على الرغم من تحركات أوباما المدهشة لإصلاح السياسة الخارجية، فهو يتعرض لموجة من النقد الشديد داخل واشنطن. فعندما أشرفت فترة حكم الرئيس جورج بوش على نهايتها، لم يكن هناك سوى قلة فى العالم يدافعون عن سياسته الخارجية. ويجمع كبار المعلقين تقريبا على أن سنوات بوش اتسمت بالغطرسة وعدم الكفاءة. وعلى حد تعبير افتتاحية صحيفة الواشنطن بوست، فقد «فشل بوش فشلا ذريعا فى إزالة اللبس عن الكثير من المناطق البالغة الغموض فى مجالى الأمن القومى والسياسة الخارجية». حتى ريتشارد بيرل، الزعيم المحافظ، أقر مؤخرا بأن بوش فشل فى انتهاج سياسة خارجية ودفاعية فعالة». وتنعقد الآمال على ابتعاد الرئيس أوباما عن بعض مواقف سلفه الأيديولوجية المتصلبة، لكن البوست تحذر من أنه لن يكون من السهل السير فى عكس الاتجاه الذى كان سار فيه بوش. والحقيقة أنه بالرغم من استغراقها خلال الأيام الخمسين الأولى فى الأزمة الاقتصادية وتداعياتها ومحاولة الخروج السريع منها، إلا أن إدارة أوباما قامت بتحركات مدهشة فى مجال السياسة الخارجية أيضا. فقد أعلن أوباما عن إغلاق معتقل جوانتانامو وإلغاء أى مراسيم رسمية تسمح بالتعذيب. وأجرى أولى مقابلاته الصحفية كرئيس مع شبكة عربية هى محطة ال MBC، تحدث خلالها عن ضرورة التعامل مع العالم الإسلامى بروح الاحترام وهى إشارة أكسبته إطراء صحفيين وساسة عرب معروفين بعدائهم للسياسة الأمريكية وممارساتها. وخلال أسابيع قليلة، قطعت هيلارى كلينتون أميالا تفوق ما قطعه كثيرون ممن سبقوها فى وزارة الخارجية فى شهور طويلة، تمزج بين الإشارات الرمزية والمحادثات الحقيقية. وقد عبرت الإدارة الجديدة مكررا عن عزمها التفاوض مع أنظمة تثير المتاعب مثل سوريا وإيران. وأكدت كلينتون علنا عن عزم الولاياتالمتحدة التعاون مع الصين فى الأزمة الاقتصادية وقضايا الطاقة والبيئة برغم اختلاف وجهات النظر حول قضايا حقوق الإنسان. كما قدمت تصورا لعلاقة بناءة ومتفاعلة مع روسيا. وقال أوباما إنه على استعداد للتحدث مع بعض عناصر طالبان التى يعتبرها معتدلة، فى محاولة لعزل العناصر المتشددة من المجاهدين. وهذه خطوات أولية، وصغيرة لكنها كلها تتجه فى الاتجاه الصحيح وتستحق الإشادة بلا شك. لكن المؤسسة فى واشنطن يعتريها القلق، وتخشى بطريقة أو بأخرى من معظم هذه التحركات. وكان رد الفعل المحافظ هزليا فى غضبه. فبعد أسبوعين من تولى أوباما، جمع محافظ واشنطن تشارلز كروثامر مجموعة من التصريحات والتحركات الروسية، وقرر أنها كانت كلها «استفزازات وقحة» للولايات المتحدة وأن أوباما فشل فى التصدى لها. وأرعد كروثامر بأن «دبلوماسية أوباما المنبطحة» أسفرت عن عدد من المصائب فى أرجاء العالم. فالحكومة الباكستانية على سبيل المثال، شعرت بضعف واشنطن «ورضخت لطالبان» فى وادى سوات. وينسى كروثامر على ما يبدو الصفقات الكثيرة، التى عقدتها باكستان خلال السنوات الثلاث الأخيرة فى أثناء حكم بوش مع طالبان، وهى صفقات أعدت على عجل، وبأسوأ الشروط، وكان لها أسوأ النتائج. وانضم عدد من المعلقين المعروفين بذكائهم للتعبير عن قلقهم من هذا الموقف. تقول ليزلى جيلب، مؤلفة كتاب «قواعد القوة»، إن تعليقات كلينتون على سجل الصين فى مجال حقوق الإنسان كانت صحيحة، لكن لم يكن ينبغى أن تقال علنا. وتقول جيلب بحزن: «إنه تغيير من أجل التغيير». ويقول بيتر بيرجن من «سى إن إن» إن عقد صفقات مع طالبان اليوم يمكن أن يزعزع الأوضاع فى أفغانستان مستقبلا. وآه لو أبقينا فقط على كل تلك السياسات التى كانت ناجحة على عهد بوش. ولنأخذ موضوع المحادثات مع روسيا على سبيل المثال. فمؤسسة واشنطن تتفق على أن برنامج إيران النووى يشكل تحديا للإدارة الجديدة. وكان كثيرون يتشككون فى أن يأخذ أوباما المشكلة مأخذ الجد. لكنه فعلها، ودافع عن فرض عقوبات أكثر فاعلية، وبحث فى جدوى بدء الحديث مع الإيرانيين، ودخل فى محادثات واقعية مع الروس. فروسيا هى القوة الخارجية الوحيدة التى لها نفوذ قوى وفعلى على طهران، حيث أنها هى التى تبنى مفاعل إيران النووى وتزوده باليورانيوم. وبالتالى استكشاف إن كان الضغط الروسى على الإيرانيين أمر مفيد، أليس كذلك؟ لا. فقد عبرت واشنطن بوست عن قلقها من إذعان أوباما للنفوذ والضغط الروسى. وجاءت خطيئته عندما أشار فى خطاب إلى الرئيس الروسى إلى أنه فى حال ساعدت موسكو فى مواجهة تهديد الهجمات الصاروخية من جانب طهران، فإن الولاياتالمتحدة لن تشعر بالحاجة لاستكمال مشروع نشر أنظمة الدفاع الصاروخية فى بولندا وجمهورية التشيك، حيث إن الهدف الرئيسى من نشر هذه الدفاعات هو التصدى للصواريخ الإيرانية. وهذا منطق أحادى الجانب. كما صدمنى بشدة أن تقنية الدرع الصاروخية الواقية ضد إيران هو، وحتى الآن، «نظام لن يقدر له العمل ضد خطر ليس له وجود، وندفع فى سبيله أموالا لا نملكها» على حد قول جيديون راشمان من صحيفة الفايننشيال تايمز الأسبوع الماضى، نقلا عن رأى أحد الخبراء. إن مشكلة السياسة الخارجية الأمريكية قائمة من قبل مجئ جورج بوش إلى البيت الأبيض. ويدخل فيها أن مؤسسة واشنطن ركنت إلى ممارسة الهيمنة والنظر إلى الحلول الوسط باعتبارها شكلا من أشكال الخيانة وللمفاوضات كنوع من التنازل. فالبلاد الأخرى لا يمكن أن تكون لها مصالح خاصة مشروعة فمطالب روسيا بطبيعتها مرفوضة رفضا قاطعا. وعليه كان السبيل الوحيد للتعامل مع البلاد هو إعلان سلسلة من المطالب ذات الطبيعة القصوى. وهذه ليست سياسة خارجية بل هى سياسة إمبريالية. ولم يعد لها أى جدوى فى عالم اليوم.