يُعدُّ القاضي (جامبا نستافيكو) عام (1725م) في كتابه (العلم الجديد) هو حامل فكرة البنيوية ؛ فهو يرى أنّ المجتمعات جُلُّها هي التي تخلق نفسها أو ذاتها، بمعنى أنّ الشيء الواحد لا مكان له في الحياة إلا إذا وجد في مجموعة، وهذه المجموعات تشكل معًا المجتمعات وليس المفردات . ثمّ نضجت فكرة البنيوية عند دي سوسير وتكاملت على يد براغ وبلومفيلد كما سيظهر لاحقًا (2). وفي القرن التاسع عشر نادى الباحث الاجتماعي اليهودي دوركايم بالنظرية المسماة "العقل الجمعي"، ودعا إلى دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها "أشياء مستقلة"، وتبعاً لذلك ظهر الباحث اللغوي السويسري " فرديناد دي سوسيور " بنظريته في "ظاهرة اللغة"، حيث جرد اللغة من دلالاتها الإشارية المألوفة وعدها نظاماً من الرموز يقوم على علاقات ثنائية ، ومن هنا ظهرت فكرة "البنية" . وتعود البنيويَّةُ في اللِّسَانِيَّاتِ إلى ما قبل عام (1930م) في أوربا والولايات المتَّحِدَةِ ، وتعني البنيوية كما رأينا منهجَاً جديداً في تناوُلِ حقائقَ معروفةٍ بالنَّظرِ إلى وظيفتها في النِّظَامِ كما تَنْظُرُ إلى الوظيفة الاجتماعية في اللُّغَةِ (الوظيفة التَّواصليَّةِ) ، إلى جانب التَّمييز بين الجوانب التَّاريخية, وخصائصِ النِّظَامِ اللغَوِيِّ في لحظةٍ زمنيَّةٍ مُحدَّدَةٍ . وبلغت البُنيويَّةُ أوجَها في الفترة الواقعة بين (1925 – 1950م) . وبذلك نستطيعُ القولَ إنَّ المدارس اللغوية منذ (فرديناند دي سوسير) وحتى (تشومسكي) تنتمي إلى اللسانيات البنيويَّةِ بصورةٍ أو بأخرى , لأنَّها جميعاً تؤمن بأنَّ اللغَةَ عبارَةٌ عن نظامٍ مِنَ العلاقات, لذلك سَمَّى اللغوي الفرنسي (جان بياجيه) نظرية تشومسكي في النَّحوِ التَّولِيدِيِّ والتَّحويلي باسم (البنيوية التَّحوِيلِيَّةِ). * المدرسة البنيوية التقليدية (مدرسة جنيف ) ومؤسسها دوسوسير: يُعدُّ العالم اللغوي السويسري (فرديناند دي سوسير)(3) مؤسس المنهج البنيوي الذي انطلق منه علم االلغة المعاصر، وذلك في بدايات القرن العشرين الميلادي . وفكرة البنيوية عند سوسير فكرة بسيطة كما مرَّ تتلخص في نظرتة إلى اللغة بوصفها نظامًا أو هيكلاً مُستقلاً عن صانعه أو الظروف الخارجية التي تحيط به . وينظر إلى هذا الهيكل من داخله من خلال مجموعة وحداته المكونة له بوصفها تُمثِّل كُلاً قائمًا بذاته. فاللغة هي شبكة واسعة من التَّراكيب والنُّظم . وهي أشبة شيء برقعة الشَّطرنج التي لا تتحدد قيم قطعها بمادتها المصنوعة منها وإنَّما بمواقعها والعلاقات الداخلية بينها في هذة الرّقعة . فكما إنَّ كل قطعة منها تتحدَّد قيمتها وترتبط بموقعها على هذه الرقعة، كذلك تتحدَّد قيمة كل تركيب أو قيمة كل وحدة في التركيب بالنظر إلى هذة التراكيب، وتلك الوحدات(4). ولقد سيطرت أفكار هذا الأستاذ الكبير ممثلة بالمدرسة البنيوية التي أنشأ صرحها ، على البحث اللغوي في الأربعينيات من هذا القرن سيطرة بالغة ، حتى إنِّها جمعت حولها نفرًا غير قليل من الدارسين في جميع أنحاء العالم ، وزحزحت المناهج اللغوية من مواقعها، وحاولت أن تحتل مكانها جميعًا، وانتقل تأثيرها من الدرس اللغوي الصرف إلى ميدان الأدب ونقده، لدرجة