لقد جعل الإسلام الناس كلهم سواسية كأسنان المشط، ولعلها أولى ثمرات الإسلام الحق وهى نفى العبودية لغير الله عز وجل، وشعور الإنسان بامتداد شخصيته أمام سائر الخلق، وليس هناك مبرر لأن يستعلى أحد على أحد بأن ينسب لنفسه ما يزعم أنه منزلة تبيح له ذلك، فهذا كله خرافات من وحى الأنفس التى يسكنها الجهل بتعاليم الشريعة الإسلامية. وذلك أن الإسلام جعل الناس جميعا فى الواجبات والحقوق العامة متماثلين تماثلا مطلقا. كلنا عبيد لله لا يستثنى من هذه العبودية بشر « إِن كُلُ مَن فِى السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَا آتِى الرَحْمَٰنِ عَبْدا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَهُمْ عَدا» مريم 9394 فقلد خلقهم ربنا تبارك وتعالى من نفس واحدة، على اختلاف الاجناس أب وأحد وأم واحدة. «يَا أَيُهَا النَاسُ اتَقُوا رَبَكُمُ الَذِى خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَاء ۚ وَاتَقُوا اللَهَ الَذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَ اللَهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا» النساء: 1 فى الإسلام لا يوجد أى مجال لتفرقة عنصرية أو امتياز طبقى، ويعد الاختلاف فى أحوال الناس وملكاتهم ولغاتهم، مظهرا لإبداع الخالق الأعلى بل هو من دلائل قدرته التى دلنا عليها. «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَ فِى ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» الروم 22 وبحسب تفسير الطبرى فإن «من حججه وأدلته أيضا على أنه لا يُعجزه شىء، وأنه إذا شاء أمات من كان حيا من خلقه، «ثُمَ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ» وأعاده كما كان قبل إماتته إياه.. خلقه السموات والأرض من غير شىء أحدث ذلك منه، بل بقدرته التى لا يمتنع معها عليه شىء أراده (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) يقول: واختلاف منطق ألسنتكم ولغاتها (وَأَلْوَانِكُمْ) يقول: واختلاف ألوان أجسامكم (إِنَ فِى ذَلِكَ لآياتٍ للْعالِمِينَ) يقول: إن فى فعله ذلك كذلك لعبرا وأدلة لخلقه الذين يعقلون أنه لا يعييه إعادتهم لهيئتهم التى كانوا بها قبل مماتهم من بعد فنائهم». والمقصد من وراء الإختلاف أن نتعارف ونتآلف، لا نتقاطع ونتخاصم «يَا أَيُهَا النَاسُ إِنَا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَ اللَهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات 13. ولعل سمات الإسلام التى نراها بكل وضوح متمثلة فى العقائد والعبادات والأخلاق، ففى المسجد الواحد يصطف الجميع لا فرق بين هذا وذاك، ويتساوون فى الحركات من قيام وركوع وسجود. كما أن الحقوق العامة مكفولة على سواء. ومنذ فجر الإسلام وهو قد طلع على الناس بهذه المساواة كما تطلع الشمس فى أعقاب ليل بارد طويل لم يكن الناس يعرفونها بهذا الشمول قبله. جاء الإسلام ليحث الحق وليذهب الظلم، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس «قُلْ إِنَمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَ أَنَمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَدا» الكهف 110 وبشجاعة نرى تعاليم نبى الله التى يرددها خلفاؤه من أبو بكر الصديق وعمر الفاروق، لينقلوا للعالمين بعض ما قالوا للناس من مقولة الحق التى تبين مدى الخصال الحسنة التى يتمع بها الإسلام: «لقد وليت عليكم ولست بخيركم».. «إن رأيتم خيرا فأعينونى وإن رأيتم شرا فقومونى». وبهذا الكلام المبين الصادق سقطت كهانة الملوك الأولين، وتبخرت نظريات الحق الإلى فى اتخاذ الشعوب ملكا لفرد مسلط مغرور. لعل العصر يتمتع بتفرقة فنرى المجتمعات الإنسانية تعانى الاضطراب ويتخللها الخلل فى ميزان التقسيم بين الناس هؤلاء سادة اشراف وهولاء السوقة والرعاع وتلك للسادة وهذه للرقيق. والإسلام بكل حزم عدو لهذه القسمة الجائرة. وقد بُلِيَ فى مكة باختبار لموقفه من هذه الحال، وكان ذلك لأول عهده بالحياة ووطأة الهاجمين عليه من أصحاب الحول والطول أن دخول المستضعفين فى هذا الدين أزعجهم، وخافوا مغبته، فأرسلوا لمحمد صلى الله عليه وسلم، يقولون: اطرد هؤلاء عنك ونحن لا نرى بأسا من اعتناق دينك فرفض الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العرض. فبعثوا إليه مرة أخرى يقولون له: إن لم يكن من بقائهم بٌدٌ، فليكونوا فى مؤخرة الصفوف ونتولى نحن الصدارة. ففكر الرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا العرض الجديد. إن الصدارة إنما يظفر بها أهل الكفاية، وأصحاب السبق فى الإيمان والعمل. أيمكن أن نكل المؤمنين إلى إيمانهم، ونتألف هؤلاء الأقوياء بإجلاسهم فى مكان الصدارة، حتى إذا تشربت أفئدتهم الإيمان كاملا تركوا هذه العنجهية من تلقاء أنفسهم؟ وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه المقابلة نزل الوحى يحسم القضية كلها «وَأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُم مِن دُونِهِ وَلِيٌ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَهُمْ يَتَقُونَ وَلَا تَطْرُدِ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَالِمِينَ» الأنعام: 51 53 وهكذا قال ربنا تبارك وتعالى، إن المبادئ لا يضحى بها ولو من ناحية الشكل ومن دخل فى دين الله فليخلع عن نفسه أردية الجاهلية كلها، ولا يشعر بأنه أرجح من غيره لامتيازات مبهمة مدعاة. الإسلام يكرم الإنسانية فى أبناء آدم قاطبة. لقد شيع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رفات امرأة نصرانية، وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهودى مرت به، فلما كُلِّمَ فى ذلك قال: أليست نفسا؟.