العنوان البديل لهذه المقالة هو كيف نستطيع أن نؤثر فى السياسات المختلفة، وما هى الوسيلة الناجعة لهذا التأثير. وفى الواقع فإن نجاح هذا التأثير يتطلب بالضرورة معرفة من يصنع السياسة التى نود التأثير فيها. الفكرة الذائعة الانتشار أنه فى أى دولة أو وحدة إدارية فإن الرئيس، والرئيس وحده، له هذه السلطة المطلقة. ولكن هل هذا صحيح؟ الإجابة السليمة عن هذا السؤال تحدد فاعلية أى مجهود منا فى التأثير على السياسة، أى سياسة. من هنا تأتى مركزية السياسة فى حياتنا. وعلى الرغم من كره البعض للسياسة، لا نستطيع الإفلات منها، فهى تحاصرنا وتتحكم فى مصائرنا، ولذلك نحاول عن وعى أم لا التأثير فيها، مهما كان موقعنا فى المجتمع أو اهتماماتنا، أيا كانت سنوات عمرنا أو خصائصنا المهنية أو الشخصية. رجل الفن الذى يعتقد أنه يهرب من السياسة، لكنه يعيش فى قلق من مقص الرقيب ويجتهد لحماية موهبته الإبداعية. ربة البيت تخشى من «بلاوى السياسة» وتحذر أولادها من التجمعات الطلابية الاحتجاجية أو زوجها من الانضمام للإضرابات، ولكنها تعتمد على السياسة بخصوص الدعم وأسعار السلع وتحاول التأثير فيها إذا استطاعت. زحمة المرور التى يعانى منها الناس هى نتاج لسياسة معينة، وجود المقطورات أو غيابها أيضا سياسة. السياسة تحاصرنا. بعضها واضح للعيان ولا يحتاج لشرح، والبعض الآخر ظاهره غير باطنه، كقمة جبل الثلج العائم، تماما كالإفراج المفاجئ عن أيمن نور، الرئيس السابق لحزب الغد. بالإضافة إلى مركزية السياسة فى حياتنا اليومية، فلنتفق على نقطة أخرى: جوهر السياسة هو صنع القرار Decision Making. فالقرار يحسم بين البدائل المتعددة. هو المطبخ السياسى بكل عناصره وتفاعلاته، عالم مصغر Microcosm لما يحدث فى العالم الأوسع. ولذلك يحاول كل مهتم بسياسة معينة أن يكون قريبا منه إن لم يكن بداخله. وهكذا تطور مفهوم جماعات الضغط أو اللوبى سواء كانوا من رجال الأعمال أو بائعى السلاح. وهكذا كثرت النظريات من العلوم المختلفة لتحلل كيفية صنع القرار: أكد علم النفس على أهمية عنصر المقومات الشخصية، وتم استدعاء فرويد وفرضياته لإقناعنا، بينما قام علماء الاجتماع بالتحليل المفصل لهياكل المجتمع وطبقاته لتتبع تأثيرها على قرارات مجتمعهم. أما الاقتصاديون فاعتبروا أنفسهم أفضل المتخصصين فى تقديم النظرية المثلى لتُرشِد وترَشِّد guide and rationalize قرار المستهلك الذى يجوب الأسواق للشراء بأرخص الأسعار. ولم يعادل علماء الاقتصاد فى غرورهم إلا متخصصو علم السياسة، الذين يأخذون صنع القرار كجوهر حقلهم وهدف أبحاثهم وبالتالى يصرون على أنهم أكثر العارفين بدخائله. وعلى الرغم من هذا الجدال وثرائه المعرفى، فإن معظم نظرياته ترتكز على فكرة مبسطة وحتى مضللة: إذا كنت تريد فهم القرار، فابحث عن الرئيس على قمة المجتمع، فى أمريكا، فرنسا أو حتى مصر، دون الغوص فى أعماق هذا المجتمع. استسهال عقيم ومضر أيضا، لأن صناعة القرار ليست للأسف بهذه السهولة. الرئيس أو المدير هو صاحب القرار رسميا، ولكن قد يختلف الأمر فعليا. فحالة التعقيد التى يعيشها العالم ومجتمعاته المتشابكة لا تسمح لرئيس أو مدير أن يلم بكل العناصر اللازمة لصنع قراره، فيعتمد على مساعديه وتقاريرهم ويصبح هؤلاء إذن جزءا من صنع القرار حتى دون معرفة شخصية. يجتمع الرئيس بمستشاريه ويسمع لهم، فيصبحون أيضا جزءا من صناعة القرار، ثم هناك مديرة أو مدير مكتبه، ينظم فى جدوله المشحون من يقابله أو لا، وفى أى وقت، ويشرح واقعة حدثت أو لم تحدث، وهو أكبر الملتصقين به وبالتالى تأثيره فى صنع القرار لا ينازع. ثم هناك الجماعات «غير الرسمية» من الأقارب والأصدقاء والخلان. وهكذا لا يستطيع الرئيس أو المدير مهما كان اجتهاده أن يتجنب التأثر بما يراه أو يسمعه. قد يعتقد الرئيس أو المدير أنه الحاكم الأعلى وينفرد بالقرار ولكن ليس هذا صحيحا. قد ينفرد باتخاذه أو التوقيع عليه، ولكن ليس بصنعه. وفى فترة الرئيس عبدالناصر فى الخمسينيات والستينيات كان بعض الضباط الأحرار خارج الوزارة، ومع ذلك كانوا يؤثرون فى إدراك الرئيس أكثر من كثير من الوزراء، ومن ناحية أخرى فإن علاقة عبدالناصر بالأستاذ هيكل لا تحتاج إلى تفصيل فالوثائق المختلفة تؤكدها. وقبل تعيينه وزيرا فى فترة السادات، كان المهندس عثمان أحمد عثمان يصاحب الرئيس فى تمشيته اليومية المنتظمة، وبالتالى كان حديثه ذا تأثير ليس فقط فى سياسات البناء وتنمية المجتمع، ولكن أيضاً فى «السياسات العليا» (أصر على مصاحبة السادات إلى القدس بينما استقال إسماعيل فهمى وزير الخارجية). ولا يكون الوضع مختلفا مع الرئيس مبارك أو أى رئيس آخر فى هذا العالم المتشعب العلاقات. قد يكون التأثير على القرار حتى من الخارج. باح لى زميل دراسة عمل لبلده الأفريقى بالأمم المتحدة بصعوبة الاتصال أحيانا بوزير خارجيته فى العاصمة عشية التصويت على قرار مهم، فاعتمد على نفسه فى اتخاذ القرار. ولذلك أصبحت خشيته أن يبيع من يخلفه صوت بلاده لمن يدفع أكثر، خاصة فى فتره الضائقة المالية التى تعانيها بعض هذه البلاد، وتأخر أو عدم وصول الرواتب. وهكذا فإن «شراء الأصوات» يعكس واقعًا معيشًا فى الانتخابات المحلية كما فى القرارات الدولية. لا يمكن اختزال صنع القرار وليس اتخاذه فقط فى قمة السلطة التى نراها عادة وتركز عليها وسائل الإعلام، فقد يكون القرار قد صنع فعلا قبل أن يصل إلى مكتب الرئيس. لذلك إذا كنا نبغى التأثير فى سياسة معينة داخليا أو خارجيا فلنبتعد عن هذا التبسيط المخل. باختصار يجب أن يكون لنا تصور سليم عن صنع القرار وتشعباته لكى نقرر متى وعلى أى مستوى يكون صوتنا مسموعا وفاعلا.