كانت أمي تردد دومًا "الغالي ثمنه فيه"، رافضة أية منتجات مقلدة وغير أصلية، أما أبي رحمه الله، فقد اعتاد كل صباح شراء الصحف الثلاث الرئيسية "الأهرام" و"الأخبار" و"الجمهورية" لا يقرأ سواها، وتطيب روحه بسماع الراديو تحديدًا تلاوة القرآن الكريم بأصوات القراء "محمد رفعت، ومحمد صديق المنشاوي، وعبد الباسط عبد الصمد"، أما علاقته بالتليفزيون، فلا تتجاوز متابعته الدائمة لبرنامج "العلم والإيمان" للراحل الدكتور مصطفى محمود، وبعض مباريات كرة القدم ضمن عادات المشاهدة الأسرية الجماعية الشائعة قبل عقود. في عام 2008 مات أبي، ولم تعد لدينا كرة قدم معُتبرة منذ فترة، وتموت الصحف الورقية تباعًا، واختفى برنامج "العلم والإيمان"، ومات كل عمالقة المدرسة المصرية في تلاوة القرآن، وإن عاشت أصواتهم في الذاكرة إلى اليوم، مع بقايا أمجاد من صحافة مصر العريقة. لم يمتلك أبي هاتفًا محمولًا في حياته، ولم يشهد طوفان الإنترنت الكاسح، ولا تملك أمي أية حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وليست طرفًا مثلنا، في مخاوف وهواجس تطبيقات الذكاء الاصطناعي من قريب أو بعيد، أما الغالبية المطحونة من البشر، فلا يعنيها أبحاث معهد مستقبل الحياة بكامبردج، ولا دراسات معهد مستقبل الإنسانية بأكسفورد، ولا معهد ماساتشوستس للتقنية بأمريكا، عن التطور الأخلاقي المسؤول للذكاء الاصطناعي، للمراحل العابرة للإنسانية وما بعد الإنسانية، التي ترجح الدراسات بلوغها في العام 2050. كبرت أمي وكبرنا معها وتفرقنا في دروب الحياة والبلاد، وبقت عبارتها "الغالي ثمنه فيه" ولا شيء يفوق المنتج الأصلي، حاضرة بقوة في أذهاننا جميعًا، وذات مساء من يوم جمعة، اجتمعنا ببيت العائلة، جمعتنا فضائية عربية وأطلّت علينا المذيعة الشقراء "فضة"، كنا نتابعها مصادفة، حتى قالت أمي: غيروا هذه المذيعة، كأنها تمثال شمع! أدركنا وقتها أن فضة وأختها ميسون وقبلهما صوفيا ، وأخريات من كوريا والصين، مجرد روبوتات صناعية حل بعضها محل البشر بأصوات وملامح متقاربة، وإن انتزعت الروح من الجميع! فضة فتحت لنا حوارات لا نهائية عن الأصلي والتقليد، وعن ملايين الوظائف البشرية المهددة، نظرًا لقيام الروبوتات بها مستقبلًا، خاصة الوظائف الإدراية والأعمال الكتابية وإنتاج المحتوى بكل أشكاله المكتوب والمقروء والمسموع والمرئي، بما في ذلك من مقطوعات موسيقية ولوحات فنية تشكيلية، أصبح بمقدور تطبيقات الذكاء الاصطناعي إنتاجها بسهولة وسرعة فائقة! لو كان أبي بيننا اليوم ما استطاع أن يفرق بين الأخبار والمقالات والقصص التي أعدها الصحفيون، وتلك التي أنتجتها الآلة! لست وحدك يا والدي، فقد أنتجت صحف ومواقع الواشنطن بوست والنيويورك تايمر ورويترز العالمية، آلاف القصص والتقارير والمقالات المكتوبة والمسموعة والمرئية باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، لم يفلح أحد من القراء منذ سنوات في اكتشاف الفارق بين هذه المواد، والمحتوى الذي أنتجه الصحفيون البشر! شردت بذهني ربع قرن إلى الأمام دون أن أبرح مقعدي ببيتنا العتيق، مدركًا أن سوق العمل وكثيرًا من الوظائف حتمًا ستتأثر، برغم العنوان الناعم "قمة الذكاء الاصطناعي من أجل الخير"، التي نظمتها الأممالمتحدة بجنيف يوم 7 يوليو 2023م، وبرغم