وضع الجَد يده على جرس الباب .. فتحت له ابنته ورحبت به , ولم يكد ينهى جملته بسؤاله عن حفيده تامر إلا أن فتح تامر باب الشقة بالمفتاح الخاص به ، وعندما وجد جَده أمامه هلل ورحب به وكأنه مازال طفلاً صغيراً رغم بلوغه السادسة عشرة منذ أيام مضت ” بمنتصف شهر يناير “فى احتفالية جميلة حضرها والده عائداً من الكويت ” مقر عمله ” خصيصاً حاملاً معه لاب توب جديداَ هديةً لتامر فى عيد ميلاده ، قاموا بدعوة أصدقاءه فى مطعم رائع بهذه المناسبة الغالية علىهم، خاصة أنه الإبن الوحيد، بعدها كان سفر الأب عائداً الى الكويت تاركاً زوجته وابنه فى رعاية حماه وأسرته . تناول الجميع الغذاء، دخل تامر إلى غرفته لمراجعة دروسه، بعد قليل دخل عليه الجَد يسأله عن صورالاحتفال بعيد الميلاد، جاذباً كرسيا وجالساً بجانبه، عندما نظر على شاشة اللاب توب وجد صديقاً لحفيده يتحدث معه على الخاص بخصوص مسيرات سلمية سيقوم بها الشباب يوم الخامس والعشرين من نفس الشهر، يطالبون فيها بالتغيير ، فامتقع لون الجَد وارتبك خوفاً عليه، ولم يتكلم مع حفيده إلا بعدما إنتهى من محادثة صديقه .. فقام بإستعراض الصور معه، وضحكا معاَ، خاصة وأن تامر يعشق جَده بصورة كبيرة، معتبره صديقه الكبير الحنون ومثله الأعلى فى الحياة بعد والده ، من هنا كان مدخل الجَد مع تامر لمناقشته فى موضوع المسيرات، وما وراءها من مطالب ، كتغيير لوزير الداخلية والحكومة يوم عيد الشرطة ، وعلم الجَد أن أساس الدعوة كانت من خلال صفحة اسمها ” كلنا خالد سعيد ” .. حاول الجَد إثناءه عن الذهاب ،ولكن كان فضول الشباب وحماسة أقوى عند الحفيد ، تفهم الجد هذه النقطة تماماً وهنا عرض عليه الجَد الذهاب معه فوافق تامر وسعد بهذا الاقتراح جداً . من ناحيته ذهب الجَد إلى منزله ودخل على الإنترنت وبحث إلى أن عرف كل ما يتعلق بالمسيرة، ودور النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعى فى إيقاظ حماس الشباب للمطالبة بالتغيير، وحسب خبرة الجَد كان هناك شيء ناقص بالتأكيد، كان لديه تخوف من النتائج، لذا أصر داخل نفسه على مصاحبة حفيده فى تلك المسيرة السلمية . فى اليوم المنشود تقابل الجَد مع الحفيد وأصدقائه ، وقام الشباب بالترحيب به وسار إلى جوارهم وتداخل معهم فى الأحاديث المختلفة، وبحوارات سياسية، اقتصادية، اجتماعية عديدة، جلس معهم على الرصيف متقرباً منهم ومن أفكارهم محاولاً إذابة الفجوة الزمنية التى تفرق بين جيله وجيل حفيده، فوجد أن مصر تمتلك أجيالا مبشرة واعية مثقفة ولكنها تحتاج لمَنْ يقوم على رعايتها، وإرشادها للطريق الصحيح، وارشاداُ لطاقات هذه الأجيال فيما ينفع مصر، والدليل أن صفحة على الإنترنت وبرامج التواصل الإجتماعى استطاعت القيام بحشد هذا الكم المبشر من شباب مصر المثقف على قضية الشاب خالد سعيد ( بالرغم من اختلاف الآراء على مدى مصداقيتها ) ولكنها