p style=\"text-align: justify;\"هبط الجبل بحذر وترقب شديد لما حوله .. لم يكن خائفا أبدا فهو لا يعرف الخوف .. لم يجرب الخوف أبدا لكنه جرب الحذر والاستعداد للأسوأ القادم .. كل قادم بالنسبة له أسوأ .. فقد عاش قرونا تحت التراب ! p style=\"text-align: justify;\"فرد جسمه الرياضي الممشوق وعب من الهواء المحيط نفسا رطيبا عميقا .. كان الهواء حوله في غاية النظافة والبرودة ! إنه الشتاء .. موسم الموت ! لقد ضُحي به ذات شتاء وها هو الآن يعود ذات شتاء آخر .. لكن ما أبعد الشتاءين ! سمع ضجة معدنية غريبة بالقرب منه فأضطرب باطنه .. إنه يسمع ضجة غريبة ذات رنين كريه منذ أن عاد إلي الوعي ! ولسوء الحظ فإنها مشابهة وبدرجة عظيمة لتلك الضجة التي لا زال يذكرها حين حدث هذا الأمر الفظيع .. حين هوي النصل المسنون فاصلا رأسه الجميل عن جسده ! ... أيقظوه ذات صباح في المعبد .. منذ متى حدث هذا ؟! قرن .. قرنين .. ألف عام ربما .. إنه لا يتذكر تحديدا لكنه يذكر جيدا كم كان خائفا ومرعوبا ! أوقفوه وسط الأزهار البديعة وحمموه بعبيرها المذاب في الزيت .. صبوا الزيت فوق رأسه بغزارة ثم مسحوا جسده المفتول به .. قالت له \" فينوس \" وهي ترمقه بولع وهيام : \" من أجلي يا عشيقي المحبب .. من أجل حياة طويلة وعمر مديد لي ! \" الخائنة الغادرة الكاذبة .. فور موته عرفت رجلا آخر وما لبثت أن جمعت العشاق حولها ! \" فينوس \" .. \" أفروديت \" .. \" عشتار \" عليك اللعنة أي كان الاسم الذي تختارينه لنفسك كل مرة ! أخذ نفسا عميقا .. لقد عاد إليهم علي كل حال وسيفه في يده فقد دفنوه معه ! إنه نفس السيف الذي جزوا به رقبته .. لكنهم كانوا كرماء فتركوه له ليظهر الأمر أنه تضحية بنفسه لا تضحية منهم هم به .. كم هم مخادعين ! مرت بقربه قطعة معدنية لها عجلات أسفلها تجري بسرعة هائلة فأجفل ودق قلبه مسرعا .. يا مجمع الآلهة الثمانية والستون ! أي أله شر يسير علي عجلات هذا ؟! وجف قلبه واضطربت دقاته فتوقف قليلا ليلتقط أنفاسه الهاربة .. لحقت به برودة مميتة فشعر بالصقيع يلفه ! أي زمان جدب بارد هذا الذي بُعث فيه .. لكنه نفذ من سلطان الموت أيخيفه سلطان البرد بعد كل هذا ! وقف مكانه متشمما الهواء ثم لم يلبث أن شعر بالأمن .. لم يمر إله حرب صاخب آخر يسير علي عجلات والمكان من حوله هادئ وخاو تماما .. توقف ليفرد جسده .. أخيرا سيستنشق نفسه بعمق ! توقف وغرس قدميه في التربة الصخرية أسفله .. ضرب الحصى أعقاب قدميه البارزين لكنه لم يشعر بأي ألم ثانية .. مد ذراعيه وفردهما علي جانبي جذعه .. أخذ نفسا عميقا وفرد جسده أكثر .. دخل الهواء إلي رئتيه فانتفختا ثم بدأ صدره يتمدد ! سالت ضلوعه سائبة إلي جانبيه وتمدد حجم جذعه وبدأ يتضاعف .. استطالت ساقيه وتضخم حجم عضلاته وتضاعف سمك ذراعيه .. نما طولا وعرضا وارتفاعا .. سحب المزيد من الهواء وجره إلي داخل صدره حيث استحوذت عليه رئتاه اللتين صارتا في حجم صخرة كبيرة .. نفذ الهواء وتخلل عظامه ! انتهي من نموه وصار الآن حرا طليقا متحررا من قيود التضحية والموت .. لن يجزون رقبته بالسكين مرة أخري ! صرخ أخيرا مناديا : \" حدد* .. حدد .. إني عدت إليك ! \" ترددت صرخته المرعبة في جوف الليل .. لم يسمع الناس صوته مناديا بل سمعوا قصف هائل وعواء ريح مخيف .. صفرت الرياح الهائلة وضربت الجدران والنوافذ والأبواب وحطمت الجدران .. لم يميز الناس في الرياح العاتية سوي صوت عواء مخيف لكن هناك وعلي بعد فراسخ كثيرة .. مسافة لا تعد خطيها ولا تحصي ، صحت حسناء جميلة في فراشها وفتحت عيناها بغتة .. سمرها الذعر في فراشها بينما كان شعرها الطويل الذي يحاكي لونه لون شعاع الشمس في جبروته وعنفوانه مفروش كثوب من ورود صفراء حولها .. تسمعت للريح الضاربة الآتية من بعيد للحظة ثم تنهدت بحرقة .. تقلب رجل مفتول العضلات إلي جوارها في الفراش ورقد علي جنبه مواجها لها .. سألها برقة والنعاس لا زال يطغي علي أحاسيسه : \" ما الذي أيقظك يا عزيزتي ؟! \" تنهدت ثانية وهتفت من صدر مكلوم غاضب حاقد : \" إنه هو .. \" رفع جسده وجلس نصف جلسة إلي جوارها وحدق فيها بذعر .. سألها أخيرا متمنيا أن يكون قد أخطأ السمع أو أخطأ الفهم : \" من ؟! \" أغمضت عيناها وداست علي جفونها بقوة وردت أخيرا : \" لقد عاد هو .. \" تموز \" غادر جدثه ! \" وضع كفيه ليمنع نفسه من الصراخ بينما اشتدت قوة الريح وعواءها في الخارج ! ... كانت تلك نهايات الشتاء التي يمارس فيها عنفوانه مذكرا خلفه الآتي خلفه متلصصا ، الربيع ، أنه لا زال هنا ولا زال قادرا علي أن يدثر الكون في عباءته السوداء الباردة ويزحف حتى عظامه المخلخلة المرتعشة .. لكن الربيع الماكر كان يدق الأبواب رغم ذلك بحذر ودهاء .. تسلل حتى جذور النباتات الميتة واختبأ هناك ، أحيا الأزهار ونفخ حياة في الأعشاب وقص البرودة من أطراف الأوراق وأستبدلها ببوادر خضرة تبدو يانعة طرية .. وضع الأطفال الفرحون زهورهم فوق نوافذهم في انتظار مرور الربيع بعصاته ليلمسها ويحييها .. وتهيأت الفاتنة ( دمشق ) لتمارس سحرها القديم المتجدد ، دمشق التي عشقها الجمال فأستوطن أديمها وأقسم علي ألا يفارقها .. إلا بالموت ! اهتزت مدينة العشق الأبدي فرحة منتظرة هطول الخضرة وتطاير الزنابق فوقها .. لكن الصغير \" إياد \" ذو العينان السوداوان اللامعتان صحا صباحا ليجد وردته ميتة ! كان قد غرس وردة دمشقية في أصيص صغير أهداه إليه والده ووضعه علي حرف النافذة ليتابع نمو وردته الأولي المفعم بالدهشة وانتظار المجهول السعيد .. نمت البذرة وشققت الطين حولها وبدأت ترفع رأسها منذرة العالم بالهول إن هو لم يدعها تواصل مسيرها إلي أعلي .. ويبدو أن العالم خشي تهديد الوردة الصادحة كالفراشة فأفسح لها الطين مجالا وترك عنقها يشرأب ناظرا إلي فوق بدهشة قائلا : مرحبا أيها العالم الشقي ! لكن الصغير أستيقظ صباح يوم الزوبعة الباردة ليجد زهرته ميتة منكسة الرأس مستسلمة للموت ! صرخ وهو يتأمل العنق الساقط المتهاوي وحمل الأصيص باكيا إلي أبيه .. كان ثمة بلورات صغيرة من الثلج تخنق البراعم وتكتم أنفاسها مانعة عنها الهواء والحياة .. صرخ \" إياد \" بذعر وهو يعرض جثة وردته التي لم تلحق أن تخرج إلي الحياة : \" وردتي ماتت .. وردتي ماتت ! \" أنخرط في البكاء علي الفور فداعبه