رئيس منطقة الإسماعيلية الأزهرية يفتتح معرض أنا الراقي بأخلاقي بأبوصوير    الرقابة الإدارية تستقبل وفد مفتشية الحكومة الفيتنامية    مصر ضمن الدول الأكثر استخداما لوسائل التواصل الاجتماعي (إنفوجراف)    إعلام عبري: إسرائيل تتوقع إصدار محكمة العدل الدولية أمرا بوقف الحرب    ماجد هاني يحتفل بالقوس والسهم بعد هدفه أمام الأهلي    بعد كارثة دائري المعادي، النائب العام يصدر قرارا عاجلا للحد من الحوادث    ابنة مصطفى كامل تخطف الأنظار في جلسة تصوير حفل زفافها (فيديو وصور)    وكيل صحة الشرقية يتفقد مستشفى العزازي للصحة النفسية وعلاج الإدمان    وزير الرياضة يطمئن هاتفيًا على لاعبة المشروع القومي بعد جراحة «الصليبي»    اعتدى على طفلة بشبرا الخيمة.. إحالة أوراق طالب إلى فضيلة المفتي    الهلال يضرب الحزم برباعية في الشوط الأول    عاجل.. مظاهرات في مناطق متفرقة من إسرائيل ومطالب بإقالته نتانياهو    كنيسة يسوع الملك الأسقفية بالرأس السوداء تحتفل بتخرج متدربين حرفيين جدد    تساوت المباريات مع أرسنال.. سيتي ينقض على الصدارة باكتساح فولام    عزة مصطفى تُحذر: "فيه مناطق بمصر كلها لاجئين" (فيديو)    هدى الأتربى تكشف تفاصيل مسلسلها القادم مع حنان مطاوع    بكلمات مؤثرة.. إيمي سمير غانم تواسي يسرا اللوزي في وفاة والدتها    اختتام أعمال الاجتماع 37 للجنة وزراء الشباب والرياضة بدول مجلس التعاون الخليجي    لخلافات مالية.. عامل يطلق النار على صديقه في الدقهلية    حصاد 4 آلاف فدان من محصول الكمون في الوادى الجديد    محافظ القليوبية يناقش تنفيذ عدد من المشروعات البيئة بأبي زعبل والعكرشة بالخانكة    إصابة 3 أشخاص في انقلاب سيارة محملة بطيخ بقنا    اليوم العالمى للمتاحف.. متحف إيمحتب يُطلق الملتقي العلمي والثقافي "تجارب ملهمة"    وزير الأوقاف يحظر تصوير الجنائز بالمساجد مراعاة لحرمة الموتى    عمرو الورداني للأزواج: "قول كلام حلو لزوجتك زى اللى بتقوله برة"    تفاصيل إنشاء 1632 شقة سكن لكل المصريين بالعاشر من رمضان    خالد عبدالغفار: وزارة الصحة وضعت خططا متكاملة لتطوير بيئة العمل في كافة المنشأت الصحية    طلعت عبد القوى يوضح إجراءات استكمال تشكيل أمناء التحالف الوطنى    رئيس"المهندسين" بالإسكندرية يشارك في افتتاح الملتقى الهندسي للأعمال والوظائف لعام 2024    الخميس المقبل.. «اقتصادية النواب» تناقش خطة التنمية الاقتصادية ومنع الممارسات الاحتكارية    محافظ كفر الشيخ يعلن بدء التشغيل التجريبي لقسم الأطفال بمستشفى الأورام الجديد    نقيب الأطباء يشكر السيسي لرعايته حفل يوم الطبيب: وجه بتحسين أحوال الأطباء عدة مرات    مواصفات وأسعار سيات إبيزا 2024 بعد انخفاضها 100 ألف جنيه    وزير التموين: مصر قدمت 80 ٪ من إجمالي الدعم المقدم لقطاع غزة    أخبار الأهلي : طلبات مفاجئه للشيبي للتنازل عن قضية الشحات    آخرها هجوم على الاونروا بالقدس.. حرب الاحتلال على منظمات الإغاثة بفلسطين    إلغاء جميع قرارات تعيين مساعدين لرئيس حزب الوفد    جيش الاحتلال الإسرائيلى: نحو 300 ألف شخص نزحوا من شرق رفح الفلسطينية    «الأرصاد» تكشف حقيقة وصول عاصفة بورسعيد الرملية إلى سماء القاهرة    نتائج منافسات الرجال في اليوم الثاني من بطولة العالم للإسكواش 2024    العثور على جثة سيدة مجهولة مفصولة الرأس بمحطة الفشن ببني سويف    جامعة القاهرة تستضيف وزير الأوقاف لمناقشة رسالة