كانت الكذبة الكبرى التى أدخلناها على أنفسنا هى أن الأولين لم يتركوا شيئاً للآخرين! اجتهد الأولون ووضعوا علم الفقه وأصوله، وليس لنا إلا نسير خلفهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، اجتهدوا ونضدوا قرائحهم وصنعوا لنا علوم الحديث، وليس لنا إلا أن نحفظ ما قدموه لنا ولا نخرج منه قيد أنملة، فإذا عنَّ لك أن تضيف أو تحذف أو تُصوِّب أو تنتقد من علوم الحديث ما تشاء فأنت مبتدع وسيكون مثواك وبدعتك النار وبئس المصير، وقد تكون ببدعتك هذه منكراً ما جعلوه معلوماً من الدين بالضرورة! وبذلك أصبح الأولون وعلومهم «ديناً»، صنعوا ديناً موازياً اسمه التلمود الإسلامى، وما قدسوا أنفسهم، ولكن جاءت عصور متأخرة فقدست ما فعله القدماء، ألم يكونوا قريبى عهد برسول الله، صلى الله عليه وسلم؟! حين استدل سيدنا على، رضى الله عنه، بالجلد على شارب الخمر بحث فى القرآن فلم يجد، فبحث فى الحديث فلم يجد، ففكر أن شارب الخمر إذا وصل إلى حد السُكرِ هذى بالكلام وافترى، لذلك قرر أن يطبق على السكران حد قذف المحصنات، ما فعله سيدنا على كان اجتهاداً، يرد عليه الخطأ، كما يرد عليه الصواب، فرب من قائل إن مظنة أن يقوم السكران بالقذف هى مجرد مظنة، قد تحدث وقد لا تحدث، لذلك لا ينبغى أن يقام الحد على مظنة، ولكن من جاء بعد سيدنا على أخذها ديناً وأصبحت تجرى بين الفقهاء فى كتبهم وكأنها من الوحى الذى أنزله الله على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم. وبعد قرنين استقام علم الفقه وأصوله على يد الإمام الشافعى، ولكن مباحث هذا العلم وطرق الاستدلال اختُلف فيها بين أئمة المذاهب، ثم زاد الخلاف مع المذهب الظاهرى، وهكذا، ولكن ظل هذا العلم محصوراً بين أئمة القرون الأولى إلى أن جاء القرن الرابع الهجرى وليس هناك إلا ما قاله الشافعى وما اجتهد فيه أبوحنيفة ومالك وغيرهم، ومرت القرون والعلماء فى كل جيل ومن كل طبقة يأكلون من نفس الطبق ويسيرون على نفس الخط، غاية الأمر أن هذا يوافق على العرف ويجعله من الأدلة الشرعية، وذاك يرفض العرف لأسباب لديه، وهذا يوافق على الاستحسان وآخر يرفض، وغيرهم يرى الأديان السماوية السابقة تصلح أن تكون دليلاً شرعياً وجمهرة ترفض، هى هى نفس الدائرة لا جديد فيها، ومرت مئات السنوات ولم يضف أحد إلى علم أصول الفقه شيئاً، وكل ما يفعله الدارس المجتهد هو بذل غايته فى حفظ ما قاله الأولون، فأنت إما شافعى أو حنفى أو مالكى أو زيدى أو حنبلى أو ظاهرى أو إباضى أو جعفرى، تسير وراء أحد هؤلاء وتحفظ ما قالوه حفظك لاسمك، آنذاك تصبح عالماً يُشار له بالبنان، وشيئاً فشيئاً أصبح الفقه ديناً، فقه هؤلاء هو الدين، نعم هذا ما وصلنا إليه، حتى إن علماء الأزهر وقادة الجماعات السلفية فى المناقشة الأولى لدستور الإخوان الساقط كان كل همهم هو جعل الفقه مصدراً للتشريع، ليس أى فقه ولكن فقه المذاهب الأربعة، وصدر دستورهم بهذه السقطة. ستسألنى ولماذا هى سقطة؟! المسألة يا صديقى أن الفقه معناه الفهم، وأئمة المذاهب، جزاهم الله خيراً، وضعوا وسائل تعينهم على فهم النص الدينى ليستخرجوا منه الأحكام الشرعية، يعنى بالاختصار أنهم شرحوا لنا كيف اجتهدوا ليصلوا إلى الحكم الذى يرونه متفقاً مع مراد الله، ولذلك كان ما اجتهدوا فيه مجرد «علم» والعلم ننسبه للبشر الذين ابتكروه ولا يمكن أن ننسبه لرب البشر لأنه أراد لنا ذلك، أراد أن نجتهد ونفكر، وفقهاء المذاهب بذلوا جهدهم لا شك فى ذلك، ولكن هذا الجهد ارتبط بالزمان والمكان، وحين مرت الأعوام، مات المجتهد، وكل شىء