كانت بمثابة جرس إنذار ينبهنا بقوة تواجد شبابنا على أرض الواقع . لم تقتصر المسيرات على يوم واحد، ولكنها تعدت إلى الأيام التالية وسقف مطالب الشباب يزداد، شعر الجَد ببوادر تنذر بخطر قادم، لكنه غير واضح المعالم وبدأ التدخل من فئات غير الشباب الواعى تظهر وتتداخل فى المسيرات، وتلوث ما فيها من أهداف كانت واضحة كرسالة من الشباب إلى الحكومة، ظهور فئات من البلطجية وساكنى العشوائيات منهم المأجور ومنهم من يخرب بدافع ب الحقد والنقمة على المجتمع الذى لا يلتفت إليهم من عقود، ثم فئات من التيارات المختلفة ما بين إخوان، علمانيين وليبراليين، نشطاء وحقوقيين وغيرهم .. الكل يلتحم مع الشباب محاولين إزاحتهم، ليسيطروا على المسيرات السلمية، لتتحول إلى عدائية ومعارك بالشوارع والأزقة والميادين، يختلط الحابل بالنابل .. وكان يوم جمعة الغضب أمام أعين العالم كله، خاصة عن طريق الإعلام والقنوات التليفزيونية الشهيرة مثل قناة الجزيرة القطرية التى توسطت أماكن الأحداث بشره إعلامى مغرض، لبثه فى جميع دول العالم وتوزيعه على المواقع الإخبارية بالإشتراك مع غيرها من المواقع الغربية وكاميراتهم ومراسليهم، الذين تموضعوا في مواقع استراتيجية لنقل الأحداث الساخنة .. في لحظات أدرك الجَد هول اللحظة وخطورة ما يحدث من عملية اختراق للمسيرة، هي لحظة حاسمة، لم يكن أمامه سوى ان يأخذ قرار، إمَّا أن يصطحب حفيده بعيدا عن هذه المعركة الكارثية الشرسة غير محسومة النتائج، أو أن يظل متواجدا على أمل أن يتم السيطرة على الموقف من قِبَل الشرطةو رجال الأمن، وبالطبع إختارالقرار الأول استجابة لصوت العقل والخبرة، واستجابة لاستجداء الأم ورغبة الأب قبل انقطاع خطوط الموبايل من شركات المحمول بأن يتركا المسيرة ويرجعا إلى المنزل، هنا أقنع الجَد تامر بمحاولة الإنسحاب بذكاء وفى سرعة من وسط الشوارع التى إنفرط فيها النظام ،وتعالت أصوات طلقات النارمن مصادر غير معلومة، وسقط الجرحى من حولهم ، وتعالت الصيحات فى كل مكان حتى رجال الشرطة يتم الاعتداء عليهم من قِبل البلطجية، والمسجلين الخطر، تواجد قناصة مجهولي الهوية ظهروا في الساحة فجأة في مواقع متفرقة، كأنها خطة سابقة الإعداد و التجهيز، وانقلب المشهد تماماً وتحققت مخاوف الجَد . لفت نظر الجَد تواجد بناية كبيرة عالية فشاور لحفيده تامرعليها كهدف يصلون إليه، فهم تامر الرسالة وأمسك بيد جَده بقوة .. تلاحمت فيها اليدان حيث شعرا بكفيهما وكأنهما كف واحد قوى، يصارع أمواج البشر المتلاطمة من حولهما اختلط فيهما الصالح مع الطالح، الشرطى ممثل القانون والمجرم طريد العدالة ، الشاب الجامعى المثقف صاحب المسيرة السلمية ، مع الهمجى والمأجور الذى يمثل المأفون وتاجر المخدرات والسلاح،القاتل والإرهابى، فتاة الجامعة وسيدة المنزل والموظفة يطحن وسط المنقبات ونماذج من فتيات الجمعيات