ليس لأنه من (ديروط الشريف) فحسب؛ ولكن لأنه تلميذ الإمام/ محمد عبده، وأحد روّاد صالون العقاد! ورمز الوطنية الأكبر .. كان (حافظ إبراهيم) نَضَّرَ الله وجهه؛ أقرب إلى "التراثية" من شوقي، بينما كان شوقي أقرب إلى "التجديدية" والتأثّر بالثقافات الأجنبية من حافظ. أوْ كما قال العقاد –رحمه الله-: "كان حافظ مفطوراً بطبعه على إيثار الجزالة والإعجاب بالصياغة والفحولة في العبارة". بلْ كان من أشد الشعراء حرصاً على اختيار اللفظ وتذوق الجرس، وكان حريصاً على أن تكون ألفاظه فخمة تحرك المشاعر وتثير العواطف. وقد وجد في الأسلوب القرآني مثله الأعلى الذي يُغذّي هذا الطابع لديه، ولعلّ هذا كان ثمرة من ثمار مجالسته الإمام محمد عبده، إذْ يقول: "فقد كنتُ ألصق الناس بالإمام، أغشى داره وأرِد أنهاره وألتقط ثماره ...". عندما مات رثاه صديقه "شوقي" بقصيدة، قال فيها: قَد كُنتُ أوثِرُ أَن تَقولَ رِثائي يا مانِحَ السودانِ شَرخَ شَبابِهِ يا حافِظَ الفُصحى وَحارِسَ مَجدِها ما زِلتَ تَهتِفُ بِالقَديمِ وَفَضلِهِ جَدَّدتَ أُسلوبَ (الوَليدِ) وَلَفظِهِ وَجَرَيتَ في طَلَبِ الجَديدِ إِلى المَدى خَلَّفتَ في الدُنيا بَياناً خالِداً وَغَداً سَيَذكُرُكَ الزَمانُ وَلَم يَزَل يا مُنصِفَ المَوتى مِنَ الأَحياءِ! وَوَلِيَّه في السِلمِ وَالهَيجاءِ وَإِمامَ مَن نَجَلَت مِنَ البُلَغاءِ حَتّى حَمَيتَ أَمانَةَ القُدَماءِ وَأَتَيتَ لِلدُنيا بِسِحرِ الطائِي حَتّى اِقتَرَنتَ بِ(صاحِبِ البُؤَساءِ) وَتَرَكتَ أَجيالاً مِنَ الأَبناءِ لِلدَهرِ إِنصافٌ وَحُسنُ جَزاءِ وقد اشتُهِر حافظ بسخطه على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مصر، فكتب كثيراً من القصائد، يكشف عن مدى الفساد والانحلال الذي أصاب كيان الأمة، وأوهى عزيمتها .. فاستمع إليه من قصيدة في شؤون مصر السياسية، قالها في عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا سنة 1932 وتبلغ نحو مائتي بيت: قَدْ مَرَّ عاُم يا سُعاُد وعاُم صَبُّوا البَلاءَ على العِبادِ فنِصْفُهُمْ أَشكُو إلى (قَصْرِ الدُّبارَةِ) ما جنى وابنُ الِكنانةِ في حِماُه يُضَامُ يَجْبى البِلادَ ونِصِفُهُمْ حُكّامُ (صِدْقيِ الوَزِيُر) وما جَبَى (عَلامُ) ثم ينتقل في الحديث مخاطباً الإنجليز: قُلْ للُمحايِدِ هَلْ شَهْدتَ دِماءَنا إنّ المرَاجِلَ شَرُّها لا يُتَّقَى لَمْ يَبْقَ فِينا مَنْ يُمَنِّى نَفْسَه أمِنَ السِّياسَةِ والمرُوءَةِ أَنّنا إنّا جَمَعْنا للِجهادِ صُفُوفَنا تَجْرِى وهَلْ بَعْدَ الدِّماءِ سَلامْ؟ حتىّ يُنَفِّسَ كَرْبهُنَّ صمِاُم بوِدادِكُمْ، فوِدَادكُمْ أحْلامُ نَشْقَى بُكْم في أَرْضنَا ونضامُ؟ سَنمُوتُ أوْ نَحْيَا ونَحْنُ كِرامُ ويختتمها مخاطَباً إسماعيل صدقي باشا، قائلاً: ودَعَا عليكَ اللهَ في مِحرابِهِ الشيخُ والقِسِّيسُ والحاخاُم لا هُمَّ أَحْي ضَمِيَرهُ ليَذُوقُها غُصَصًا وتَنْسِفَ نَفْسَهُ الآلاُم كان حافظ معجباً بالإمام محمد عبده أشدّ الإعجاب، وكان حريصاً على متابعة محاضراته التي كان يعقدها بالأزهر عصر كل يوم، يلقي فيها دروساً في الفقه والتفسير والفلسفة والبلاغة والتاريخ ..إلخ. فأدناه منه، واتخذت علاقتهما بذلك طابعاً خاصاً. وعندما أُلْحِقَ بسلاح المدفعية بالسودان، تبرّم وضاق ذرعاً من سوء معاملة الإنجليز، ومن قسوة الحياة، فأرسل كتابيْن إلى الإمام يشكو فيهما سوء حاله، وأنه حلّ حلول "الكليم" في التابوت، و"المغاضِب" في جوف الحوت بين الضيق والشدة، والوحشة والوحدة .. لا؛ بلْ حلول الكافر في يوم الحساب بين ناريْن: نار القيظ، ونار الغيظ. فاستنجد بالإمام لإرجاعه إلى مصر قبل أن تزهق روحه: يا من تيَّمنتْ الفتيا بطلعتهِ أدرِك فتاكَ فقد ضاقت به الحالُ! ويكتب إليه رسالة يصف فيها -نثراً وشِعراً- ما يعانيه، ويستنجزه وعده بالسعي من أجل إعادته، يقول: "أناديه نداء الأخيذة في عمورية شجاع الدولة العباسية، وأمدّ صوتي بذكر إحسانه مد المؤذن صوته في أذانه؛ واعتمد عليه في البعد والقرب، اعتماد الملاّح على نجمة القطب: وقال أصيحابي وقد هالني النوى وهالهم أمري: متى أنت قافل؟ فقلت: إذا شاء الإمام فأوبتي قريبٌ وربعي بالسعادة آهِلُ وها أنا متماسك حتى تنحسر هذه الغمرة، وينطوي أجل تلك الفترة، وينظر لي سيدي نظرة ترفعني من ذات الصدع إلى ذات الرجع، وتردّني إلى وكري الذي فيه درجت، ردّ الشمس قطرة المزن إلى أصلها، ورد الأمانات إلى أهلها ... إلخ. لمَّا عاد إلى مصر لزِم مجلس الإمام–سلامُ الله عليه؛ الذي كان يعطف عليه ويمده بما يحتاج. وقد روى العقاد –رحمه الله- نقلاً عن حافظ إبراهيم نفسه أن الإمام تسلّم من حافظ أكثر نسخ كتاب "البؤساء" بعد صدور الجزء الأول، ثم أسلم حافظ من ثمنها ما يكفيه سنوات! لولا أن رزق السنوات –كما يقول العقاد– لا يتجاوز في يدي حافظ مدى الشهور! وظل عائشاً في كنف الإمام وبره خمس سنوات قلّما كان يفارق مجلسه فيها، فأفاد منه علماً وخُلُقاً وإدراكاً صحيحاً لشئون الحياة، كما أفاد من مجلسه التعرف إلى عظماء مصر وكبار رجالاتها وقادة الرأي فيها أمثال: مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وفريد وجدي، وعبد الله النديم، والشيخ علي يوسف، وغيرهم