فانٍ، وتغير المكان والزمان، وحدثت فى الدنيا أشياء ما كان خيال أئمة المذاهب ليصل إليها، ومع ذلك ظللنا فى نفس الدائرة لا نخرج منها، نبحث عن فقه أبى حنيفة، ونتعصب لفقه الشافعى، ثم إذا بنا نجعل طريقتهم مصدراً للتشريع مثله مثل القرآن! نفس الأمر تستطيع أن تبوح به للأمة كلها بخصوص علوم الحديث، ومع اعترافنا بأن المحدثين القدماء اجتهدوا ما استطاعوا فى تنقية الأحاديث من كذب الكذابين والوضاعين، وكانت طريقتهم فى ذلك هى علم الجرح والتعديل، أو كما يقولون عنه علم الرجال، حيث يتعقبون الرواة ليعرفوا حياتهم ومدى صدقهم وأمانتهم، ومع ذلك ولأن هذا الأمر هو علم بشرى، يضاف إلى البشر، فقد رفض البخارى رواية البعض ولم يقبل منهم شيئاً لمظنة عنده بشأنهم، وقبل مسلم رواية نفس من رفضهم البخارى، إذ لم ير أن ما وجه إليهم يعتبر مطعناً ينال منهم، ونفس الشىء حدث مع كل علماء الحديث لأن علم الرجال هذا هو من العلوم التى لا يمكن أبداً أن نتفق عليها. ولكى أضرب مثالاً لذلك فقد ظهر على القنوات الفضائية عدد من العلماء ينكرون أن سيدنا أبا بكر، رضى الله عنه، أمر بحرق مرتد، وقالوا إن من رواة هذا الحديث رجل لص لا يؤخذ منه، والحقيقة أنه آلمنى أن يقول دعاة التليفزيون عن راوى الحديث إنه لص، إذ الأدق والأكثر أمانة أن يقولوا «كان فى شبابه لصاً ثم تاب» ومع ذلك فبسبب أنه كان لصاً فى شبابه رفض البخارى هذا الحديث، وهذا من حقه، فهذه من القيود التى وضعها فى علمه، ولكن أئمة غيره قبلوا رواية هذا الراوى اللص التائب وأخذوا الأحاديث التى رواها، ومن هؤلاء الإمام الشوكانى وابن تيمية وابن كثير والطبرى، وأنا قطعاً لا أتهم سيدنا أبا بكر بمسألة الحرق هذه ولكننى أكشف لكم أننا يجب أن نضع قواعد جديدة لعلم الحديث، لا تجعلنا نعوِّل على الرواة وحدهم، ولكن متن الحديث يجب أن يأخذ الجهد الأكبر فى الموازنة والترجيح حتى نلتمس الحديث الصحيح كما التمس القدماء الحديث الصحيح، ولكننا الآن وصلنا إلى علوم وتطبيقات لم تكن لدى القدماء وحق لنا أن نجدد ونعيد التوثيق. وبعد عمر قضيته فى الدراسة والبحث أكاد أقسم أن مرتبة حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عند الصحابة لم تكن بنفس الدرجة التى وصلنا إليها عبر عصور طويلة، فلك أن تقطع الصفحات وتنتقل بين الأوراق فى البخارى لتبحث عن حديث رواه سيدنا أبوعبيدة بن الجراح فلا تجد! نعم هناك قليل من الأحاديث نُسبت له فى كتب أخرى غير البخارى، ولكن هذا بخارى الحديث الذى يقولون عن كتابه إنه أصح الكتب! ثم ابحثوا عن كم حديث رواه الصحابة الكبار، ما هى أحاديث ابن الخطاب والصديق وعثمان وعلى؟! ستجدون عجباً، فهى من قلتها بحيث لا يمكن أن تقاس إلى كل ما ورد من أحاديث عامة، ثم فكروا، لماذا كان سيدنا عمر بن الخطاب يضرب فى عهده رواة الأحاديث وينهاهم عن ذلك، ولماذا هدد أبا هريرة بالنفى إلى أرض دوس إن لم يتوقف عن رواية الحديث، هل كان الصحابة الكبار يحاربون الدين ويضطهدون ما رواه المصطفى، صلى الله عليه وسلم؟ المسألة المنطقية تقول إن كان ما رواه صحابة الحديث ديناً فهل يمكن أن يكتم الخلفاء الراشدون هذا الدين، ويضربون من يرويه ويحرقون ما وصل إليهم؟! نحن الآن أيها الكبار فى القرن الحادى والعشرين، وهب الله لنا عقولاً وقلوباً، وطلب منا أن نفكر، ونجتهد، ولا نكون كمن قالوا «بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا» ويا ويحنا إن جعلنا من علوم القدماء وفقههم ديناً موازياً للقرآن، فنكون كأولئك الذين صنعوا من أقوال أحبارهم تلموداً.