1 من الآثار السيئة لتكاسل الأجيال وفتور الهمم بقيت «علوم الحديث» قرونا على حالها دون أن ينالها الدرس الفقهى فيستخرج منها الحكمة النبوية العظيمة. واكتفت الأجيال الأخيرة بالتوقف عن تخريج الحديث ودراسته لغويا، وذلك تقصير شديد فى حق الحديث النبوى ينبغى تداركه. وأول التفقه فى الحديث النبوى يبدأ بما لاحظه الجيل الأول من الفقهاء، إذ لاحظوا أن الأقوال النبوية ليست كلها سننا عامة لجميع الأمة، وميز هؤلاء السابقون بين نص نبوى يعتبر حديثا للتعليم والتثقيف ونص نبوى آخر يعتبر سنة نبوية لعموم المكلفين القادرين. وممن لاحظ ذلك المحدث الأكبر «الإمام البخارى» رضى الله عنه إذ سمى كتابه باسم «الجامع الصحيح لأمور وسنن وأحاديث أيام الرسول صلى الله عليه وسلم».. هكذا يعلن البخارى فقهه فى اسم الكتاب حتى لا يتعامل أحد مع كتابه على أن جميع ما فيه حديث، وأن جميع ما فيه سنن نبوية يدعى الناس إلى التزامها. 2 ومع ذلك نرى بين الناس من يستخرج نصا من كتاب البخارى ويجعله راية ملزمة لجميع الناس على أنها سنة نبوية، وحينما يجادله أحد من المتفقهين تسمعه يقول: «ورد فى البخارى»!! وهذا رد يخالف المنطق الشرعى الصحيح، فالمعترض لا يكذب البخارى ولا يطعن فى كتابه ولا يدور بخلده أن يرد ويعترض على كلام النبوة.. كلا، وإنما المعترض يريد أن يقول ليس كل ما فى البخارى دواء عام، بل فيه أدوية لحالات خاصة لا يفهم مجالها غير الفقهاء. فأهل العلم والفقه يتطلبون فى النص النبوى أمرين أولهما صحة الحديث وثبوته والآخر مجال توظيف الحديث والانتفاع به. 3 ولهذا حذر رسولنا من جرأة البعض على أقواله والمجازفة بشرحها وتفصيلها واستخراج فقهها، فإن حفظ الحديث مهمة علمية وشرحه مهمة ثانية وتفصيله وفقهه مهمة ثالثة، وتلك المهام الثلاث لا يقدر عليها كل مسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «نَضر الله وجْهَ امرئ سَمِع مقالتى فحمَلها، فرُبَ مبلغ أوعى من سامع» ولعل تكرار التحذير النبوى هو الذى قلل من عدد الصحابة رواة الأحاديث، فجميع رواة الحديث من الصحابة لا يبلغ 1000 شخص بينما يزيد الصحابة عن ذلك. ونستدل لذلك بما قدره الرواة أن عدد حجاج حجة الوداع مع الرسول «صلى الله عليه وسلم» كانوا بين 120 و150 ألفا حسب اختلاف التقديرات، فكم يكون عدد الصحابة كلهم إذا؟ ففى الصحابة من لم يذهب إلى الحج هذا العام لأسباب كثيرة، وليس كل رجل قد صحبه زوجة أو أزواجه وأولاده. ومع هذا العدد الكبير فإن رواة الحديث النبوى من الصحابة يقل عن 1000 صحابى، بل وأكثر من ذلك فإن 95% من هذا العدد لا يروى الواحد فيهم سوى حديث واحد أو حديثين، أما ال5% فهم أصحاب العدد الأكبر من الروايات، ولا تنس أن ما رواه أبو بكر الصديق يقل عن عشرة أحاديث، وما رواه عمر بن الخطاب يقل عن عشرين، وجميع الرواة قد التزموا بنقل الحديث كما سمعوه دون إضافة اللهم إلا حالات نادرة معروفة يسميها علماء الحديث «عبارات أو ألفاظ مدرجة» من الراوى فوق النص النبوى. 4 ونذكر الآن مقولة أمير عالم هو الإمام عبدالرحمن بن مهدى. ذلك الذى أوحى إلى الشافعى أن يؤلف كتاب الرسالة فى أصول الفقه. وسمى الكتاب بال«الرسالة» لأن الشافعى أرسلها إجابة على عبدالرحمن بن مهدى. وها هو الرجل رضى الله عنه يقول قولا يحتاج التفقه فيه دهرا إذ قال: «سفيان الثورى إمام فى الحديث، وليس بإمام فى السنة، والأوزاعى إمام فى السنة، وليس بإمام فى الحديث، ومالك بن أنس إمام فيهما جميعا».. فهل أدركت المؤسسات العلمية والدعوية هذه المقولة أم تجاوزتها سيرا مع السهولة والعجز والكسل؟!