ماجستير حول دور الوقف في القدس    الإمارات تهاجم نتنياهو: لا يتمتع بأي صفة شرعية ولن نشارك بمخطط للمحتل في غزة    قروض للشباب والموظفين وأصحاب المعاشات بدون فوائد.. اعرف التفاصيل    البابا تواضروس يدشن كنيسة "العذراء" بالرحاب    التنمية المحلية: استرداد 2.3 مليون متر مربع بعد إزالة 10.8 ألف مبنى مخالف خلال المراحل الثلاثة من الموجة ال22    بعد ثبوت هلال ذي القعدة.. موعد بداية أطول إجازة للموظفين بمناسبة عيد الأضحى    إحالة العاملين بمركز طب الأسرة بقرية الروافع بسوهاج إلى التحقيق    مباشر مباراة المنصورة وسبورتنج لحسم الترقي إلى الدوري الممتاز    ما حكمُ من مات غنيًّا ولم يؤدِّ فريضةَ الحج؟ الإفتاء تُجيب    المفتي يحسم الجدل بشأن حكم إيداع الأموال في البنوك    «صفاقة لا حدود لها».. يوسف زيدان عن أنباء غلق مؤسسة تكوين: لا تنوي الدخول في مهاترات    بعد وصفه ل«الموظفين» ب«لعنة مصر».. كيف رد مستخدمي «السوشيال ميديا» على عمرو أديب؟    «الصحة»: نتعاون مع معهد جوستاف روسي الفرنسي لإحداث ثورة في علاج السرطان    حادثة عصام صاصا على الدائري: تفاصيل الحادث والتطورات القانونية وظهوره الأخير في حفل بدبي    مجلس الأمن يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل وفوري في المقابر الجماعية المكتشفة بغزة    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    ثنائي الزمالك قبل نهائي الكونفدرالية: التاريخ يذكر البطل.. وجاهزون لإسعاد الجماهير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرفيق ( قصة )
نشر في شباب مصر يوم 30 - 01 - 2012

للحظة ظللت جالساً في موضعي غير قادر على التحرك أو النهوض .. وعندما نهضت أخيراً أضاءت النور وتطلعت لوجهي في المرأة فوجدت على خدي الأيسر علامة حمراء طويلة .. علامة ملتهبة .. وعرفت أنها ضربة قوية من سوط رفيقي الناري الذي يحمله كل بني جنسه !
لقد جلدني بسوطه الناري !
وأنا واقف أتطلع للأثر الذي تركه رفيق عمري على وجهي أحسست بحقد وغضب لم أعرفه في حياتي من قبل ..إنه لم يكتفي بحرماني من حبيبتي ومحاولة الاستئثار بها لنفسه بل لقد جرؤ أيضاً على ضربي وجلدي .. أيخوفني ؟! أيهددنني ؟! أيرعبني ابن " سموم " ؟!
لم يتركني هذا الرفيق لحظة واحدة طوال عمري !
صبي في مثل سني .. وسيم أنيق صغير الحجم ، سريع البديهة حاد الذكاء .. يتحدث عدة لغات بطلاقة ويغني أغاني غريبة لا أعرف من أين تعلمها .. لم يكن يدرس في المدرسة كما أخبرني ، فغالباً لا توجد في عالمه مدارس كما أفهمني .. ولكن توجد وسائل أخري للتعليم وهي أفضل من وسائلنا وأكثر جدوى والأهم أنها أسهل وأيسر وأسرع وأنجع .. فيكفي أن يردد الإنسان كلمة ما عدد معين من المرات ليلم بكل المعلومات والموضوعات المتعلقة بهذه الكلمة مهما كثرت !ورغم كل مميزات رفيقي هذا فإنه كانت توجد مشكلتين تنغصان علينا صداقتنا ورفقتنا الطيبة .. أولهما أننا لم نكن نلتقي إلا في الحمام .. فقد كان مصر على عدم الظهور إلا في الحمام .. وهذا بالنسبة لي كان حرية شخصية !
المشكلة الثانية كانت إصرار أمي وأبي على أن رفيقي هذا من عالم خيالى .. وإنه لا وجود له إلا في أوهامي .. ولكن أبواي كانا غير مقنعين في هذه المزاعم .. فرفيقي هذا كان له وجود مادي كامل .. جسم وطول وارتفاع وسمك وحجم محدد وملامح ثابتة وظل ويشغل حيزاً من الفراغ .. فكيف يكون مجرد وهم .. لابد أن أبواي هما اللذين يتوهمان ولست أنا !
