شوقي جلال واحد من ابرز الأسماء الفكرية في العالم العربي, التي احتلت موقعا خاصا في عالم الترجمة علي الساحة الثقافية المصرية والعربية فقد أثري المكتبة العربية بأكثر من60 كتابا مترجما في شتي فروع المعرفة وستة مؤلفات أبرزها العقل الأمريكي يفكر, الترجمة في العالم العربي علي طريقة توماس كون.. رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم, التراث والتاريخ, نهاية الماركسية.يعكف شوفي جلال علي إنجاز مشروع فكري مؤثر قائم علي ترجمة الكتب العلمية والفكرية, من ناحية, وعلي تأليف الكتب التي تسد فراغا فكريا ما, من ناحية أخري. كما أنه عضو اتحاد كتاب آسيا وافريقيا وعضو لجنة الترجمة ولجنة قاموس علم النفس بالمجلس الأعلي للثقافة وساهم في العديد من المؤتمرات المصرية والعربية. التقيناه في هذا الحوار الذي تحدث فيه عن بداياته ومشواره. * في البداية أود لو أعطيتنا نبذة ولو صغيرة عن النشأة والتكوين كيف كانت وما هي المؤتمرات التي شكلت شخصيتك ووجدانك؟ ** ولدت عام1931 في منطقة الإمام الشافعي في القاهرة وهي منطقة جمعت بين الحياة والموت معا في تحد وتقارب.. حيث الحياة والموت في جوار أو امتداد تواصل وتكامل. الحياة والموت حدثان طبيعيان.. الموت يسخر من الحياة والحياة تنتصر لنفسها أبدا ولا معني لأي منهما دون الآخر.. وقد ترسخ في نفسي أن الحياة فرصة لإثراء الوجود زمنا وإلي حين فرحة بالحياة وغضبة من الموت, ولعل هذا هو ما جذر الوجدان الصوفي الذي غلبني في صباي, ولعل هذا أيضا السر في أن حلقت خيالات صباي بعيدا إلي عالم الأفلاك وقراءة علوم الفلك وكذا إلي الحياة في دير سانت كاترين الذي كنت أشاهد صورة له في البيت. وأضاف نشأت في احدي الأسر المصرية البسيطة التي لا تعرف التعصب الديني, أبي عامل فني في سلاح المهمات, وصاحب ورشة في حي الخليفة, عرف البيت الغني ثم الفقر في مرحلة أخري, فقد أنجبت أمي نحو17 طفلا, كان عاشقا للقراءة ولا أقول أنه وحده فقد كان هذا الجيل كله, جيل الثلاثينيات الذي رسخ في حب القراءة, وكان يشتري مجلة الفجر الشيوعية, واعتدت كذلك أن أري أصدقاء أبي من مسلمين ومسيحيين ويهود يجمعهم الود دون ان ترد صفة التمييز بين أي منهم. ومضي قائلا: كان أبي المسلم الملتزم أول من ذكر لي كلمة التطور وأسم داروين, وشرح المعني بالنظر إلي الدجاج والبط في البيت.. لقد عشت في منزل تدور فيه أحاديث عن مصر والعالم. وفهمت منه حق المواطن في المعرفة والاستقلال والحرية. وتعلمت من أمي التضحية والنظرة الصوفية. الإخوان في الميزان * المؤرخون الذين كتبوا عن تلك الحقبة من تاريخ مصر يتحدثون عن تيارات فكرية وسياسية عدة كانت تتصارع أو تتكامل, فهل انضممت إليها ولماذا؟ ** نعم عرفت الطريق إلي الإخوان المسلمين وأنا في الصف الأول الثانوي حيث الصلاة وتعلم الخطابة والرحلات والحديث عن استقلال مصر.. ولكنني انصرفت عنهم وتركتهم يوم أن اشتريت كتابا بعنوان الأخوان في الميزان, ورآه معي جلال سعدة المسئول الأخواني, واستعاره ليومين ولما طلبت منه اعادته لم يرده.. فعرفت أنه حجبه عني أو صادره, فانصرفت عنهم, فأنا لا أطيق حجرا علي حريتي. طبعا كانت تلك الفترة من تاريخ مصر مملوءة بالتيارات السياسية والوطنية المختلفة من الإخوان والوفد والشيوعيين ومصر الفتاة.. غير أنني كنت دائم القراءة في كل الاتجاهات, القرآن والعهدين القديم والجديد ومجلة الفجر الجديد وكتب مثل لماذا أنا ملحد؟ ولماذا هو ملحد؟ ولماذا أنا مسلم؟ والرد علي الدهريين ورسالة التوحيد.. وتأثرت بقوة بفكر ومنهج الأفغاني.. واعتدت مع كل فجر أن أقرأ آيات من القرآن وأبياتا من شعر صوفي أو ترجمات لشعر هندي, وأحببت كثيرا كتاب السادهانا لطاغور. وهكذا نعمت بمتعة التنوع والبحث عن المزيد, ولم أر تناقضا في أن أنهل من كئوس الحب فأشرب لأروي ظمأ لا يرتوي.. ويطيب لي سماع أغنية: قالوا أحب القس سلامة وهو التقي الورع. الخروج من الأوهام ويستطرد شوقي جلال: ثم انقطعت المسيرة باعتقالي عامين مع الإخوان ولست منهم عام1948 م. في معتقل الهايكستب حيث الإخوان والشيوعيون واليهود. وخرجت مع عودة الوفد إلي الحكم, وكان همي أن أتجاوز الضائقة الاقتصادية التي يعاني منها البيت, وأضمن الالتحاق بالجامعة, واشتركت في مسابقة ضمنت لي الالتحاق المجاني فضلا عن حصولي علي مجموع يكفل لي الالتحاق المجاني عام1952/1951 م. * وماذا عن فترة الجامعة وما الذي لاتزال تتذكره عنها إلي اليوم؟ ** في الجامعة مارست حياة الفكر الحر فكنت لا أكف عن القراءة في كل الاتجاهات.. فقرأت عن البوذية وبوذا, واستهوتني التيرفانا والتوحد مع الكون. وقرأت عن كونفوشيوس واستهوتني عقلانيته ورأيت في نظرية التطور منهجا في التفكير ورأيت في الماركسية من خلال قراءاتي الشخصية إطارا لتفسير ظواهر حياتنا الاجتماعية, وتطورت رؤيتي مع الزمن, ولم أكن بعد مشاركا تنظيميا مع الشيوعيين.. مشيرا إلي أن الشخصية الثانية التي تأثر بها هي الفيلسوف الهندي رادها كراشنان, بعد أن قرأت كتابه ديانات الشرق وفلسفة الغرب إذ طالعت عبارة يقدم بها الفصل الأول تقول: إذا تعالينا عن الفوارق الجزئية بين الأديان سنري أنها جميعا واحدة لأن الإنسان واحد فقد رأيت فيها مفتاحا لقضايا تؤرقني عن الإنسان. الأديان والكون, وفتح لي هذا الرأي أبواب دور العبادة جميعها علي اختلاف عقائدها.. مسيحية ثم بوذية وكونفوشية وطاوية وهندوسية. معتقل بلا تهمة محددة! * قلت له تعرضت للسجن والاعتقال بعد الثورة ما هي الأسباب وما الدرس الذي خرجت به منها؟ ** في عام1954 اعتقلت ثانية مع الإخوان بضعة شهور في العامرية, ثم سنتين في السجن الحربي, والتقيت داخل الزنزانة بشخص يتصف بالذكاء والصدق والحماس المتدفق والإصرار علي النضال.. هذا هو المناضل الراحل صلاح حسين من كمشيش, قضينا فترة الاعتقال في حوار هامس عن الماركسية, وأنا لست شيوعيا, ثم التقينا بعد الخروج من المعتقل, وزرت كمشيش التي أثرت في وجداني, وعرفت من أهلها حقيقة معدن الإنسان المصري الصلب والمتسامح الواعي... انه الذهب الخالص حتي إن تواري أو أخفته الظروف والأحداث. يمضي جلال في ذكرياته قائلا: واعتقلت ثانية عام1959 م, خمس سنوات مع الشيوعيين في الفيوم ثم أبي زعبل ثم الواحات كنت منهم وهيأ لي المعتقل في الواحات فرصة للمشاهدة علي الطبيعة, المشاهدة المكشوفة لما أخفته سرية التنظيمات في الخارج فقد عشت مع قبائل وعقليات قبلية وصراعات قبلية.. واعتزلت وخرجت من المعتقل1964 م وبقيت اكثر من عامين بلا عمل علي الرغم من عودة الشيوعيين إلي أعمال بجهود تنظيماتهم كما اعتقلت عام1965 مع الإخوان ثانية وقدت داخل سجن القلعة مظاهرة ضد الإخوان, أعلنت بعدها الإضراب عن الطعام لمدة ثلاثة ايام ثم افرجت عني السلطات. مرفوع من الخدمة! وفي حسرة وألم وصدق مع الذات والآخر لم أشأ أن اقاطعه في هذه اللحظة المؤلمة التي يتذكر فيها المفكر الكبير شوقي جلال ما وقع له شخصيا إبان نكسة67 عندما سعي للتطوع في الدفاع عن وطنه لكن الجهل والتعنت يواجهه مرة اخري حيث يقول: مع هزيمة1967 م المخزية غلبتني مشاعر التحدي والمقاومة مثلما غلبني الغضب علي النظام والخوف علي مصر وقررت التطوع, والتحقت بمعسكر مدرسة الإبراهيمية متطوعا, لا للدفاع عن النظام الناصري بل عن مصر, ولكن في ذات اليوم الذي سجلت فيه اسمي متطوعا استدعتني ادارة المباحث العامة وسألني الضابط المسئول: لماذا تطوعت؟ وبعد ان اجبته, قال: انت بالذات لأ.. تروح بيتكم.. وبلغ الشعور بالغربة ذروته, إنها غربة جيل بأكمله.. وبعد فترة تأمل وأنا ممنوع من الكتابة ومن السفر, رأيت أن أواصل الترجمة لأتحدث بلسان غيري إلي أن يحين وقت التأليف وحرصت أن يكون جهدي مشروعا ثقافيا تنويريا يتكامل مع جهود التنويريين من أجل مصر والإنسان. أنا صاحب مشروع فكري * من هنا هل يمكن القول انك صاحب مشروع فكري؟ ** أنا صاحب مشروع فكري, تطور وتغير عبر الزمن, ولكن ظل الهدف واحدا وهو إعادة بناء الإنسان المصري والعربي ذهنيا وفكريا, ليهتم بقيم المعرفة والعلم, بدلا من أن يظل أسير الخرافات والماضي والترجمة مكمل لمشروعي الفكري, في واقع الأمر كنت ممنوعا من العمل في الكتابة, ولذلك كانت الترجمة فرصة لأعبر عن رأيي الذي أؤمن به علي لسان غيري, لذلك أضع مقدمة طويلة وهوامش لأسهم بفكري في الكتاب. وأضاف: لا تزال عندنا عقدة الخواجةفنحن نتقبل من الكاتب الأجنبي ما لا يمكن ان نتقبله من نظيره, الذي يعيش في الوطن العربي, ولا اقصد الكتاب العرب الذين يعيشون في بلدان أوروبية فهم لديهم حرية التعبير, كما ان الكتب المترجمة أكثر رواجا وتجذب الكثير من القراء, لذلك فهي وسيلة جيدة لأعبر عن آرائي بين ثنايا الكتاب الذي اختاره بعناية ولا تفرضه دار نشر أو اية جهة أخري. وعلي سبيل المثال بدأت وأنا في السنة الثانية بالجامعة في ترجمة كتاب مذكرات داروين صاحب نظرية التطور وذهبت بالترجمة إلي حلمي مراد الذي كان يصدر سلسلة كتابي لنشرها فطلب مني نشرها بدون اسمي فرفضت وخسرت الترجمة في ذاك الوقت وبعد تخرجي من الجامعة شرعت في ترجمة كتاب السفر بين الكواكب وكان بمناسبة انطلاق اول قمر صناعي أو كما يقال أول مركبة فضائية وكان الكتاب يلائم صخب العالم في ذلك الوقت حول الفضاء. التقدم والتخلف * في هذه الحال التي وصفت فان السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا تقدمت الصين رغم مشاكلها وتأخرنا نحن؟ ** سوف اعطيك مثلا ففي الصين كانت هناك رغبة في الردة والعودة إلي الماضي, ولكنهم وجدوا أن العالم كله يتقدم وهم يتأخرون, وكانت لديهم إرادة التغيير, لذلك خاضوا صراعات مريرة مع القوي الرجعية, وانتصرت قيم التمدن والحداثة والإيمان بالمستقبل والحياة في النهاية, وكان غرضها هو النهوض بشعوبهم وكانت لديهم رؤي واستراتيجيات وخطط لإنقاذ شعوبهم من براثن الجهل والفقر, وكان من الممكن لمصر والوطن العربي إذا حقق تكافلا اقتصاديا ان يكون مركزا اقتصاد عالميا مؤثرا, ولكن الفجوة بيننا وبين هذه الشعوب تتسع اكثر عما كانت عليه في الخمسينيات والستينيات, حيث كنا في تلك الفترة أفضل منهم. وأضاف أن المثقف المستنير هو الذي يحافظ علي مسافة نقدية بينه وبين السلطة, وإذا أدرك المثقفون مدي قوتهم واتحدوا فإنهم سيغيرون الواقع, ولكن السلطة أدركت قوة المثقفين وأفسدتهم, وأنا عن نفسي حرصت علي ان تكون هناك مسافة بيني وبين السلطة, لذلك لم أسع للحصول علي أية مناصب أو جوائز, ولكني كرست حياتي لكتبي ومشروعي. * أخيرا هل تشعر بالرضا كلما نظرت إلي حياتك وإنتاجك الثقافي الرفيع؟ ** طبعا أشعر بالرضا لأنه يوجد افراد قرأوا لي ويؤمنون معي بأهمية العلم, ولكني أشعر بالأسي لعدم إمكانية تحويل الفكر إلي واقع, ومع هذا فإني اكتب لتستمر الحياة والأمل, وعندما أسمع عن جماعة تنادي بالتغيير اتمني ان ينجحوا ويستمروا.