في مثل هذا الصباح، وبعيد عن الدار في بلدتنا... غسلتك يا جدي ومشطت شعرك وطيبتك بالمسك والطيب كشاب يحتفل به الأقران في ليلة عرسه، وهمست بأذنك: بلغها منى السلام. وقل لها: أنى أحبك، يا من تلعثم لساني صغيرا في نطق حروف اسمها "ماما زيا".! آه تخرج هى من زمن مضى، فمن يعيد لى وسامة زمنى وطفولتي عندما كنت أجرى على حضنها، من؟ رفعتك يا جد من فوق المغسل بين اليدين. هذه القامة العريضة المهيبة التى كنت أحتمى خلفها من الريح فوق فرسك الأصيل - باعوا فرسك يا جد - ! ازدحمت الظهيرة، وخرج كل من يحبوك واقفين بعيون معجبة، كما كنت تمشى بينهم بعصاك وعباءتك البيضاء، وكفك يحضن كفى الصغير، وعندما كانوا يعرضون عليك مطلبهم. يقسمون عليك بطرح البركة في طفلك، كنت تنظر لى وتبتسم وتقول لهم: هذا أغلى من طفلي.! وتقضى حاجتهم. هى هى نفس العيون. تراني الآن أحملك فوق كتفي، وكلما اقتربنا من القصر يرتجف النبض منى، وأغار منك، لسوف تنام فى حضنها الليلة بدون أن أقتسم معكما الفراش، بدون أن تنتهى المعركة؛ لصالحي بكلمة منها: قم صل صلاة ليلك خيرا لك يا حج.! وتنظر ليََ، وتضحك، وتقول: ألا تريد أن تصلى مع جدك؟! فأنفض الغطاء، وأهرول واقفا خلفك، وعندما تسجد. كنت أركب على ظهرك.! والآن... حملتك يا جد وبجوار قصرها وضعناك.. بكيتها، وكأني لم أبك من قبل. كل ذهولى وصمتي حينها فاض دمعا ونحن نضعك فى مرقدك الأخير، وجلست بين قصركما أبكى عليكما. أبكي على طفولتي الوسيمة التي رسمتموها بأناملكما، بخبز حبكما برطب نخيلكما.. بمرحى ولعبى تحت ظلكما، وحبى لكما، وسُمعتك التى كانت تَسبقنى فى كل خطوة بأنى ابنكما، وليس حفيدكما. تاجا كان يفرقنى ويميزني عن الأقران.! كنت ومازلت بعد سنوات رحيلكما مشهورا بكما، كلما زرت البلدة ترانى الناس أنى أنك يا جد، وأضحك وأقول عن جد: أين أنا من هذا الفارس النبيل. وتقول الجدات صاحبات جدتى: يا عين قلب أمك، كانت روحها فيك، تحمل يا ولد يا سى الأستاذ جمال كرمها.! زهرة منكما. رأيتها بين قصركما. تشرب من نبعكما الربانى، وصيت عليها الحارس أن يرعاها، آخر مرة. أخبرني أنها كبرت، وأصبحت شجيرة تظلل على جنتكما. بالأمس رأيتها تفتح لي باب الجنة! نعم بالأمس رأيت الجدة فوزية بالمنام تمشط شعري.. تطعمني حبات البندق والتوت.. تلبسني أجمل الثياب.. تأخذني من يدي و تفتح لي باب الجنة، وتضحك: هناك مقعدك بجوار جدك.! رأيتك يا جد أوسم منى، أصبى منى، شابا، فارسا مكتمل النبل، يزهو بعصا العزة والشموخ كما كنت في الدنيا. هممت أن أجرى عليك، وأجلس بجوارك على المقعد كما كنت أفعل صغيرا.. جذبتني الجدة بشدة، وقالت: ليس بعد، فالعمر الطويل لك يا أجمل أطفالي. ودموعا فرت من عينيك تنظرني؛ فصحت : ما بك يا جد؟ بسطت يديك؛ فإذ بالدار والدوار يعرضها العم للبيع. بكت جدتي صامتة فى وقارها كعادتها، ورأيت فى صفحة عينيها وشط الجفون المكتحلة. يد ما. تحاول قلع شجرة الموز بصحن الدوار.! فصحوت من نومي وطعم التوت والبندق برائحة جيب جدى مخلوطا بعطر يد جدتى فى حلقى، بلعت ريقى، وتناولت الهاتف، واتصلت بالعم النذل: كرامة لجدي ولجدتي، سأشترى الدار والدوار أنا؛ فلا غريب أبدا يحل مكانهما. ووسط الثلج المحيط بى رأيت قلبى يبتسم. رأيته يطل على قصركما ويقرأ لكما الفاتحة والدعاء. ==== "متون نقش العشق" قيد النشر