كان من الطبيعى أن تحظى الغزوة الدبلوماسية الأخيرة، لوزيرة خارجية أمريكا الجديدة بالاهتمام الذى حظيت به. فالجماعة الدولية عادة ما ترى فى زيارة كهذه مؤشرا على درجة الأهمية التى توليها قمة الدبلوماسية فى واشنطن لهذا البلد أو ذاك وفق أولوياتها. لذا، عندما زارت وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون اليابان وإندونيسيا وكوريا الجنوبية والصين، فى منتصف فبراير، اعتبرت جولتها اعترافا من جانب واشنطن بالأهمية الإستراتيجية المتنامية لآسيا. فالطبيعى أن يزور أى وزير خارجية جديد أوروبا، حليف الولاياتالمتحدة القديم، أولا. وكانت المرة الأخيرة التى يزور فيها وزير خارجية أمريكى آسيا قبل أوروبا على عهد الرئيس جون كيندى، قبل أربعين عاما مضت. والحقيقة، أن سياسة الرئيس جورج بوش الخارجية كان لها آثارها الكارثية على أوروبا والشرق الأوسط، لكنها اعتبرت إيجابية للغاية فى آسيا، فقد اتسمت مواقفه من أوروبا، وروسيا، والشرق الأوسط بالأحادية، والغطرسة، والتشدد الأيديولوجى. بالمقابل، كانت سياسته الآسيوية برجماتية وإستراتيجية بصورة مدهشة. فعلى سبيل المثال، انتهج سبيل الحل الدبلوماسى فى مشكلة البرنامج النووى لكوريا الشمالية، على عكس موقفه المتشدد تجاه إيران. وفى تعامله مع العلاقات المعقدة مع بكين، كشف بوش عن قدر كبير من الواقعية، من خلال تفادى المواجهة وتعميق التعاون الاقتصادى. لذا، فإن من ينظر على السطح يدهش من أن سياسة واشنطن فى آسيا تبدو فى حالة طيبة نسبيا ولا تحتاج إلى تعديل، لكن المظاهر خادعة. صحيح أن بوش تفادى ارتكاب أخطاء إستراتيجية مكلفة فى آسيا، لكن هذا لا يعنى أن هذه السياسة لم تخلف ميراثا يحتاج إلى تعديلات حقيقية، على أقل تقدير. ويمكننا أن نعتبر زيارة كلينتون تعديلا من جانب إدارة أوباما لهذا الوضع عبر إعادة التوازن لأولويات أمريكا الإستراتيجية. ومن منظور الأولوية الإستراتجية، تدرك واشنطن الآن أن خططها الأمنية التقليدية فى شرق آسيا، القائمة على التحالف بين أمريكا واليابان، تتضاءل فاعليتها أمام المخاطر التى تهدد أمن المنطقة. وقد تكون اليابان حليفا مخلصا، لكنها تعانى التدهور الاقتصادى منذ أكثر من عشر سنوات، ونظامها السياسى مشلول. والأسوأ، أن عجز اليابان عن معالجة اعتداءاتها الماضية على جيرانها، ما يطلق عليه «مسألة التاريخ» يعنى أن جيران اليابان لا يثقون بها، عادة، وخاصة الصين وكوريا، ما يقلل من قيمة اليابان كحليف إستراتيجى للولايات المتحدة. لذلك؛ عندما أرادت واشنطن المساعدة فى معالجة البرنامج النووى لكوريا الشمالية، طلبت من الصين، لا اليابان، ممارسة ضغوطها الدبلوماسية، وأزيحت اليابان إلى حد كبير. ويعنى إعادة التوازن من جانب أوباما أن تولى الولاياتالمتحدة التعاون مع الصين اهتماما أكبر، وإن واصلت تعاملها مع اليابان بوصفها الحليف الآسيوى الأهم، ولو بلاغيا ورمزيا. ونظرا للتنافس الاستراتيجى بين الصين والولاياتالمتحدة، فإن سياسة واشنطن لن تقيم سياستها الآسيوية على أساس محورى بين واشنطنوبكين، لكن نظرا لأن معظم الأولويات القصوى لإدارة أوباما، مثل التغير المناخى، والحد من انتشار السلاح النووى، والأزمة الاقتصادية العالمية، تحتاج كلها إلى التعاون مع بكين، فليس أمام الولاياتالمتحدة إلا العمل الوثيق مع الصين وليس مع اليابان. وفى ظل حكم بوش، كان الأمن الإقليمى والتجارة على رأس أهداف الدبلوماسية. وبالطبع، سيستمر أوباما فى النظر إلى هذه الأمور باعتبارها مصالح أمريكية حساسة. لكن شاغل البيت الأبيض الجديد لن يقع فى نفس الخطأ الذى وقع فيه سلفه، أى إهمال الأهداف المهمة الأخرى. ومن الواضح أن أقصى الأهداف الإستراتيجية، بالنسبة لأوباما، هو التوصل إلى معاهدة عالمية جديدة بشأن التغير المناخى. وكان من شأن معارضة بوش الراسخة لمثل هذه المعاهدة حماية الصين والهند من ضغوط المجتمع الدولى. لكن مع تولى أوباما، فإن الولاياتالمتحدة ستولى أهمية أكبر للتوصل إلى مثل هذا الاتفاق. والحقيقة، أن إنهاء الحرب فى العراق أو إعادة السلام إلى أفغانستان لن يكون أعظم إنجازات سياسة أوباما الخارجية، بل أن التوصل إلى اتفاق عالمى بشأن التغير المناخى سيكون الإنجاز الأهم. ودون حث الصين أو الهند لتقديم تنازلات، فلن ترى هذه المعاهدة النور. وهذا ما حدا بكلينتون، خلال محطتها التى استغرقت يومين فى بكين، القيام بالزيارة المعتادة لكبار القادة الصينيين، لكنها حرصت أيضا على زيارة محطة جديدة للطاقة تخلف كميات أقل من ثانى أكسيد الكربون. وقد صاحبها فى زيارتها المبعوث الأمريكى الخاص للتغير المناخى، لتظهر أن الولاياتالمتحدة عندما تتحدث عن التغير المناخى الآن فإنها تقصد «البيزنس». ورغم كل ذكائها وحيويتها، لم تحقق هيلارى كلينتون أى اختراقات دبلوماسية كبيرة خلال زيارتها الأولى لآسيا، لكن رحلتها، والأهداف الإستراتيجية من ورائها، ينبغى اعتبارها بداية مبشرة لأوباما، وقطيعة تلقى الترحيب مع سياسة بوش.