عندما دعت أسرة «الشروق» منى الكتابة فيها لازم حماس رغبتي في الاستجابة تردد ناتج عن عجزي الإبحار في تضاريس الخطاب السائد في القلعة القومية للأمة العربية أي مصر التي كانت دوما ساحة التلاقح وجسر التواصل بين المخزون النضالي في أفريقيا العربية، والتراث المتجذر للفكر القومي المستنير، الذي ميز مسيرة العمل العربي في المشرق الآسيوي للأمة. كانت بالنسبة للجيل الذي انتمى إليه ينظر إلى مصر أن عروبتها ثقافة وهوية ودورا هو الثابت وسط المتغيرات الإقليمية والدولية، وبالتالي تشكل بحكم حجمها وعراقة مؤسساتها الروحية والسياسية والفكرية والعلمية، إضافة إلى مركزيتها الجيوسياسية، العامل الميسر لتسريع التعارف والتلاحم بين مختلف أقطار الأمة وشعوبها. هذا الشعور بل هذه القناعة أشعرتنا، ولا تزال، أن لنا حق المشاركة في إبداء الرأي والإسهام في صناعة القرار، لا تحديا لسيادة، بل امتثالا لحاجتنا الملحة الاستقواء بها، وبحقها أن تستقوي بنا. يستتبع هذه القناعة انه لا يمكن أن يعتبر الرأي المخالف "تدخلا"، بل حصيلة تداخل تلقائي أملته الروابط التلقائية الحميمة الجامعة بين شعوب الأمة وأن افترقت الكيانات بسبب القيود المفروضة، والتي أفرزتها عهود الاستعمار والانتداب ومن ثم الهيمنة ومحاولات اختراق وحدة الأمة والتفريق فيما بين أوطانها. وبرغم التباين واختلاف الظروف الموضوعية التي أدت إلى إنجاز استغلال الدول في مراحل متعددة، إلا أن ما كان يفرق بقى خاضعا مما يجمع.. وبقيت هذه القناعة راسخة كما تؤكدها الاستجابات الفورية التي تمثلت بالمظاهرات الجماهيرية أثناء حروب التحرر الوطني، وأخيرا الاحتضان الشعبي الواسع إبان مجزرة غزة مما دل على وحدة قومية شاملة، تحمل في ثناياها مؤشرات ضاغطة لوحدة المواقف، والتي بدورها تعبر عن حيوية لشرعية عروبة القومية وإقرارا مرحليا بقانونية الكيانات الوطنية التي ينتمي جميع العرب إليها. من هذا المنظور نستطيع أن نتفهم التذمر المتبادل بين من يعتبرون قانونية السيادة مطلقة وبين اللذين يعتبرون أن شرعية التوجه الوحدوي يجب أن تبقى منفتحة على الواقع القطري المتمثل بميثاق الجامعة العربية، كآلية مرحلية تتضمن استمرار التنسيق الملزم بين قانونية الدول وشرعية الانتماء القومي، هذا يعنى ضرورة التركيز على بغية تفعيل البعد الشرعي الذي بدوره يوفر المناعة للمجتمعات العربية، والتي عانت عبثية التفرقة كما أدت إلى الحروب الطائفية والقبلية والعرقية، ولاستباحة حتى السيادة القانونية لعديد من الدول العربية.. والتي في أشرس تجلياتها مكنت المشروع الصهيوني الحيلولة دون حق الشعب الفلسطيني تقرير مصيره كدولة على أرضه، و التي ترفض إسرائيل منذ عام 67 اعتبار كونها محتلة و تتصرف فيها كأنها مالكة.. ولا شك أن هذا الرفض لكونها محتلة هو بمثابة رجع الصدى لعام 48 رفضها كونها مغتصبة، لكن هذا موضوع آخر. المهم أن تكون هذه العجالة مقدمة لقناعات أردت عرضها كي يدرك القارئ أنى وان أتوخى الموضوعية في مساهماتي، إلا أنى أؤكد أيضا أن الموضوعية ليست مسافة