الأب جابرا خاطره بوعد بكومة من الورد الجوري له اليوم من محل الأزهار القريب .. لكن الطفل لم يكن يريد وردة جاهزة كان يريد واحدة يقطفها من صنع يده يسهر عليها كما تسهر أمه علي أخته الصغيرة التي كانت لحسن الحظ تشبه الجورية تمام الشبه ! رمق الأب بلورات الثلج بدهشة واستغراب حقيقي .. وعلي امتداد بيوت الشارع كانت تلك البراعم قد صحت صباحا ميتة .. غطتها الثلوج ببلوراتها ودفنت فرحتها تحت ثقلها السمج ! كان حدثا طبيعيا غير معروف له سابقة .. لكن المناخ سيء حقا ويسوء عاما بعد عام ! فكرة طيبة جديرة باقتلاع المخاوف من الأنفس الخائفة .. لكن ثمة شخص بالقرب يعرف أن كل هذه الإدعاءات ليست صحيحة أبدا .. فالمناخ بريء من دم كل تلك الزهور والنباتات النافقة هذا الصباح المقرور البارد .. فهناك شيء آخر مسئول عن كل هذه المذبحة ! ... جلس في النافذة يرمق المدينة البيضاء بسعادة حقيقة .. كانت حركة المواصلات لا تهدا وآلهة الشر المقرقرة تسير في كل مكان علي عجلات .. ما أسعده حقا هو أن الناس جميعا كانوا يزفرون بردا ويلتفون في ثياب ثقيلة ! كان عاريا لكن أحدا لم يكن يري عريه .. فقط كانوا يرون وجها برونزيا ذو ملامح صلبة يرمقهم من نافذة بيت هائل مهجور تماما .. معبد قديم من معابده التي تحولت عبر السنيين إلي شيء ثم شيء ثم شيء ثالث دون أن تصل في النهاية إلي كينونة محددة وهُجر في النهاية متروكا وحده ككومة حزن جافة علي طريق .. لم يعد أحد يعبده أو يقدم إليه قربانا الآن .. مع أنه هو الذي يسفك دمه من أجل أن يأتيهم بالربيع ! حسنا .. حسنا جدا .. تطلع إلي الشوارع المكللة بالثلج بسعادة حقيقية .. كم تعلم أن يكون شريرا متوحشا تحت التراب ! تساقط سائل لزج من فوقه فرفع رأسه الضخم ناظرا .. كان سائلا يتقاطر منه نقاط قليلة من سقف مرتفع يعلوه .. سائل لزج ذو رائحة صدئة مميزة ! دم ! قربان دم يسفك من أجله الآن .. دهش وأصابه الذهول .. سمع صوت عراك وشجار وأصوات تتلاحي بلغة غريبة لا يفهمها .. نفس تلك اللغة التي يسمع الناس يتحدثون بها في كل مكان ولا يفهم منها حرفا .. هرع إلي سطح المعبد ليجد رجلين هناك ! رجلين يرتديان ثيابا غريبة وأحدهما واقف بسلاح يقطر دم في يده وآخر ممدد عند قدميه مذبوحا مشقوق العنق ، ووجهه آخذ في التحول إلي الشحوب البارد لميت تم نحره نحرا .. ابتسم سعيدا .. نعم تلك هي الطريقة الصحيحة ! النحر .. كانوا ينحرون له القرابين طوال آلاف السنيين لينالوا رضاه مقابل أن يترك الربيع يفرش ثوبه المرقش بالزهور العشب النضر عليهم .. لكن روحه توقفت عن رشف الدم المراق من ذبائحهم منذ قرون طويلة ! صاروا يذبحون له أغناما وماشية بل وخنازير نجسة .. أولئك الحمقى البخلاء ! هل نفق البشر من عندهم .. هل انقرضت العذارى وقل الشبان المفتولي العضلات الذي ترويه دمائهم وتجدد روحه وتمنحه حياة أخري تحت التراب ! لكن يبدو أن هناك لا يزال عباد مخلصين له .. مثل ذلك الرجل الواقف بسلاحه المخضب بدم الأضحية ! الأضحية البشرية .. أظهر \" تموز \" نفسه للرجل المرتعب الذي تعلو أنفاسه وتهبط كاشفة عن مدي التوتر والعبء النفسي الذي يعانيه .. صدم