أنَّها صارت الشُّغل الشَّاغل للأدباء والنُّقاد حتى أوائل السبعينيات(5). ويمكن إيجاز أهم أفكار دوسوسير البنيوية (مدرسة جنيف) في ثلاثة أفكارمترابطة متكاملة، لا انفصام لها، وليس من السهل أن يعزل واحد منها عن الآخر في نظر دي سوسير على الأقل(6)، وهذه الأفكار الثلاثة هي: (1) حلل دو سوسير الرمز الي مكونيه الدال (Signifier) والمدلول (Signified)(7): والدَّال هو الجانب الصوتي المادي من الرَّمز حيث يمثل الصوت في حالة اللغة المحكية أو الحرف المكتوب في حالة اللغة المكتوبة . أمَّا المدلولُ فهو الجانب الذهني فهو لا يشير إلي الشيء بل يشير الي الصورة الذهنية أو الفكرة عن الشيء ، ويؤكد دوسوسير علي الوحدة بين مكوني الرمز حيث يشبههما بالورقة ذات الوجهين لا يمكنك تمزيق أحدهما بدون أن تمزق الوجه الآخر. ودوسوسير يرى أنَّ العلاقةُ بينَ الدَّالِّ والمدلولِ عُرفيَّةٌ ومُوَاضَعَةٌ ؛ أي : الرابط الجامع بين الدال والمدلول اعتباطيٌّ , فالعلامة الألسنية اعتباطية(8). (2) ميَّز دو سوسير بين اللغة (language) والكلام (Parole): فاللغة: هي النظام النظري الذي يضم قواعد اللغة، أو هى منظومة من العلامات تعبِّر عن فكرة ما . أمَّا الكلام: فهو بمثابة التحقق العيني لتلك القواعد، وهو عمل فردي للإرادة والعقل، وهو يمثل الممارسة الفردية القائمة على الاختيار والتحقيق. وهو فعل فردي نابع من الإرادة والذكاء , كذلك هو عبارة عن تأليفات من خلالها يستخدم المتكلم قواعد اللسان بغرض التعبير عن فكره الشخصي وتكون باختيار ألفاظ ضرورية ومحددة لإنشاء جملة. واللسان عند دي سوسير: نتاج للملكة اللغوية ومجموعة من المواصفات يتبناها الكيان الاجتماعي ليمكن الأفراد من ممارسة هذه الملكة . واللسان هو كنظام نحوي يوجد في كل دماغ على نحو أدق في أدمغة مجموعة من الأفراد(9). وقد كان لذلك التَّمييز بين اللغة والكلام أثرٌ كبيرٌ في الأعمال البنيوية، حيث نجد لديهم تلك التَّفرقة بين البنية والحدث؛ أي : بين الأحداث والقواعد التي تتحكم في هذه الأحداث، وأيهما أسبق وجوداً البنية أم الحدث؟ ودراسة النظام الداخلي أصبحت تعرف بأنها "اللسانيات البنيوية" أو"المدرسة البنيوية"(10). (3) ميَّز دوسوسير بين محورين لدراسة اللغة؛ المحور التزامني (Synchronic) والتتابعي (Diachronic): "السنكرونية" أو (الو صفية) في مقابل "الديكرونية" أو (التاريخية)(11). أمَّا المحور التزامني لدراسة اللغة : فهو يدرس اللغة علي اعتبار أنَّها نظام يُؤدِّي وظيفته في لحظة ما دون وجود اعتبارات للزمن . وأمَّا المحور التَّتابعي : فهو يدرس اللغة باعتبارها نظاماً يتطوَّر عبر الزمن ويرصد التغيرات التي تطرأ علي اللغة تاريخياً . ويرفض دو سوسير المنظور التتابعي؛ لأنَّه يرى أنَّ معرفة تاريخ الكلمة لن يفيد في تحديد معناها الحالي ، ويُشبِّه الأمر بأن يشاهد الشخص مشهداً ثابتًا بينما هو يتحرك ، لأنَّه من الأفضل له أن يثبت في مكانه حتي يتمكن من مشاهدة المشهد بشكل واضح ، فحركته لن تُفيد في فهم طبيعة المشهد نفسه. فالمنهج البنيوي يلتزم بمفهوم التَّزامنية ، وهي: دراسة لغة محددة في لحظة معينة دون النظر في المراحل التاريخية ، فيدرس اللغة كما هي ومحاكمتها بقوانينها لا بقوانين غيرها دون تقعيد لغرض الدراسة نفسها، بشكل موضوعي بغية الكشف عن حقيقتها.