحق رابين، وشمعون بيريز، وهنرى كيسنجر. فهؤلاء الفائزون الأربعة بالجائزة شاركوا فى مذابح جماعية موثقة راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء فى بلدان محتلة وشعوب مقهورة. ولم يَحُل تورطهم فى جرائم حرب دون حصولهم على جائزة نوبل للسلام. ولنضرب مثالًا واحدًا دالا فى هذا السياق، جرى فيه منح جائزة نوبل للسلام لشخص شارك فى قتل ما يزيد على المليونين من البشر فى فيتنام. فى 10 ديسمبر 1973 منحت مؤسسة نوبل جائزتها للسلام لوزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر «من أجل اتفاقية باريس 1973 التى تهدف إلى تحقيق وقف إطلاق النار فى حرب فيتنام وانسحاب القوات الأمريكية»، بحسب نص تبرير الفوز بالجائزة. قبل ذلك بعام بالضبط كان هنرى كيسنجر يضع أسس اتفاقية باريس عن طريق قتل الآلاف من الفيتناميين الأبرياء. فلكى يمهد الأرض نحو «السلام» طبق سياسة الأرض المحروقة! وخلال اثنى عشر يومًا متواصلًا قامت طائرات بى - 52 الأمريكية المحمَّلة بمئات آلاف الأطنان من المتفجرات بضرب مدينتى هانوى وهايفونج، وقتل آلاف المدنيين، بهدف إجبار الفيتناميين على التفاوض مع الأمريكيين. ونتيجة للعدد الكبير من الضحايا المدنيين والدمار الذى أحدثته غارات ديسمبر، التى حملت الاسم الأمريكى «تفجيرات عيد الميلاد»، اضطر الفيتناميون إلى التفاوض، ووقعوا اتفاقية السلام. وكانت مكافأة مجرم الحرب الذى خطط ل«تفجيرات عيد الميلاد» هى حصوله على جائزة نوبل للسلام! مكافأة له على خدماته فى قتل آلاف الأبرياء وتدمير المدن؛ لإجبار من يسعون لتحرير أرضهم على الاستسلام! • • • إن حصول كيسنجر ورابين وبيجن وبيريز على جائزة نوبل للسلام يعارض على نحو جذرى رسالتها وغايتها؛ فمنح الجائزة لهؤلاء يؤسس لقاعدة فى الحصول عليها هى: اضرب بوحشية إلى حد تستطيع فيه إجبار خصمك على الاستسلام، ثم وقّع معه معاهدة «سلام»؛ أعنى استسلامًا تحصل بمقتضاه على جائزة نوبل للسلام. أليس الاسم الجدير بالجائزة فى هذه الحالات هو «جائزة نوبل للحرب؟» ألم يكن يجدر بلجنة الجائزة أن تكتب فى تبرير حصولهم عليها: «مُنحت لهم من أجل دورهم فى إبادة الأبرياء، لتمهيد الطريق للسلام؟». كانت جائزة نوبل للسلام على وشك قتل المعنى من جديد فى حال منحها للرئيس الأمريكى دونالد ترامب لدوره فى الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة. فالرئيس الأمريكى شريك أساسى فى الإبادة التى تعرض لها الشعب الفلسطينى، وهو يرقى إلى أن يكون الفاعل الأصلى للإبادة بالنظر إلى دوره المحورى فى تنفيذها وإمدادها بالسلاح والمال والدعم التقنى والسياسى. والدولة الوحيدة فى مجلس الأمن التى حالت دون صدور قرار بوقف إطلاق النار وتأمين وصول المساعدات الإنسانية لمئات الآلاف من المجوَّعين فى غزة فى الثامن عشر من سبتمبر الماضى كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية، تحت رئاسة ترامب. أما على مستوى الخطاب، فإن الرئيس ترامب ربما يكون السياسى غير الإسرائيلى الأكثر تهديدًا للفلسطينيين بالإبادة على مدار عقود. والكلمة الأثيرة لديه فى قاموس تهديد الفلسطينيين هى «الجحيم»، و«فتح أبواب الجحيم» هى العبارة المتكررة لديه فى وصف ما سيحدث للفلسطينيين لو لم يقبلوا بشروط استسلام مهين. وقبل أيام قليلة من توقيع الاتفاق الحالى كان ترامب قد صرح فى 6 أكتوبر 2025 بأن «أمام حماس حتى السادسة مساءً بتوقيت واشنطن.. إذا لم يتم إبرام اتفاق الفرصة الأخيرة هذا، ستفتح كل أبواب الجحيم على حماس، كما لم يرَ أحد من قبل». والعبارات نفسها كان قد صرح بها يوم 7 يناير 2025، قبل أسبوعين من تنصيبه رئيسًا، وكررها بعد ذلك بنحو شهر، فى 9 فبراير 2025. وتكررت على مدار الشهور العشرة الماضية عباراته التى يؤكد فيها رغبته فى احتلال غزة، وتحريضه على إبادة أهلها. وعلى الرغم من عدم حصول الرئيس ترامب على جائزة نوبل للسلام لعام 2025 فإنها لم تذهب بعيدًا عنه. فقد مُنِحت لحليفته الفنزويلية السيدة ماريا كورينا ماتشادو، التى سرعان ما أهدت الجائزة لحاميها وراعيها الرئيس ترامب. وليس فى ذلك أى عجب، فالسيدة ماتشادو، بعد أسبوع واحد من حصولها على جائزة نوبل للسلام، طلبت من الرئيس ترامب شن الحرب على بلادها، وغزوها لإسقاط الحاكم الشرعى المنتخب فيها! وقد وافق ترامب على شن الحرب على فنزويلا، وننتظر فى الأيام المقبلة نهرًا جديدًا من أنهار الدماء التى تسيلها الحروب، بتحريض ورعاية وتنفيذ حائزى جائزة نوبل للسلام! لا أستبعد منح الرئيس ترامب جائزة نوبل للسلام فى الأعوام المتبقية من رئاسته. فهو بسجله فى الإبادة وجرائم الحرب جدير تمامًا بها، مثل أسلافه السابقين. وأقترح على لجنتها الموقرة النص الآتى تبريرًا للمنح: «مُنحت الجائزة للرئيس ترامب لدوره الفعال فى قتل 67 ألف فلسطينى، وجرح 170 ألف إنسان، علاوة على 11 ألف مفقود. وحصل ترامب على تنويه خاص؛ بفضل تحويله غزة إلى جحيم». ويمكن للجائزة إن أرادت مزيدًا من الأثر الفعال، أن تمنح الجائزة مناصفة بين ترامب ونتنياهو معًا، وتغير اسمها لتكون «جائزة نوبل لمجرمى الحرب والسلام».