القاتل حينما وجد ذلك الجرم البشري الهائل العاري يتجسد لعينيه .. بربش بفزع وسمع صوتا عميقا مخيفا يقول له برضا : \" إنني أتقبل قربانك .. أتقبله وأمنحك ربيعا دائم الخضرة ! \" فزع الرجل وتجمد مكانه للحظة .. نظر إلي ذلك الجرم وحاول أن يطلق صرخة لكنه فشل في ذلك .. أربد وجهه من فرط الذعر ثم اندفع هابطا تاركا سطح المعبد المهجور ملقيا سكينه بجوار القتيل المسجي تحت قدمي \" تموز \" ، وفر هاربا لا يلوي علي شيء .. لم يهتم \" تموز \" به بل تحول لينظر إلي الجثة النازفة بلا توقف وابتسم وهو ينحني عليها : \" قربان مقبول أيها المجنون .. ولعل قرابين أخري تلحق به عما قريب ! \" ... متوترة كانت تدور في كل مكان .. بثوب كاشف أنيق وشعر مختل النظام وسيجارة تطلق الأدخنة بلا توقف في يدها تدور وتدور حول نفسها وحول قطع الأثاث وحول زوجها العاشق القديم : \" لا تكترثي لعله حلم .. إنه ميت منذ ألفي عام ولن ينهض ثانية ! \" صرخت فيه وقد أحمر وجهها غضبا وغيظا : \" أيها الأحمق .. إنه قادر علي العودة .. ألا تعرف ذلك ؟! \" بالطبع كان يعرف ذلك .. كان يعرف أن \" تموز \" قد يعود في أي لحظة رغم أنه هو الذي شق رقبته وفصلها عن جسده منذ قرون طويلة .. لكنه لم يتوقع أن يتحقق ذلك الكابوس ! \" عشيقتي الأبدية .. ألا أبدو حماية كافية لك .. إننا موجود أمامك ولن يقدر علي الوصول إليك ! \" ضحك وتحولت إليه ورفعت يديها ليراها .. رأي تجعيدة واضحة غريبة علي يدها البضة الناعمة الملساء ! متى بدأ جلدها الجميل يتجعد ؟! نظر إلي التجعيدة ثانية بدهشة وصمت ثم تقدم التفسير الذي يريحه : \" إنها علامات الشيخوخة .. أفركيها بالكريم ! \" وثبت لتمسك رقبته وتضغط عليها بغل فقد بلغ مدي تحمل أعصابها المضطربة نهايته .. دفعته إلي الخلف وهي ممسكة بعنقه فأخذها وأرتد ليسقط بعنف فوق مقعد وثير وهي فوقه : \" أي شيخوخة .. أي شيخوخة يا أحمق ؟! لقد تشقق جلدي من صرخته حين نهض ثانية .. ألا تدرك ما الذي سيفعله بنا إن وصل إلينا ! \" لم يفكر \" حداد \" في إمكانية وصول خصمه القديم إليه وإلي عشيقته .. عشيقته التي تزوج بها مرارا وعلي كافة الطقوس المتبعة في كل عصر وفي كل دين لكنها بقيت أبديا عشيقة ، زوجة غير شرعية ، ملعونة هي وملعون هو معها : \" لن يصل إلينا .. سنغادر دمشق ! \" نعم .. كانت تلك الفكرة البسيطة السهلة ! نفثت غضبها عليه بعد أن تركت رقبته وحررتها من ضغطها الهائل وقالت نافية بعزم : \" لا أستطيع مغادرة دمشق .. لا يمكنني البقاء بعيدا عن مقبرتي القديمة ! \" \" سنأخذ الجسد ونتوارى .. \" كاد يقترح لكنها لم تمنحه الفرصة الكافية ليفعل : \" لا لا .. سنبقي هنا وسنواجهه .. سأذبحه من جديد إن حاول إيذائي ! \" شعر في كلماتها بنبرة الغرور والأنانية القديمة : \" إن حاول إيذائك ؟ وماذا لو حاول إيذائي أنا ؟! \" نظرت إليه بسخرية وقالت هازئة وجادة في نفس الوقت : \" ذلك شأنك أنت .. يا .. \" حدد \" ! \" تركته أخيرا وذهبت إلي غرفتها .. تنهد وفتح التليفزيون اللعين ، الصندوق الذي لا يكف عن الثرثرة ولا تكف هي عن متابعته وتصديع رأسه به .. كانت النشرات المتوالية لا حديث لها إلا عن شيء واحد .. الشتاء الذي عاد بعد أن كاد يتلاشي ويحل محله الربيع والهبوط الرهيب الذي حدث في درجات الحرارة في ليلة واحدة .. لكن كان ثمة شيء آخر يشغل الثرثارين في التلفاز ويتابعونه بشغف .. فهناك شيء غريب يحدث في الغوطة .. غوطة دمشق ! ... في صباح شتوي مضمخ بعطر الثلج الذي يهطل بغزارة محيلا تربة ( صحنايا ) * إلي فراش أستلقي عليه الثلج بشكل يخالف عاداتها في تلك الأيام المبشرة بقرب حلول الربيع بقواه ليطرد الشتاء الغاوي الشرس .. تراكم الثلج طبقة فوق طبقة ومترا فوق مترا وأطل علي المدينة التي تشبه طبقا حفت به الجبال من فوق هامات المرتفعات المحيطة بها .. أستيقظ أهالي المدينة مذهولين من منظر الثلج المتساقط .. كانت نباتات الربيع قد بدأت بشائرها وتفتحت أنوارها لكن الثلج المفاجئ خنق كل شيء .. الأكثر إثارة للدهشة هو الانخفاض الرهيب في درجات الحرارة .. انخفاضا لم تشهده تلك المدينة ولا ذلك الجزء من بلاد الشام ربما في عصور الجليد ذاتها .. أما الأكثر غرابة فعلا فهو الشمس الباهتة الضعيفة التي أطلت عليهم من وراء حجاب من السحب الرمادية الثقيلة بوجه شاحب وكأنها تعتذر لهم عن انكسار قوتها أمام قوة البرودة العاتية .. لكن لم يتوقع أحد ما سيحصل بعد ساعات ! زوبعة ثلجية هائلة .. تحركت ريح باردة مفاجئة هبت من مرقد مجهول حول المدينة ، أغلب الظن أنها نزلت فوق رأسها من احدي القمم الجبلية المكللة بالثلج السميك .. نزلت الرياح دافعة أمامها كرات ثلج وذرات برد صغيرة .. انساقت حبات الثلج الضعيفة وتلاشت مقاومتها أمام عصف الرياح الجبارة .. دفعت الرياح كل شيء ثم ازدادت قوتها فأخذت تكسر أنف كتل الجليد الكبيرة وتهشمها ثم تسوقها بعصاها أمامها بقسوة .. بعد قليل تقدمت الزوبعة ضاربة شوارع المدينة الجميلة محملة بكم هائل من الغثاء والثلج والبرد ومصحوبة ببرودة هائلة .. سارع الأهالي بإغلاق أبوابهم ونوافذهم .. خرجت الأمهات مذعورات بحثا عن أطفالهن الذي خرجوا للعب أو لقضاء حوائج المنزل .. هرع أصحاب المحلات التجارية القليلة التي بادرت بفتح أبوابها في تلك الساعات المبكرة وأغلقوا أبوابهم حاجزين زبائنهم بالخارج .. أنسابت البرودة ثلجا علي النوافذ والأبواب ورأي الناس بأعينهم الثلج وهو يتكتل ويتجمع فوق زوايا نوافذهم وخلف الزجاج ، مرتفعا طبقا فوق طبق حتى سدت مجالات الرؤية أمامهم في غضون ساعات قليلة .. ثم لم تلبث الصرخات أن بدأت تتردد في نواحي المدينة .. كانت صرخات الرياح الباردة العاتية ! تقدمت الريح بحمولتها الثقيلة التي ما لبثت أن بدأت في طرحها فوق شوارع ومباني المدينة .. وبسرعة البرق تجمعت جبال من الثلج ناءت بها أسطح وقباب \"كنيسة مار إلياس الغيور \" ومجلس بلدية المدينة وو\"مسجد الشيخ العلامة أمين سويد\" .. أما البيوت الوطيئة فقد كادت أكوام الثلج تخفيها وتدفنها تماما .. جري المذعورون القليلين عبر الشوارع باحثين عن ملجأ .. الأبواب كلها مغلقة والنوافذ كلها مسدل عليها ستائر من جليد .. الريح تصرخ عبر الشوارع وترمي البلدة بجلاميد من جليد سميك .. بدأت بعض الأسطح تنهار وتسقط .. البيوت