هل إسرائيل مجرد دولة بين الدول؟ على مستوى من المستويات، هى مكان عادى بالفعل. فالناس يلعنون المرور، ويتابعون أسهمهم، وأجهزة بلاكبيرى، ويذهبون إلى الشاطئ ويدفعون أقساط التأمين. وإذا مشيت فى أحد أحياء تل أبيب الشمالية المزدهرة ستجد نفسك وسط أجواء كاليفورنيا. لكنها، على مستوى آخر، ليست كذلك. فبعد مرور أكثر من 60 عاما على قيام الدولة، ما زالت إسرائيل بلا حدود مستقرة، أو دستور، أو سلام. وقد ثبت لإسرائيل، المولودة من رحم هلع الهولوكوست، أن كونها عادية هو فى الحقيقة أمر بعيد المنال. ولم يفض قلق يهود الشتات إلى الطمأنينة، بل إلى قلق آخر. وأوجد الهروب من الجدران إلى جدران جديدة. ولم يختف هوس الإبادة وإنما اتخذ شكلا جديدا. وبالنظر إلى كل ما حققته إسرائيل من نجاحات وعلى الرغم من أنها أكثر مجتمعات المنطقة انفتاحا، وإبداعا، وحيوية يعد هذا فشلا محبطا. فهل ثمة ما يمكن عمله؟ ربما كان من المفيد أن نبدأ بملاحظة أن إسرائيل لا ترى نفسها بلدا عاديا. بل ترى أنها تعيش فى ظل أوضاع استثنائية دائمة. وأنا أتفهم هذا؛ فإسرائيل ترى أنها بلد صغير يحيط به جيران من الأعداء أو المتفرجين غير المبالين. لكنى أشعر بالقلق عندما تجعل من وضعها الاستثنائى صنما. وهى بحاجة إلى التعامل مع العالم كما هو وليس مع عالم الأمس، برغم ما يثيره هذا من إرباك. صحيح أن الهولوكوست كان شيطانيا فى جوهره. لكنه حدث قبل 65 عاما. ومرتكبوه إما ماتوا أو على وشك الموت. ومنظور الهولوكوست يمكن أن يشوه الأشياء. والتاريخ يظلم الكثير من الأمور. خطرت هذه الانطباعات على ذهنى وأنا أراجع الخطاب الذى ألقاه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أمام الأممالمتحدة الأسبوع الماضى. فقد خصص الفقرات الثلاثين الأولى للحديث عن خليط ملتهب يجمع بين ألمانيا النازية (تكررت كلمة «النازية» خمس مرات)، وإيران الحديثة، والقاعدة (التى تعتنق المذهب السنى المخالف للمذهب الشيعى الذى تعتنقه إيران) والإرهاب العالمى، وتصدى إسرائيل الاستثنائية وحدها لكل هذا. ويلخص نتنياهو الصراع الحالى على النحو التالى: «إنه صراع المدنية ضد البربرية، والقرن الحادى والعشرين ضد القرن التاسع، وهو صراع من يقدسون الحياة ضد من يمجدون الموت». وهذا كلام سطحى، ورنان ولكنه فى نفس الوقت غير مفيد. ومن المؤكد أن هذا المنظور يخفف من أثر إنكار الرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد للهولوكوست وتهديداته غير المقبولة. (كذلك يتحدث كثير من الزعماء الإيرانيين عن القبول بأى تسوية مع إسرائيل يقبل بها الفلسطينيون). وهناك طريقة أخرى للنظر فى الصراع المتواصل فى الشرق الأوسط أقل درامية لكنها أكثر دقة. تتمثل هذه الطريقة فى النظر إليه كصراع من أجل إحداث توازن مختلف فى القوى وربما المزيد من الاستقرار بين إسرائيل المسلحة نوويا (ما بين 120 200 رأسا لا تقر إسرائيل بامتلاكها)، وإيران المتغطرسة والقلقة فى آن، وعالم عربى يزداد تطورا ووعيا (إذا لم يقمع). ويجادل بعض أعداء إسرائيل فى وجودها نفسه، برغم عدم قدرتهم على القضاء عليها. لكن النظر إلى الصراع بوصفه بين الإرهابيين الذين هم من عبدة