طمأنة مجموعة الروبوتات المشاركة في القمة، من أنها لن تسرق وظائف البشر ولن تتمرد عليهم، بل ستحل أكبر التحديات في العالم مثل الجوع والمرض، إلا أن عجلة التجارب على أشدها في جامعات ومعاهد التقنية العالمية، تحديدًا تجارب دمج الآلة في الإنسان وصولًا لطموح الإنسان السيبراني أو إنسان المستقبل، وبالمثل تتواصل جهود تطوير عقول تفوق البشر سرعة وذكاءً وتقدمًا، وربما تحل محل بعض البشر وتشكل تهديدًا للبشرية يفقدها زمام الأمور، بل السيطرة على الحضارة الإنسانية، برغم إعلان جيفر هينتون (الملقب بالأب الروحي للذكاء الاصطناعي)، أسفه لما آلت إليه الأمور، وهو التصريح الذي أطلقه عقب استقالته من جوجل، مؤكدًا أن الأبحاث ستستمر، وأن هناك خطرًا جسيمًا من أن تصبح الأشياء والآلات أكثر ذكاءً من البشر، ويمكن تغذيتها بدوافع عدائية سيئة، لتتولى زمام العالم بآسره! في ليلة باردة من ليالي الشتاء الماضي، ثُرتُ على ابنتي الكبرى حين وصلني إشعار من مُعلمتها بالمدرسة الثانوية، يفيد بتراكم واجبات كثيرة لم تسملها ابنتي، وأن أمامها فرصة للتسليم إلى نهاية الأسبوع فقط، بهدوء استقبلت ابنتي ثورتي، وفي صباح اليوم التالي وصلتني من المعلمة نفسها رسالة شكر بعد تسلمها كل الواجبات المتأخرة، ما دفعني لسؤال ابنتي كيف أنجزت الواجبات بهذه السرعة؟ فأجابت بحسم وصدق: استعنت ببرنامج ChatGPT ولم يُقصر معي! أظن أنه لا أحد من المهمومين بالخوف على وظائفهم في الحاضر والمستقبل إلا حاور بعض برامج الذكاء الاصطناعي: الباحث سأل عن معلومة أو دراسة أو بحث يعده نيابة عنه، الكاتب طلب منه أن يكتب له أو يترجم مقالة أو خطبة، وطلب آخرون رسم لوحات تشكيلية وعزف مقطوعات موسيقية وألحان بعينها، أو عمل تصميمات ديكور داخلية وخارجية. النتائج كانت باهرة لبعضهم، فقيرة بائسة عقيمة عند آخرين، ولكنها تظل مذهلة وصادمة لهم جميعًا! بدوري سألت ChatGPT عني شخصيًا وعن الصحافة وبعض الصحف العربية والعالمية الشهيرة جدًّا، فأخطأ كثيرًا بنسبة خطأ فادحة، وبعض إجاباته كانت أشبه بهلاوس مريض مشوش، عذرته صراحة فلست من المشاهير، ولم يكن بيننا سابق معرفة أو صداقة من قبل، وبالمثل غفرت له إجاباته الساذجة عن بعض مشاهير كرة القدم العالميين أمثال رونالدو وميسي وماردونا ومحمد صلاح، وقد كنت أخدعه وكلما قدم إجابة شككت فيها، فيبادر سريعًا بالتراجع واقتراح العكس، من الشيء إلى نقيضه! لم أشعر مطلقًا بنشوة خداعي لبرنامج ChatGPT فحتمًا سيتطور أكثر في وقت قريب جدًّا. وفي الفترة الأخيرة وأنا أكتب هذه السطور، سمعت أغنياتي المفضلة لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وطلال مداح وآخرين، وتلبستني روح والدي رحمه الله، فسمعت بعض آيات من الذكر الحكيم بأصوات القراء الذين طالما سمع لهم في حياته، وشاهدت لوحات فنية وتصميمات وقرأت مقالات وقصصًا قصيرة كلها من إنتاج برامج الذكاء الاصطناعي، وقد أصابتني التجربة بالحيرة والتشوش والخداع، وكنت كمن أشترى السراب ورمال الكون على ضفاف المالديف! معذورة هذه البرمجيات التي حتمًا ستُطور بسرعة فائقة خلال السنوات القليلة المذهلة؛ فقد جرى العمل عليها في الفترة من 2017 إلى 2021، وخلال السنوات الخمس زُوّدت بنحو 45 تيرا بايت من البيانات، مع تطوير نظام لغوي