الحقوقية، ومازاللا يصارعان هذه الأجسام المتلاطمة من البشر، حتى وجدا أنفسهما أمام العمارة فكانت بالنسبة لهما طوق النجاة فأخذ تامر يجذب الجَد معه إلى مدخلها وهو يتنفس بصعوبة بالغة، حاولا دق ابواب الشقق، لكن الخوف والحذر منع السكان من تقديم المساعدة لأى مَنْ كان، فلجأ إلى السطح كى يختبئا به ، إلى أن تنتهى هذه المعركة الطاحنة التى تدور أمام أعينهما فى مشهد محزن كارثى، وحتى يلتقط الجَد انفاسه المجهدة المتلاحقة، وضربات قلبه تظهر من خلال نبض رقبته وعيناه المذهولتان الحمراوتان المفجوعتان، خوفا على حفيده وبلده ، نظر إليه حفيده مذعوراً، وينفجر تامر بالبكاء معتذراً لجَده : أنا آسف حقيقى يا جدى .. أنا السبب .. أنا اللى جبتك هنا وعرضَتك لكل ده !!! وأقبل على يد جَده يلثمها وهو مفعم بالبكاء . فاحتضنه الجَد وقال له : إنت عارف يا تامر جدك كبير وعجوز، على فكرة أنا ياما حضرت مطالبات ومسيرات ومشيت فى مظاهرات في مظاهرات واما صغير، لكن المرة دى أنا فضَّلت إنى أشارك معاك ؛لأنى حسيت إن فى حاجة غلط فعلاً وفيه خوف عليك .. تامر أنت وأصحابك طالبتم بالتغيير و ده مش عيب ولا حرام فى حد ذاته ؛ لأنه كان بأسلوب محترم وسلمى متحضر، لكن الخطأ اللى أنتم وقعتم فيه أنكم مفكرتوش شويه ايه اللى وراء اختيار التاريخ ده بالذات ؟ !! معرفتوش مين اللى بيقودكم للمطالبات دى وأيه هو هدفه الحقيقي من ورائها .. لكن إحنا فى أيامنا كنا عارفين , والتاريخ كله بيفخر بيهم وذكر دورهم ، أمثال سعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد نجيب وعبدالناصر وغيرهم من زعماء، التاريخ حفر أسماءهم بحروف من نور . هنا تنهد الجد وأشار لحفيده على برج القاهرة الذى كان على مرمى من البصر هامساً له: بص على برج الجزيرة هناك يا تامر ، ولا تُحبط أبداً فقد سمعت من صديق قديم لى أن هذا البرج قد تم بناؤه بمبالغ قد رصدت من العدو للتخلص من الزعيم جمال عبد الناصر ” رحمه الله ” فتم بناء برج القاهرة بهذه المبالغ فى رسالة بالغة الأهمية للعدو ولجميع حكومات العالم، وافتكر أهرامات بلدك الصامدة والتى لم يتوصل العالم لغاية دلوقتي لكيفية بنائها، وتأكد دائماً أن بلدك شامخة وستظل شامخة بأبنائها فمصر صانعة للرجال والأبطال ، و عمر ما حيأثر فيها أى مؤامرات وسيظهر هناك دائماً منقذ وقائد من تراب البلد دى حيدافع عنها، ويبعث فيها الإستقرار ، ويحث أبناءها على التقدم والعطاء والبناء والتصحيح . هنا نظر تامر إلى جَده وهو يكفكف دموعه ، ورأى أمامه برج القاهرة شامخاً وظهر فى مخيلته صورة قائد يظهرفى الأفق غير واضح المعالم،.يأتى صوت أذان الفجر يصدح من حولهما مؤذناً بفجر يوم جديد .. ينظر الجَد والحفيد من حولهما فيجدان المسجد وفى مقابله الكنيسة وتلتقى الأعين يتعانقان بكل قوة ناظرين إلى السماء صارخين متضرعين إلى الله بأعلى صوت : يارب مصر.