القديمة دارت رؤوسها للحظة ثم نكستها وتهاوت مذعنة لسلطان الموت البارد .. بدأ سقوط المباني الدائخة أولا ثم بدأت المباني الأكثر حداثة والأقوى تصميما تشاور عقلها مبدية استعدادها الدائم للتهاوي في أية لحظة .. فُتحت الأبواب قسرا واندفع الناس المذعورون المحاصرون بين خوفين كلاهما أقبح من الأخر .. فإما أن يبقوا حيث هم حتى تسقط المباني فوق رؤوسهم وإما أن يخرجوا لتمسك بها الريح الباردة التي تعربد في الخارج ! وقد اختار الناس الحل الثاني ظنا منهم أنه أكثر رأفة بهم .. لكن من خرجوا أولا سرعان ما تجمدوا أماكنهم قبل أن يجدوا فرصة للاندفاع بضع خطوات إلي الأمام .. جحافل من أتوا بعدهم شاهدوا بأعينهم الريح الثقيلة وهي تدفع المتقدمين وتطرحهم أرضا ثم تعضهم عضة الموت .. ولم يلبث جميع من خرجوا واندفعوا أولا أن أنطرحوا أرضا علي هيئة تماثيل متجمدة مكللة بالزرقة التي غطتها طبقة كثيفة من الشحوب الثلجي المخيف .. انفجر الذعر في صحنايا الآن وبدأت محاولات الاستغاثة بمنطقة ( داريا ) أو محافظة ( ريف دمشق ) تتوالي .. لكن كافة الخطوط الهاتفية والبرقية كانت صامتة .. سارع البعض بمحاولة استخدام شبكة الإنترنت أو مواقع التواصل من أجل إرسال الاستغاثة إلي العالم لكنها كانت مقطوعة هي الأخرى بطبيعة الحال ! حوصرت المدينة بين الموت والثلج والريح الغاوية وبدأ الموتى يتكدسون .. ساعات .. ساعات وتنفد وسائل التدفئة .. ساعات وينتهي كل شيء ! ... كان يقف سعيدا مشرفا علي كل هذا الخراب .. رآه البعض من دواخل بيوتهم ومن خلال الفرجات القليلة التي تركها لهم الثلج المتراكم فلم يصدقوا أعينهم .. عملاق أشهب عملاق بشعر كثيف بلون الثلج يتطاير مع الريح القوية ، يقف فوق هامة جبل من الجبال المحيطة بالمدينة التي أفترش الموت والخراب والثلج أرضها وتشاطروها بينهم هم الثلاثة .. يقف هناك بعباءة مفتوحة يظهر من خلالها حجم عضلاته وصدره الهائل ويقهقه سعيدا بما يحدث أمام عينيه .. رآه بعض الأطفال الذي لم يذعنوا لقانون أمهاتهم الصارم بالابتعاد عن النوافذ فصرخوا فرحا .. ظنوه عملاق ثلجي طيب آت لينقذهم من الحصار والموت لكن كم يسيء الصغار التقدير ! فقد هو الحصار والموت نفسه ! كان \" تموز \" سعيدا وهو ينشر جناح الموت علي ( الغوطة ) وسكانها .. إنها تجربته الأولي وليلة المرح البدائية له .. إنه يكره تلك المنطقة منذ يوم موته فقد فازت بأكبر نصيب من جائزة دمه ! خصوبة ورواء ونعيم أخضر وعناقيد رضا متدلية .. حسنا .. حسنا جدا أيها الناعمين المتنعمين ! ذوقوا وبال غضب ( تموز ) وتجرعوا مرارة غضبة حتى الثمالة .. لم تكن ( صحنايا ) وحدها هي التي تجابه الموت والبرودة بل كل مدن الغوطة الغناء .. ومتى تستيقظ ( دمشق ) من ثباتها وتدرك فداحة ما يحدث في المنطقة المنكوبة؟! ذلك متروك للحظ وما أكثر عثرات الحظ وألاعيبه .. لكن اليوم الذي بدأ بالبرد والموت لا يمكن أن ينتهي سوي بكارثة ماحقة ! ... أخيرا نجح في الضغط عليها .. مل ترقبها وقلقها المستمر فأقنعها بالخروج معه لنزهة .. كانت دمشق الليلية جميلة كالعادة وأنوارها ساطعة برغم الأخبار الغريبة التي تتوافد من