الموت والنموذج الإسرائيلى الصحيح، ينطوى على قصور كبير. ففى الشرق الأوسط، هناك أكثر من حضارة، تختلف فى موقفها من الدين والحداثة، لكنها تسعى كلها لتحقيق نوع أو حالة من التوفيق فيما بينها. وبالطبع، كانت الحالة الاستثنائية الإسرائيلية أحد ضحايا هذه النظرة. فقد أصبحت الدولة اليهودية أقرب شبها بأى أمة أخرى تقاتل من أجل النفوذ والثروة. وأعتقد أن الرئيس أوباما، الذى يقلل من الاستثنائية الأمريكية، يحاول دفع إسرائيل للظهور بمظهر أكثر عادية وواقعية. من هنا فإن امتناع الولاياتالمتحدة عن التصويت الشهر الماضى على قرار للجنة الشئون النووية بالأممالمتحدة يدعو كل دول الشرق الأوسط إلى «الانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية» وإقامة شرق أوسط خال من الأسلحة النووية هى فكرة تؤيدها إدارة أوباما تمشيا مع أجندتها لنزع السلاح النووى. وهو تحول ننظر إليه فى ضوء موافقة أمريكا الضمنية، على مدى عقود، على وجود ترسانة إسرائيل النووية غير المعلن عنها. وهذا أمر منطقى. فالتعامل بطريقة فعالة مع البرنامج النووى الإيرانى، وإيران هى أحد الدول الموقعة على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، فى حين أن تتجاهل الوضع النووى لإسرائيل التى لم توقع على الاتفاقية، يشكل نوعا من ازدواجية المعايير. والرئيس أوباما لا يحب هذا النوع من المعايير. ويمكن بالفعل القبول بفكرة إنهاء استثنائية إسرائيل النووية، وتخلصها من ترسانتها النووية والانضمام إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، على أن يتم هذا فى إطار ترتيبات أمنية إقليمية ترعاها الولاياتالمتحدة وتحول دون حصول إيران على هذه الأسلحة. ومن الجدير بالملاحظة أيضا تلك النغمة الحكيمة لوزير الدفاع روبرت جيتس التى تتناقض كل التناقض مع نغمة نتنياهو. يقول جيتس: «إن السبيل الوحيدة لكى لا تصبح إيران قادرة نوويا هو أن تصل الحكومة الإيرانية إلى قناعة بأن أمنها يتضاءل بسبب حيازة هذه الأسلحة بدلا من أنه يتعزز». بتعبير آخر، وكما هو رأيى منذ زمن، أن تتخذ إيران قرارات عقلانية. وبدلا من التذرع بالهولوكوست وهو نوع من التضليل، على إسرائيل أن تنظر إلى إيران نظرة هادئة، وتتفهم ارتباك سياسة حافة الهوية النووية التى تنتهجها طهران، وتدرس كيف تستفيد من الجهود الدبلوماسية التى تباشرها الولاياتالمتحدة. إن على الجميع أن يبتعدوا عن المظهرية ويتعاملوا مع الحقائق من منظور واقعى. قد يكون هذا مؤلما للبعض مع توصل تقرير جولدستون بتكليف من الأممالمتحدة إلى احتمال ارتكاب كل الجيش الإسرائيلى والمقاتلين الفلسطينيين لجرائم ضد الإنسانية خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية فى غزة. لكن هذا له فائدته أيضا. فجولدستون رجل متزن أعرفه منذ زمن. وقد صدمنى رد الفعل الإسرائيلى على ما توصل إليه كمثال على انفلات التأثير المضلل للاستثنائية. فالدول العادية تعرف الإخفاق ويجب عليها أن تتقبله وتتعامل معه. لقد تغير الشرق الأوسط. ويجب أن تتغير إسرائيل. وشعار «لن نخطئ ثانية» ضرورى لكنه غير ملائم تماما فى التعامل مع العالم الحديث. New York Times Syndication