اقتحمت مكتبي، كانت غاضبة جدا وثائرة جدا. الألفاظ تنفلت من بين شفتيها بسرعة وبدون رابط، طالبتها بالهدوء ووقف سيل الألفاظ المنفلتة التي لا تعني شيئا سوى الدفاع عن كيانها الخاص. لم تستجب لطلبي، طلقات الألفاظ تدوي في الغرفة، وفي اتجاهي تحديدا. ربما اكون قد اعتدت على مثل هذه الأمور بسبب طبيعة عملي، وربما مايحدث اليوم يفوق طاقة احتمالي. غادرت كرسي العرش خلف المكتب والذي اعتاد الجلوس عليه واستقبال زبائني، توجهت نحوهها، لايزال صدى رصاصاتها يدوي بقوة. جلست قبالتها مباشرة، حاولت التركيز، وتأمل هذا الكائن الذي يقبع خلف المدفع الفموي سريع الطلقات. شابة مليحة، بشرتها خمرية جدا، ومجهدة جدا. عيونها تركوازية بلون بحر شاطئ الغرام، مهندمة مثل نجمات التلفيزيون، تختال في العشرين من عمرها وفق معلومات ملفها الشخصي أمامي، لكن يتلبسها وجدان وحزن الخمسين. قررت ان اتركها حتى تفرغ رصاصاتها. بمجرد تفكيري في هذا القرار سكتت فجأة، التبسها وجوم لافت، ربما توقعته بحكم الخبرة والسنين. لم اطلب منها ان تعيد ملئ المدفع من جديد بالطلقات، بل حاولت تجميع بعض الفوارغ التي ملئت غرفة مكتبي على طريقة تجميع البازل. ايقنت بقوة انها مجرد فتاة بائسة، جميلة، تصارع ابوها الذي هو في داخلها، وخيبة أملها بعد ان ضبطته يتسكع في احد الفنادق الكبرى الشهيرة مع امرأة اخرى غيرها وغير امها. الهدوء بدأ يتسلل الى المكان، طالبتها بالتنفس بعمق، واستمرار الصمت. ابتسمت أخيرا، كسى الارتياح وجدانها، التمعت عيناها التركوازيتان. طالبتها بالمزيد والمزيد من الصمت. هذه الرصاصات الطائشة لن تجدي لحمايتك من الانهيار، بل ربما تعجل الأمر بذلك. عادت من شرودها المؤقت لتحلق في سماء عيني، استمر اللمعان التركوازي يحدق في كرسي العرش الفارغ الرابض خلف مكتبي، ربما كان ابوها جالسا عليه هذه المرة، وربما لم تغضب أو تثور، وربما نهضت فجأة وتحركت في اتجاهه، صرخت فيه بكل عنفوانها فجأة، “لماذا لم اكن انا يا ابي تلك المرأة التي تتسكع معها في غرف وطرقات الفندق؟. لماذا تجرؤ على الاقتراب من انثي غيري وامي”؟، ابتسمت بارتياح، بينما كانت هي عائدة وقد غشاها اضطراب واضح، استلقت على المقعد امامي. ذكائها حاد جدا، ادركت مغزى الابتسامة، وادركت أيضا مغزى الضعف الانساني الحتمي. كأنها سمعت صوت اباها يهمس بضعف وتوسل ” آسف يا ابنتي “. هي أخبرتني بذلك قبل ان تقوم من مقامها وتتجه نحو باب الخروج. تركت رسالة في الهواء، ظلت تحلق في فضاء الغرفة تقول ” لقد جئت لاصلاح شيء ما داخلي وقد حدث “. خرجت وصفقت الباب ورائها في هدوء. د. احمد الباسوسي مايو 2020