الغوطة الغناء .. يقولون أن الموت يهيمن علي الرقاب هناك وأن الثلج يتراكم ويتراكم .. استدعيت قوات الحماية المدنية ودُفع بالمزيد من وسائل التدفئة وكميات الوقود .. حاولوا إجلاء الناس إلي أماكن أكثر دفئا لكن إجلاء الجميع كان مستحيلا .. كان هذا سيستغرق بضعة أيام وليس ممكنا أن ينتظر الناس المحاصرون تحت وطأة درجات الحرارة المتدنية التي لم تشهد لها سوريا مثيلا من قبل ، كل تلك الساعات الطويلة دون أن تحل بهم كارثة ! لكن \" حداد \" رجل الأعمال الشاب الوسيم مفتول العضلات لم يكن يشغل باله شيء من هذا .. أصطحب زوجته الجميلة المثيرة لسهرة صاخبة في ملهي نتلألأ بالأنوار .. كان الناس هنا وهناك يتحدثون عما ألم بجيرانهم وأهلهم في ( صحنايا ) وما جاورها من بلدات ، لكنه كان يفكر في مزاج زوجته العكر فقط .. لقد قضي يوما عصبيا بصحبتها وهي تزفر وتتنهد وتثور لأتفه سبب وتكاد تمد أظافرها المطلية بالدم وتنزع أحشائه .. إنها تراه باردا غير مبال بما يحدث حولهما من مصائب ! وقد كان علي حق في هذا .. فهو لا يهتم بما يحدث حوله بل يهتم بما يحدث له هو فحسب ! وبعد إلحاح منه قبلت أن ترتدي ثيابها وتخرج برفقته .. ذهبا إلي ملهي صاخب وطلبا شرابا مزدوجا قويا .. ابتلعت \" عشتار \" الشراب فبدأ مزاجها ينعدل وتتحسن حالتها .. ظلا جالسين يرقبان الرقص والصخب بعين مفتوحة قلقة خائفة .. سرت الحركة من حولهما وإن كانت الوجوه قد تحملت بعلامات الخوف والقلق مما يحدث بالقرب من دمشق من ظواهر غامضة .. كانت المرأة التي لفتت كل الأنظار بجمالها الباهر تشرب جرعة أخري من الشراب الذي جدده لها رفيقها ، الذي نال لعنات كل الرجال المحيطين وتغطي بغيرتهم القاتلة ، حينما توقف السائل في حلقها وتورم وجهها محمرا فجأة .. اتجهت كافة الأنظار إلي حيث ثبتت عيني الفاتنة المذعورتين .. بالقرب من باب الملهي المفتوح وقف شاب وسيم بعضلات هائلة وبثوب عصري بأكمام قصيرة تبرز منها ذراعان مثيرتين للفزع والإعجاب بحجمهما الهائل اللافت .. وقف هناك واضعا ذراعيه إلي جانبيه رامقا المنضدة التي جلس إليها الوسيم المتأنق ومرافقته الحسناء بعينين قادحتين منذرتان بالشر .. أضاء الشر المكان وشعر الجميع ببرودة هائلة تطبق علي أنفاسهم وبموت قريب للغاية يرفرف بأجنحته فوق هاماتها المنخفضة مباشرة .. غصت الفاتنة بالشراب وانتفخت أوداجها بينما في لحظة تبخر مرافقها الوسيم تاركا إياها بمفردها في مواجهة العائد من الموت الطويل .. \" تموز \" العائد الغاضب الحاقد ! ... غصت بالشراب حتى كادت تشرق به وتختنق .. تمالكت نفسها لتبتلع ما وقف بحلقها واتسعت عيناها ذعرا وهي تبادله التحديق .. كانت تنظر إليه مرعوبة بينما هو ينظر إليها ثابتا شامتا .. لقد حانت لحظة اشتهاها وأنتظر مقدمها منذ قرون طويلة خلت .. لحظة الانتقام والثأر منها ! كانت جالسة هناك ترقبه مصعوقة قلقة .. جالسة أمامه مثلما كانت تجلس في تلك الأيام البعيدة تحت قدميه وتغني له .. كانت تغني له أغاني رقيقة ومليئة بالحب ومنومة .. كان ينام وينعس علي وقع أغانيها وعلي ترانيم صوتها الشجية ! ... p style=\"text-align: justify;\"