واحدة بين الحق والباطل، بل أن تكون دائمة الالتزام بضبط المصطلح حتى لا تبقى المفاهيم عرضة للتشويه أو أحيانا للتعدية، وإذا كان ما أشرت إليه قد يعتبر تحيزا، فهذا صحيح، فأنا مثل الكثيرين غيري متحيز للشرعية القومية إذا تناقضت مع قوانين سيادية تحول دون حق التداخل وحميته وحاجة الأمة لتعزيز التداخل التلقائي الدافئ. لكن الإقرار بشرعية الوحدة القومية لا يلغى مطلقا الإقرار بسيادة الأقطار العربية، والتي جامعتها أداة التنسيق فيما بينها، لكن على القيمين على مهام الجامعة وأمانتها العامة أن يتصرفوا ويتعاملوا مع الأحداث والتحديات التي تواجهها الأمة ومختلف أوطانها على كونها جامعة الدول، وبالتالي مسئولة تجاه مجتمعاتها المدنية والأهلية وجماهيرها كما هي مسئولة لدى الأنظمة والحكومات العربية. هذا التوقع الشعبي من الجامعة العربية هو في جوهره تعبير عن واقعية الجماهير العربية، التي تع مسئولية الجامعة تجاه الحكومات وإذ لم تستقيم المعادلة القائمة الاعتراف بحق المساءلة وحق المشاركة، عندئذ تتهاوى شرعية الجامعة. وبنفس الوقت، بالمفارقة تتهاوى بالنسبة للحكومات الحاجة إليها! من هذا المنظور نجد أن جامعة الدول العربية في إحدى أدق مراحلها، لذا عندما يجد ملتزمو الوحدة القومية ضرورة تفعيل كون أمانتها العامة فريق قومي، وكثيرا ما تتصرف كأنها جامعة حكومات عندئذ يكون الانتقاد لأدائها هو من موقع مفهوم رسالتها، وبالتالي الحرص عليها، لا من موقع التربص. هذا يعود إلى الوعي الجماهيري بأن الجامعة العربية لديها إمكانيات كما تواجه معوقات، لكن تبقى بنظرنا إطار يؤكد عروبة هوية الأمة، وبنفس الوقت يضطر إلى التلعثم عندما يقترب من بلورة القرارات. وهذا يعود أن ضآلة مشاركة مؤسسات المجتمعات المدنية في صنع القرارات، وعدم توفر قراءة مشتركة للتطورات الإقليمية والدولية تشكل ضمانة مضيئة للقرارات المنفردة للحكومات أن توفرت. في مطلق الأحوال تدرك جماهير الأمة أن أهدافها لن تحقق فورا.. كما تدرك أنها بحاجة لإطار ينظمها ولمرجعية موثوقة توجهها، وهذا يعنى كما أشرنا ضرورة ضبط المصطلحات، دقة التحليل وترجيح الالتزام بالشرعية القومية دون الانخراط في المبالغة لإمكاناتنا، لكن دون الاستهانة باحتمالات الإنجاز.. وحتى صيرورة الأهداف القومية المشروعة. فيتراءى للعديد من أمثالي أن صدور «الشروق» في هذا الوقت بالذات، ووسط الأعاصير العاتية التي تكاد أن تعصف بمصيرنا وتبعثر طاقاتنا، أجل جاء توقيت صدورها كي تحول الغضب المشروع من جاذبية الانفعال إلى نجاعة الفعل، وأن تكون المنبر الذي يمهد لنهضة واعدة، متفاديا العراقيل، داعيا لاستعادة تعريف الكرامة كالواقعية الجديدة، وأن يستعيد لمصر فعلها التعبوي لطاقة الأمة ومكانتها في عالم متغير، ليكون موقعها في القادم من أحداث رائدة في هندسة نظام متعدد القطبية مثلما عرفت مفهوم الاستقلال كونه استقلالية الإرادة. قد يكون ما نتوقعه من منبر «الشروق» أكثر من إمكانيات متوفرة إلا أن المنبر الملتزم رسالة يتحول بالضرورة إلى أن يصبح مدرسة.