أصوات الأذان ترتفع فى كل مكان.. نعم إنها العشاء، ما أجمل ذاك التناغم بين أصوات المؤذنين! نعم كم كنا على درب من الشوق إليك يا رمضان! آهٍ كم مرت أيام كان يجىء فيها رمضان فى فصل الشتاء تلك ذكريات الطفولة.. إنه الأذان، علىّ أن أسرع لتلبية النداء لبيت الله. مر وقت كبير، وها أنا أخرج أنا وصغيرى ناصف من المسجد وهو يلح فى طلب فانوس رمضان، لأول مرة أنسى بهذا الشكل وأتأخر فى إحضاره له.. وسرعان ما اشتريت له واحدا وأخذ يتحرك به أمامى ويرقص ويغنى مع أغانى ذاك الفانوس.. فامتزجت بداخلى فرحته بذكرياتى عن رمضان.. مر أكثر من عقدين على تلك الذكريات لكنى ما زلت أذكرها كأنها منقوشة على جدران عقلى.. نعم أذكر أول فانوس أردت أن يشتريه لى أبى، حيث كنت صغيراً، أسرعت لأرتمى فى أحضانه حزينا وقلت له: «أبى أنا أريد فانوس رمضان ذاك الفانوس الملون بالشمعة البيضاء»، ابتسم أبى وأمى وقال أبى: «لا، لن أحضر لك ذاك الفانوس»، ضربت فى الأرض بقدمى ونظرت لأمى أرجوها أن تقنعه فابتسمت وقالت: «لم لن تأتى له بفانوس رمضان؟»، ابتسم هو الآخر وشدنى إلى صدره.. وقال: «من قال إنى لن أشترى فانوساً له؟».. نظر إلىّ وابتسم وأردف: «أنا لن أشترى ذاك الفانوس القديم.. أنا سأشترى له فانوسا يعمل بالبطارية وبه لمبة على شكل بوجى الذى يعشقه أحمد». أذكر ذاك الفانوس جيداً، إنه ليس كما تبدو فوانيس اليوم ولكنه كان يومها شيئا جديدا وبالنسبة للأطفال يومها أجدد من الطائرات التى كنا نجرى وراء بعضنا كلما رأيناها تحلق فى السماء.. نعم إنها ذكريات جميلة. رمضان أكثر ارتباطاً فى طفولتى، إننى أذكر معه جدى خير، ذاك الرجل الصالح الذى لم يكن يشاهد فى التلفاز إلا نشرة الأخبار وكان طول اليوم يستمع للقرآن الكريم أو يقرأه، كان جدى محافظاً على صلاته ومثلا يحتذى فى الخير، كان يفعل كل شىء وكأن عمله امتداد من اسمه فهو كان خير الله الممدود للناس.. فإنى أذكر ذاك اليوم جيداً، وأنا صغير، حين حاولت أن أقلدهم فى الصيام ولم أفلح، كنت صغيراً ذا أربعة أعوام، ذهبت إلى جدى ودخلت داخل عباءته لأختبئ من جدتى حتى لا تجبرنى على تناول الطعام، لكنه أوقف قراءته للقرآن وأخرجنى وابتسم لى وسألنى لم أختبئ هنا، قلت: «يا جدى أنا أريد أن أصوم مثلك ومثل جدتى وأخوالى».. فابتسم لى وقال: «يا أحمد، أنت صغير على الصوم وسيجىء يوم تصوم فيه مثلنا ولكن اليوم لا تتعب جدتك»، فقلت: «يا جدى، إنى صائم معكم.. فأنا لم أتناول طعاما منذ الصباح.. أشرب الماء فقط»! أشرق وجه جدى من الابتسام، وقال: «سأقول لك شيئا: هذا العام تدرب على الصيام حتى الظهر والعام القادم حتى العصر والعام بعد القادم صم معنا حتى المغرب ولكن يومها سنعلمك أشياء أخرى عن الصيام»، ابتسمت وقلت له: «نعم يا جدى سأفعل، ولكنى أريد أن أذهب معك إلى الجامع لأصلى معك»، ازدادت ابتسامات جدى وأومأ برأسه موافقاً، فجريت ناحية جدتى لتطعمنى وعاد جدى لقراءة القرآن.. وفجأة قطع «ناصف» سيل الذكريات التى ملكت علىّ كيانى، وقال: «أبى، هل ستشترى فانوسا لأمى هى الأخرى؟».. ابتسمت له وقلت: «ومن قال لك ذاك؟ أعتقد أنها أمك»، أومأ برأسه فعلمت أنها هى فرجعنا إلى المحل لأشترى لها واحداً على شكل قلب.. لا أعلم كيف يكون فانوس لرمضان على شكل قلب.. إنها الصناعة الصينية تفعل أى شىء لتغزو الأسواق وتملكها.. تحركت لأعود إلى البيت أنا وناصف وسرعان ما عاد سيل الذكريات يهاجمنى فى تلك الضحكات واللعب حولى من كل الأطفال ومن ناصف.. عادت بى إلى طفولتى، فى أحد أيام رمضان كنت أحاول أن أكسر التمر مع جدتى لكنه كان صعب الكسر، كنت أحاول حتى إنى كدت أن أجرح أصابعى فحاولت أن تمنعنى جدتى كثيراً خوفاً علىّ، إلى أن طلبت منى أن أترك ذاك كله وأطلع إلى غرفة خالى محمد لأجلس معه إلى أن يحين الإفطار فطلعت وفتحت الباب فوجدت خالى نائما، فلم أحاول إيقاظه وتركته وصعدت على السرير لأصل إلى مكتبته بجوار السرير، التى كانت مملوءة بروايات الجيب التى انتشرت فى تلك الأيام بين الشباب، أخذت أقرب الروايات ليدى ثم تحركت على السرير إلى أن أصبحت قريباً من مكتبه، فأخذت قلما وجلست على السرير بجواره أحاول أن أرسم تلك الصور فى الرواية، أحاول وأفشل.. أحاول وأفشل إلى أن استيقظ خالى فجأة وقال: «يا أحمد، هل المغرب أذن؟»، قلت له: «يا خالى، لم يؤذن».. وسرعان ما نهض من على السرير، وفجأة صرخ بكل ما أوتى من قوة وقال: «ماذا تفعل؟ أنت دمرت الرواية! حرام عليك، ألم تجد إلا تلك الرواية؟.. ماذا أفعل فيك؟ إنى لم أقرأها بعد»، ابتسمت له وقلت: «يا خالى محمد، أنا أرسم الصور»، فنظر لى بيأس وقال لى: «ألم تجد إلا ذاك القلم الجاف لتبدع به يا صغيرى؟ لمَ لم تأخذ القلم الرصاص حتى كنت محوته بممحاة؟»، تنهد لفترة ثم قال: «استمر بالرسم، ولكن لا تأخذ أى قصص أخرى».. ابتسمت له.. فابتسم لى ووضع يده على رأسى.. كم رسمت تلك الذكرى على وجهى بسمات سرعان ما أثارت زوجتى جهاد التى أخرجتنى من هيام ذكرياتى مع طفولتى ورمضان.. فجذبتنى جهاد لها وقالت: «كم جميل يا حبيبى أن تتذكرنى بفانوس رمضان وترسم كل تلك البسمات فى وجهى لكى تقول أحبك!»، ابتسمت لها من فرط سيل الضحكات التى بداخلى التى أقتلها حتى لا تظهر على وجهى وأنا أسرد مع نفسى أنى كنت هناك أيام زمان، وأنا لولا ناصف ذكرنى كنت سأقتل اليوم فعلاً.. فابتسمت لها وقلت: «إن فانوسك يا عزيزتى أهم شىء يشغل بالى حتى تكونى سعيدة مثل ذاك...».