يمكنها من توقع الكلمات، إلا أن هذه النظم المُدربة سابقًا على الدردشة (ChatGPT) Chat Generative Pre-Trained Transformer ، تفتقد الحساسية الزمنية للفترات التي تلت إطلاقها، لا تعلم عنها شيئا، ولا عن مصادر المعلومات أي شيء، وتخطئ أكثر في المحتوى العربي، خاصة إذا علمنا أنه يمثل 1% من إجمالي المحتوى على الإنترنت، في حين 50% من محتوى الإنترنت بالإنجليزية يليه المحتوى الروسي ثم الألماني وبعض اللغات الأخرى كالصينية والاسبانية والإيطالية والبرتغالية وغيرها؛ ولهذا تبدو مقدرة هذه النظم والبرمجيات على ترجمة العربية محدودة جدًّا مقارنة باللغات الأخرى. إضافة إلى تحديات تتعلق بالإحساس والشعور ومنظومة القيم والأخلاقيات والمشاعر الإنسانية الغائبة عن كل نماذج الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك يؤكد خبراء التقنية ومطورو البرامج أنه خلال العشرين سنة المقبلة، ستُطور هذه النماذج لتقدم محاكاة رفيعة المستوى لحركة الشفاه والصوت والإيماءات والإيحاءات وصولًا إلى تعود المتلقي عليها. إلى جانب تحيز أمي للأصلي مقابل التقليد، هناك تخوفات أخرى بشأن الأفكار العنصرية تجاه بلد أو شعب أو جنس أو لون معين، إضافة إلى مخاوف التورط في نشر بيانات وهمية ومضللة وزائفة وبعضها قد يضر بالسمعة أو يحض على العنف والكراهية أو يزيف إرادة الناخبين، ولم أتعجب من ذلك؛ فقد سمعت وشاهدت خطبة طويلة بالصوت والصورة للرئيس الأمريكي السابق ترامب، بمفرداته وحركاته وإيماءاته نفسها، من إنتاج أحد نماذج الذكاء الاصطناعي -الخطبة لم يقلها ترامب من قبل وغابت عنها الروح تمامًا- وبدا فيها دُمية متحركة مثيرة للاشمئزاز! يثير خبراء AI GPT تحديات أخرى تتعلق ببرمجة الوعي والذاكرة والتوافق على تحقيق الأهداف، بمراعاة القيم والمعايير الأخلاقية؛ فقد يُطلب من هذه البرمجيات القضاء على السرطان مثلًا فتشير بقتل المصابين بهذا المرض اللعين، وقد تجد أنصارًا ومؤيدين لهذا النهج من أتباع رصاصة الرحمة وإنهاء الحياة وغيرهم، فما لم يوضع سقف لهذا الشطط والجنون تصبح تطبيقات الذكاء الاصطناعي أكثر خطرًا وأشد فتكًا من الأسلحة النووية! السؤال الغائب والتحدي الأخطر وسط غمار الحروب التجارية بين شركات التقنية، يتعلق بالنهب المنظم للمعلومات وللمعرفة البشرية التي تراكمت عبر قرون طويلة، وتم تلقيمها لنظم وتطبيقات التهمتها بشراسة دون التفاتة لحقوق ملكية فكرية بشرية بل وحضارية، فيما يشبه عملية السطو مكتملة الأركان لجهود ملايين البشر من الباحثين والعلماء والمفكرين والأكاديميين ومطوري البرامج والفنانين والقانونيين وغيرهم، والادعاء بالملكية الحصرية للأكواد والخوارزميات والبرمجيات والتطبيقات، وتلك معضلة أخلاقية وقانونية أخرى. لالتهام جهد البشرية بالمجان، وإعادة صياغته وبلورته وبيعه للبشر الذين تحولوا في غفلة بل وفي سقطة زمنية من منتجي المعلومات والمعارف، إلى مستهلكين لمعلومات ومعارف وحقائق جرت عمليات إعادة تدويرها في معامل ومراكز التقنية الغربية فائقة السرعة، ولا حول ولا قوة لبشر تجاوزهم الزمن فأصبحوا أقل قدرة وأقل سرعة وأقل ذكاءً أمام سطوة وهيمنة وشراسة الآلات والبرمجيات والتطبيقات! المثير للشفقة في عالمنا العربي الذي يقف معظمه موقف المتفرج المشدوه بما يدور