**********
كبرنا معاً خطوة بخطوة ودرجة بعد درجة .. وعندما وصلت إلى الصف السادس الابتدائي زاد طولي فجأة وأصبحت طويلاً نحيفاً قوي البنية .. وكذلك حدث هذا الأمر معه !
حتى الآن ؛ ورغم مرور خمسة أعوام على بداية تعارفنا ولقاءنا الأول المثير ؛ وهو لقاء سأروي لك الكثير عنه بعد قليل ؛ لم أكن قد فطنت إلى أن رفيقي الغامض هذا يشبهني كثيراً .. فلم أكن أعبأ كثيراً بتفحص ملامحه بقدر ما كنت أحب الإنصات إلى حديثه الطلي المشوق المليء بالمعلومات الغريبة والمعارف العجيبة التي لا أعرف من أين ولا كيف حصلها .. حتى أصواتنا لم أدرك أنها متقاربة ومتشابهة .. ولعل ذلك يرجع إلى حقيقة يجهلها كثير من الناس وهي أن الإنسان ؛ غالباً ؛ لا يسمع نبرة صوته الحقيقي بأذنيه لذلك فهو إذا ما سمع صوتاً مشابهاً لصوته لا يدرك هذه الحقيقة ولكن يدركها الآخرون ..
وهكذا مضينا نتحدث معاً كل ليلة ونلعب ونغني وندرس ونحلم معاً .. لا يعكر صفونا شيء سوي موقف والداي الغريب منه .. حتى قرر والداي عرضي على هذا الطبيب المقيت .. ولكنني كنت قد وعدتك بأن أحكي لك عن لقاءي الأول معه .. فأسمع يا سيدي وأنصت لعلك تستفيد !
***********
كان عمري وقتها ست سنوات.. ورغم صغر سني حين مررت بهذه التجربة الفريدة إلا أنني ما زلت أذكرها ثانية بثانية وكأنها وقعت بالأمس فحسب .. ففي ليلة حارة من شهر يوليو أصابتني حمي غريبة وغلا جوفي بحرارة بالغة جعلتني مثل الأرنب المشوي .. وحضر الطبيب وكتب لي نحو سبعة أنواع من الأدوية كانت كلها ؛ ولله الحمد ؛ كريهة المنظر ومقززة الطعم .. المهم بقيت أمي بجواري طيلة الليل تعمل لي كمادات باردة وتعطيني الدواء مرة بعد مرة ، بينما كنت أنا راقداً في فراشي أتصبب عرقاً وقد انفتحت مثانتي كالبالون المثقوب ، فأخذت أتردد على الحمام كل دقيقتين .. وظللت هكذا طيلة الليل حتى أصابني إرهاق أشد من الحمي ذاتها .. وقبل الفجر بساعتين استيقظت من نومي على منام غريب لا أعرف ما إذا كان حلماً أم كابوساً وكنت أتصبب عرقاً بغزارة وأشعر أن مثانتي موشكة على الانفجار ، بينما كانت أمي مستغرقة في نوم عميق على مقعد بجوار فراشي وقد هدها التعب والسهر فراحت في النوم ولم تعد تشعر بشيء حولها .. نهضت من فراشي بحذر محاولاً عدم إقلاق أمي المسكينة .. مشيت على أطراف أصابعي وخرجت من غرفتي فوجدت نور الصالة مطفأ ، وهذه لم تكن من عادة أمي التي كانت تترك لنا ؛ أنا وأخوتي ؛ نور الصالة مضاء طوال الليل حتى لا يخف أحدنا إذا ما أراد الذهاب ليلاً إلى الحمام .. المهم أنني دخلت إلى الحمام وأضأت النور .. وجلست إلى المرحاض .. وقبل أن أقضي حاجتي فوجئت بالنور ينطفئ من تلقاء نفسه .. ففزعت ونهضت من مكاني وذهبت إلى زر النور وضغطت عليه مرة واثنتين وثلاثة حتى أضاء أخيراً .. عدت للجلوس فوق المرحاض وبعد ربع ثانية أنطفأ النور مرة أخري .. هنا فزعت حقاً وكدت أصرخ طلباً للنجدة وبلغ بي الفزع حداً جعلني أبول على الأرض وأنا واقف .. ولكنني لاحظت نوراً غامضاً ينعكس على المرآة رغم أن الحمام مظلم بالكامل .. اقتربت من المرآة بحذر لأعرف مصدر هذا