منذ ما يقرب من 15 عاما كنت أمارس لعبة ألعاب القوى، وتحديدا الوثب الطويل والوثب الثلاثي.. كنت واحدا من الواعدين في هذه اللعبة.. زاملت وقتها حاتم مرسال ذلك البطل المصري الأسمر الذي حاز بعد ذلك أكثر من لقب فكان ثالث العالم وبطل إفريقيا والعرب.. كنا في مرحلة سنية واحدة.. صحيح أنني لا أتذكر أنني فزت عليه، ولكن أرقامنا كانت قريبة، ودائما ما كنت منافسا قويا له.. في هذه الفترة كانت هناك موهبة مصرية متفجرة متمثلة في شهيد الرياضة المصرية وقتها، وصديقي العزيز "محيي" -رحمه الله-.. ذلك الشاب الذي أخذ يحطم كل الأرقام المصرية التي تواجهه في الوثب العالي.. أتذكر وقتها أنني كنت أنا ومحيي وصديقنا الثالث الذي لا أعرف أين هو الآن "هاني درويش" نجيد لعبة كرة السلة، وكنا نهزم أي فريق، والفضل بالطبع ل"محيي" بقامته الممشوقة وقفزاته الرشيقة.. مازال اللقاء الأخير لي معه ماثلا في الذاكرة.. أخذ محيي يحدثني عن عرض قدم إليه من مسئولي كرة السلة في النادي الذي كنا نلعب له بأن ينضم لفريق كرة السلة، وأن يترك ألعاب القوى.. قلت له وقتها: "افعل.. ماذا صنعت لنا ألعاب القوى؟ أنت بطل مصر وصاحب الرقم القياسي المصري رغم أن عمرك لم يكمل عشرين عاما، فماذا يمكنك أن تفعل في ظل سوء إدارة الرياضة المصرية، ولعلك تجد في كرة السلة على الأقل تعويضا ماديا ولو مقبولا".. ولكنه لم يفعل.. وتوفي محيي.. أو دعوني أدقق وأقول إنه استشهد.. مات محيي في ملعب ألعاب القوى بعد أن أغراه البعض -ولا أعرف السبب حتى الآن- بأن يلعب إلى جانب الوثب العالي القفز بالزانة، وكان القدر أو الإهمال لا أدري، فقد سقط محيي على الأرض من ارتفاع يزيد على أربعة أمتار لتكون قفزته الأخيرة إلى جوار ربه وإلى رحاب الجنة.. كانت هذه اللحظة فارقة في حياتي.. لم أعد مقبلا على هذه اللعبة التي لم تصنع شيئا ل"محيي" سوى أنها قتلته.. وتركتها بلا عودة.. وإن ظللت شغوفا بها ولكن من على مقاعد المشاهدين والمتابعين.. ولم أكن وحدي الذي حدث معه هذا وإنما أزعم أن جيلا بأكمله قتل مع موت "محيي".. هذه هي الألعاب الشهيدة كما تسمى.. أبطال بمعنى الكلمة لكنهم لا يأخذون شيئا.. لا شهرة ولا نجومية ولا مال ولا سلطة.. يحققون إنجازاتهم سرا، ويتفوقون سرا، وينفقون من جيوبهم الكثير، ولا ينالون شيئا.. ثم في النهاية يموتون سرا.. وعبر وسيط "الفيس بوك" ذلك الأداة العبقرية التي فجرت ينابيع الثورة المصرية لتروي ظمأ المصريين إلى الحرية والكرامة.. عبر هذا الوسيط التقيت ذكرياتي القديمة.. التقيت باقة من أبطال ألعاب القوى الذين قرروا أن يتواكبوا مع الثورة المصرية بإحداث ثورة جديدة في رياضتهم التي تنبض قلوبهم بحبها، وذلك من خلال صفحة على الفيس بوك بعنوان "مبادرة محبي ألعاب القوى للمشاركة بالأفكار التسويقية وتنمية الموراد الذاتية".. اجتمعوا وفكروا وخططوا.. وسأترككم لبعض من أفكارهم: "إنها خطوة متواضعة نتمنى أن تتسع بمشاركتكم وتفاعلكم وأفكاركم لتقطع أميالا بعيدة برياضتنا الحبيبة لتلحق بركب العالمية لتعبر عن عظمة مصرنا الحبيبة الزاخرة بالمواهب التي لا ينقصها إلا التخطيط والعزيمة الجادة للوصول للأهداف البعيدة.. ولدت مبادرتنا لجمع الأفكار التسويقية لتوفير التمويل الذاتي للقائمين على إدارة اللعبة لكي لا يصبح نقص الدعم الحكومي عذرا بعد اليوم".. هكذا كتبوا على صفحتهم.. وأخذوا يقدمون الأحلام واقعا سهل المنال، ولكنه يحتاج العمل والجهد.. وفاجأتني بعض الأفكار، وكان على رأسها هذه الفكرة: "مقترح تقدم به الكابتن حاتم مرسال وهو تنظيم مسابقة للوثب العالي يحضرها لاعبون عالميون في ميدان التحرير".. قد يقول البعض ما هذا الجنون؟ إنها فكرة غير قابلة للتنفيذ.. ولكن لنكمل: "المقترح تتوفر جميع جوانبه من تصور لإخراج الحدث ورعاة جاهزين للتمويل والإعلان والتسويق من خلال شركة يملكها أحد أبناء اللعبة ولا ينقصها غير الموافقة الأمنية.. إنه حدث نود به استثمار فرصة أن أنظار العالم أجمع موجهة صوب ميدان التحرير أي أن التغطية الإعلامية العالمية متوفرة تحت بند نقل صورة للعالم مفادها أن المكان الذي احتضن الثورة وانطلقت منه شرارتها الأولى هو نفس المكان ذاته الذي ستنطلق منه أولى خطوات البلد نحو اللحاق بركب الدول المتقدمة في جميع المجالات ولنجعل الرياضة بشكل عام وألعاب القوى بشكل خاص صاحبة المبادرة".. تأملت هذه الكلمات التي كتبها صديقي وبطل الوثب أيضا "هيثم نور" وتذكرت "محيي" مجددا.. ما هذه المفارقة الغريبة؟ لماذا الوثب العالي تحديدا؟ هذا النوع من السباقات الذي تألق فيه كثيرا، ومازالت خطواته الرشيقة ووثباته الرائعة أراها في مخيلتي.. هل آراد الله أن يحتضن شهداء ثورتنا العظيمة شهيدا آخر ذهب في زمن أسقط كل أحلامنا وداس عليها سعيدا مبتهجا غير مبال بدمائنا وأرواحنا.. هل آن الأوان لنتذكر "محيي" كما نتذكر شهداء ثورتنا، وهل آن الأوان ليثب بنا "محيي" وثبته العالية فوق ميدان التحرير... وثبته العالية التي تضع مصر في مكانتها التي تستحقها.. أدعو الله أن يتحقق ها الحلم. وأدعو ل"محيي" بالرحمة، ولتدعوا جميعا له.. *