(12) وكان دوسوسور يرى أنَّ التَّزامن والتَّعاقب في اللغة يجب أن يدرسا في علمين منفصلين ؛ لأنَّ التزامن يرتبط بالنظام ولكنه عن علاقات الزمن ، في حين أنَّ التَّعاقب يرتبط بالزمن ولكنه مفصول عن علاقات النِّظام(13). وهكذا أدار علم اللغة ظهره للدراسات المقارنة التاريخية ، وأكد إمكان إخضاع كل حالة من اللغة إلى دراسة سكونية متزامنة بغض النظر عن التطور الذي تعد هذه الحالة امتداداً له ؛ وبناء على هذا المفهوم طرح سوسور التمييز بين "التطورية" التي هي دراسة التغيرات عبر الزمن، و"التزامن" الذي هو دراسة حالات محدودة من اللغة في فترة محدودة من التطور. فانقسم علم اللغة إلى فرعين: علم لغة تعاقبي أو تطوري وعلم لغة تزامني أو سكوني، وتنضم الطريقتان التزامنية والتعاقبية موضحة إحداهما الأخرى"(14) ، وينطبق هذا التقسيم السوسوري على اختصاص ابن جني بالدراسة التطورية للغة كما سنرى . ولكن اللسانيات الحديثة بدأت ترى أنَّ المُقابلة بين التَّزامن والتَّعاقب وهمية جداً ، وجيدة فقط في مراحل البحث التمهيدية، وأنَّ المقطع السُّكوني وهمٌ ؛ لأنَّه عبارة عن طريقة علمية مساعدة ، وليس شكلاً خاصاً من أشكال الوجود(15). والقيمة اللغوية عند سوسير، أي (المعنى) إنما تحدده وتعينه مجموعة العلاقات بين الكلم، ولا يمكن فهمه أو الوصول إليه إلا في ضوء هذه العلاقات ، فالعلاقة متبادلة بين الدَّال والمدلول ، تجعل كل واحد يستدعي الآخر.(16) وجاءت المدارس اللغوية الأوربية بعد دوسوسير متأثرة بما نادى به، فبذلوا جهودًا لا تُنكر، وقدَّموا أفكارًا أثرت الفكر اللغوي والبنيوي، ولا داعي للإطالة فأفكار هذه المدارس وعلمائها أكثر من أن تضمها دراسة مثل التي بين أيدينا(17). الحواشي: (1) ينظر : مجموعة إعداد الموسوعة ، الموسوعة العربية العالمية ، باب البنيوية (ص1) ، موقع الموسوعة العربية العالمية على شبكة المعلومات الدولية . * مراجع للتوسع : جان بياجيه ، البنيوية ، ترجمة : عارف منيمنة وبشير أوبري ، بيروت ، باريس، منشورات عويدات ، 1985م ، وجبور عبد النور ، المعجم الأدبي ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1984م. . O. Ducrot. T. Todorov. Et... qu'est ce que le Structuralism. Paris 1968 – (2) ينظر : ناصر إبراهيم النعيمي ، المدرسة البنيوية قراءة في المباديء والأعلام ،دمشق، مجلة علوم إنسانية، السنة السادسة ، العدد (38) ، 2008م . (3) وُلِدَ ( فرديناند دو سوسير ) عام (1857م) في جنيف . نشر عام (1879م) رسالةً بعنوان ( رسالات في التنظيم البدائي للصوائت في اللغات الهندوأوروبية ). حصل عام (1880م) على الدكتوراه بأطروحةٍ تناول فيها اللغة السنسكريتية . عَمِلَ حتى عام (1891م) في معهد الدروس العليا في باريس ، وعاد إلى جنيف في العام نفسه . وعمل حتى وفاته عام (1913م) في جامعتها أستاذاً للدراسات اللغوية المُقارنة . قام بدراسة السنسكريتية والجرمانية واللتوانية وغيرها , ولم يهتم باللِّسَانِيَّاتِ العامَّةِ إلاَّ بعد عام (1894م) ، ولم ينشر في حياتِهِ سوى عشرينَ مقالاً . تَعلَّم على أيدي النحويين أو القواعديِّينَ الشَّباب (بروغمان, أُسْتهوف, ليسكين), وكان متحمساً لمدرسة كازان اللغوية بشكل خاصٍ ، والتي كان لها الفضل في نشأة النظريات (الثَّورِيَّةِ) عنده , وعند أتباع مدرسة براغ من بعده . شكَّلت مُحَاضَرَاتُهُ التي ألقاها بين عامَيْ (1906م – 1911م) كتابَه المُسَمَّى (محاضراتٌ في علم اللُّغَة العامِّ) الذي جمع موادَّه بعد وفاتِه تلميذاه شارل بالي , وألبرت سيشيهي . ينظر في ترجمته : ميشال زكريا، الألسنية (علم اللغة الحديثة) المبادئ والأعلام، بيروت، لبنان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1983، (ص 223-224)، ومُحاضرات في علم اللسان العامّ ، ترجمة : عبد القادر القنيني ، الدّار البيضاء، المغرب، إفريقيا الشّرق، 2008م ، وجوناثان كولر، فرديناند دي سوسير (أصول اللسانيات الحديثة وعلم العلامات)، ترجمة: عز الدين اسماعيل، القاهرة ، المكتبة الأكاديمية ، 2000م ، (ص 64 68) . (4) ينظر : كمال بشر، التفكير اللغوي بين القديم والجديد ، الطبعة الثانية، القاهرة، دار الهاني للطباعة والنشر ، 1989م (ص 104) ، وإبراهيم ، مشكلة البنية (ص47) . (5) كمال بشر ، التفكير اللغوي (ص101) . (6) ينظر : فرديناند دي سوسير: "دروس في الألسنية العامة"، تعريب صالح القرمادي، محمد الشاوش، طرابلس ، ليبيا، الدار العربية للكتاب ، (ص29) . (7) دوسوسير، دروس في الألسنية العامة ، (ص 89) . (8) ينظر : عبد الرحمن حاج صالح، مدخل إلى علم اللسان الحديث ، (مرجع سابق حاشية 25) ، وصلاح فضل ، البنائية، (ص:39) . (9) ينظر : عبد العزيز حمودة ، المرايا المقعرة ، الكويت ، ط عالم المعرفة ، 2001م ، (ص207) . (10) ينظر : جان بيوجيه ، البنيوية ، ترجمة : عارف منيمنة وبشير أوبري ، ط4، بيروت، باريس ، منشورات عويدات ، 1985م ، (ص 63) . (11) ينظر : محمد وليد حافظ ، قراءة في فكر ابن جنّي من خلال (الخصائص) (مرجع سابق) . (12) ينظر: رشيد عبد الرحمن العبيدي ، البحث اللغوي وصلته بالبنيوية في اللسانيات ، بغداد ، مجلة آداب المستنصرية ، عدد (12) ، 1985م ، (ص55) . (13) ينظر : جان بياجيه ، البنيوية (ص62 ، 65) . (14) ينظر : محمد وليد حافظ ، قراءة في فكر ابن جنّي من خلال (الخصائص) (مرجع سابق) . (15) ينظر : ليفي ستراوس ، الأنتروبولوجيا البنيوية ، ترجمة : مصطفى صالح، دمشق ، منشورات وزارة الثقافة العربية السورية ، 1977م . (16) ينظر: النعيمي ، المدرسة البنيوية قراءة في المباديء والأعلام ، مجلة علوم إنسانية (مرجع سابق). (17) ينظر في ذلك : محمد الصغير بناني، المدارس اللسانية في التراث العربي وفي الدراسات الحديثة، الجزائر، دار الحكمة، 2001م ، عبد القادر المهيري وآ خرون ، أهم المدارس اللسانية ، تونس ، منشورات المعهد القومي لعلوم التربية ، 1986م، (ص5) ، وأحمد محمد قدّور، مبادئ اللسانيات، بيروت، لبنان، دار الفكر، 9919م ، (ص11) ، وميشال زكريا ، الألسنية (علم اللغة الحديثة) المبادئ والأعلام (مرجع سابق) ، وجيفري سامبسُون، المدارس اللغوية التطور والصراع ، ترجمة: أحمد نعيم الكراعين ، ط1، بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 1993م .