من أقطاب السياسة والفكر والأدب. وكان يحلو لحافظ أن يُلقِّب نفسه (فتى الإمام) مستلهِماً هذا اللقب، من سورة الكهف (وإذْ قال موسى لفتاه لا أبرحُ حتى أبلغَ مجمع البحريْن أوْ أمضيَ حُقَباً). فهو يشبّه نفسه من الإمام بيوشع بن نون الذي رافق الكليم عليه السلام- يهتدي بهديه ويسترشد بعلمه. ونراه يكرر هذا اللقب مؤكداً تواضعه، ومعبراً عما يحس من فضل الإمام عليه. فإذا لم يكن من الإمام كيوشع من موسى، كان منه كموسى من الخضر عليهما السلام: وَكُنتُ كَما كانَ اِبنُ عِمرانَ ناشِئاً وَكانَ كَمَن في سورَةِ الكَهفِ يوصَفُ كَأَنَّ فُؤادي إِبرَةٌ قَد تَمَغطَسَت بِحُبِّكَ أَنّى حُرِّفَت عَنكَ تَعطِفُ كَأَنَّ يَراعي في مَديحِكَ ساجِدٌ مَدامِعُه مِن خَشيَةِ اللَهِ تَذرِفُ! أجل؛ كان متيّماً بالإمام وعِلمه، وهو معه أينما حلّ وأينما رحل، يتفيّأ ظلّه وينهل من علمه! فيقول للإمام: إنَّ حبي لك شغلني عن الاستهلال بالغزل والنسيب، فدخلتُ إلى موضوع المديح بدون مقدمات: بَلَغتُكَ لَم أَنسب وَلَم أَتَغَزَّلِ وَلَمّا أَقِف بَينَ الهَوى وَالتَذَلُّلِ وَلَمّا أَصِف كَأساً وَلَم أَبكِ مَنزِلاً وَلَم أَنتَحِل فَخراً وَلَم أَتَنَبَّلِ فَلَم يُبقِ في قَلبي مَديحُكَ مَوضِعاً تَجولُ بِهِ ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ وراح يمدح الإمام بعدما تولى أمر الإفتاء .. ويشبهه بالفاروق عمر، وبالإمام علي رضي الله عنهما، تقى وحكمةً وعدلاً وتواضعاً، ويصوِّر الرسول الأعظم قد ابتهج حين تقلَّدَ الإمام منصب الإفتاء، فيقول: رَأَيتُكَ وَالأَبصارُ حَولَكَ خُشَّعٌ وَخَفَّضتُ مِن حُزني عَلى مَجدِ أُمَّةٍ طَلَعتَ بِها بِاليُمنِ مِن خَيرِ مَطلَعٍ وَجَرَّدتَ لِلفُتيا حُسامَ عَزيمَةٍ مَحَوتَ بِهِ في الدينِ كُلَّ ضَلالَةٍ لَئِن ظَفِرَ الإِفتاءُ مِنكَ بِفاضِلٍ ....................................... إِنّي لَأُبصِرُ في أَثناءِ بُردَتِهِ حَلَلتُ داراً بِها تُتلى مَناقِبُه رَأَيتُ فيها بِساطاً جَلَّ ناسِجُه تَبَسَّمَ المُصطَفى في قَبرِهِ جَذَلاً فَقُلتُ أَبو حَفصٍ بِبُردَيكَ أَمْ عَلي! تَدارَكتَها وَالخَطبُ لِلخَطبِ يَعتَلي وَكُنتَ لَها في الفَوزِ قِدحَ اِبنِ مُقبِلِ بِحَدَّيهِ آياتُ الكِتابِ المُنَزَّلِ وَأَثبَتَّ ما أَثبَتَّ غَيرَ مُضَلَّلِ لَقَد ظَفِرَ الإِسلامُ مِنكَ بِأَفضَلِ ......................................... نوراً بِهِ تَهتَدي لِلحَقِّ ضُلّالُ ِبابِها اِزدَحَمَت لِلناسِ آمالُ عَلَيهِ فاروقُ هَذا الوَقتِ يَختالُ لَمّا سَمَوتَ إِلَيها وَهيَ مِعطالُ!