حوله، أن باحثين بالعشرات في مجالات الحاسبات وتقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي والإعلام، هرولوا وأعدوا عشرات البحوث عن ChatGPT ونماذج وبرامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الإعلام والفنون والطب والسينما والمكتبات والمعلومات والبنوك وغيرها، ولو تحدثت عما قرأته في الإعلام بحكم التخصص، لحكمت بأنها أبحاث انطباعية متعجلة، لا تصيب عمق وجوهر الظاهرة، ولا تسبر غور التجربة التي لم تكتمل بعد، وبأدوات واقترابات منهجية عقيمة وقديمة؛ إذ بدا لي أن الأولوية للسرعة والسبق والسلق، فكانت مجرد إحصاءات كمية هي مجمل حصاد استطلاع آراء الجمهور، وبعض من يصفون أنفسهم بالخبراء، لتأتي النتائج سطحية ضحلة لا تضيف للمعرفة العلمية، بل تنتقص منها، ولو كان بيدي القرار لأوقفت سيل هذه الدراسات التي جرت وتلك التي يخطط لها ولو لسنة على الأقل، حتى تتضح معالم التجرية أكثر ويختبر التطبيق أكثر في المجال الإعلامي وغيره. نحن بحاجة لما يشبه هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، هيئة تكون مسؤولة عن إخضاع نماذج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي للرقابة والاختبار، ورصد انحرافات التجربة وآثارها الجانبية وتداعياتها بعمق، السلبيات قبل الإيجابيات، حتى لا يتحول الأمر لمولد وسيرك وهرولة لإثبات الحضور والسبق والمشاركة والريادة الفارغة في الصيحة البحثية الجديدة! التنظيم مطلوب لبحوث وتجارب الذكاء الاصطناعي ذاته، وإن كان هذا هو الحال بشأن الظاهرة والصيحة الجديدة المتجددة ذاتها، فالأمر نفسه ينطبق بكل وعي ونضج على أي دراسات عن الظاهرة، حين عرف العالم السيارات، ونزلت للطرق وقعت بعض حوادث السير العنيفة، لم يطالب أحد بحظر السيارات أو عفاريت الأسفلت بحساب معطيات ذلك الزمان، كل ما حدث هو الشروع الفوري في دراسات تتعلق بالأمن والمتانة وحدود السرعة، ومعايير السلامة، ومتطلبات الترخيص، وقوانين القيادة تحت تأثير الكحول، وكل ما يتعلق بقواعد المرور وحقوق المشاة وواجبات السائقين واشتراطات الطرق الأخرى. أشعر أن المسافات صارت شاسعة بين الأخلاقي واللاأخلاقي، صرنا نعيش في عصر ما بعد الحقيقة، بعد أن التهم العالم الافتراضي كل الحقائق، وألبسها ثياب الأكاذيب الفائقة الصنع والتزييف، وأخشى ما أخشاه مع طوفان التنافس الشرس على تطوير واقتناء برمجيات الذكاء الاصطناعي، أننا نعجل بالتهام بقايا الحقيقة الإنسانية، وهزيمتها بالضربة القاضية، وإفساح المجال أمام حقيقة ما يروجها ملاك شركات التقنية ونماذج الذكاء الاصطناعي، في هذا الكون المحاط بالفبركة والتزييف العميق، وهيمنة الآلات على البشر الذين صاروا طواعية بلا ذاكرة وبلا تاريخ، عبيدًا لتلك الآلات! لا تعرف أمي "إيلون ماسك" مالك "تيسلا وتويتر"، لكنها شريكة له في غضبه على "مارك زوكربيرج" صاحب شركة "ميتا"، خاصة في وصف "ماسك" لتطبيق "ثريدز" أحدث إصدارات شركة "ميتا"، بأنه تقليد ونسخ ولصق من تويتر، أمي التي لا تعرف "ماسك" ولا "مارك"، ولا تحب الوجوه الخشبية التي صادفتها من شعوب غربية تفتقد الروح وتشبه الروبوتات، ما زالت تؤكد أن الأصل يتفوق دائمًا وأبدًا على التقليد، وأن أعظم ما يحققه الإنسان في حياته، أن يبقى إنسانًا وألا يفقد إنسانيته!