الضوء المنعكس عليها .. لم يكن الضوء موزعاً عشوائياً فوق المرآة بل كان مرتسماً على شكل هالة ؛ أو بيضة ؛ وسط المرآة .. تطلعت ملياً لهالة الضوء هذه ، كنت مأخوذاً أكثر مني خائفاً أو مرعوباً .. أخذت أتطلع إلى المرآة فترة طويلة دون أن يحدث شيء حتى هممت بالانصراف عنها .. ولكن فجأة لمحت ظلاً خافتاً يتحرك داخل هالة الضوء هذه .. ارتعبت ونظرت خلفي لأني تخيلت أن هناك من يقف ورائي .. فلما نظرت خلفي تأكدت من عدم وجود أحد آخر سواي في الحمام .. اطمأننت قليلاً وعدت للتحديق في المرآة وهنا وجدت صورتي منعكسة في المرآة وسط هالة الضوء بالضبط .. تعجبت لأن موقعي بالنسبة لها لا يسمح بأن تتكون صورتي في وسطها تماماً .. شدني هذا الأمر الغريب فمددت يدي إلى ظلي المنعكس ولكن يدي بقيت ممدودة خمس دقائق كاملة دون أن يقدم ظلي على فعل المثل !
شعرت بشيء غريب يسحرني ويجذبني فاقتربت أكثر واكثر من المرآة حتى ألصقت وجهي بها .. فتضخمت ملامحي وتورمت بشكل مثير للضحك .. وهنا وجدت نفسي أضحك .. أضحك وأضحك دون سبب واضح .. ولكن ظلي اللعين بقي صامتاً عابساً .. وظللت أضحك حتى سرت إليه عدوي الضحك فأبتسم لي ابتسامة خفيفة .. مددت له يدي ففعل المثل حتى تلامست أيدينا في وسط المرآة وفي قلب هالة الضوء الغامضة .. بعد ثانية كان هناك صبي صغير في مثل سني وحجمي يقف أمام المرآة مبتسماً لي بثقة وبراءة ..
قال لي بصوته الجميل الذي يشبه تغريد العصافير تحت نافذتي :
" كيف حالك ؟! "
فقلت له بثقة وقد تبخر خوفي وأحسست بشعور عجيب :
" أنا بخير الآن .. شكراً لك ! "
***********
في الصباح التالى كنت سليماً معافى كالثور .. بل كان يمكنني أن أركل الثور نفسه لو أن أحداً طلب مني ذلك .. تعجبت والداتي وسعدت بذلك وأخذت تثني على براعة الطبيب وشطارته ومهارته وقالت لأبي وهي تمسد على شعري الأسود الناعم :
" لقد شفي الولد على يديه في ليلة واحدة .. لن نلجأ لطبيب سواه مرة أخري وسوف يكون طبيب أسرتنا الدائم ! "
غير أن ما لا تعلمه أمي أن الذي شفاني ليس براعة طبيبها الأحمق ؛ الذي كاد يقتلني بأنواع غير مناسبة من الأدوية كما قال لي صديقي الجديد ؛ ولا يحزنون .. بل هي بركات صديقي الجديد وقدراته الخارقة ، فقد جعلني أقعي على ساقي في الحمام وأعطاني نقطة من سائل أسود غليظ بدون طعم .. وبعد أن شربتها مباشرة تبولت كمية ضخمة من سائل أخضر زلالى مقزز وبعدها شعرت براحة عميقة لم أشعر بها منذ أن غادرت رحم أمي .. عندها قال لي صديقي بوجهه الطيب الباسم :
" لن تصبك أي أمراض أبداً بعد الآن ! لقد استللت استعداد جسدك للإصابة بالأمراض إلى الأبد ! "
وفعلاً .. فحتى وصلت إلى المدرسة الثانوية لم أصب بأي من أنواع الأمراض المنتشرة ..لا صداع ولا أنفلونزا ولا لوز ولا التهابات ولا زائدة دودية ولا أي شيء !
***********
لم يستطع الطبيب النفسي أن يفعل أي شيء حيال موضوع صديقي ( الخيالى ) هذا !
حاول كثيراً ؛ وعبر جلسات علاج نفسي طويلة مرهقة ؛ أن يفهمني أن صديقي هذا مجرد وهم اخترعته من خيالى لأستحوذ على اهتمام والداي خاصة بعد وصول شقيقي التوأم الصغيرين ؛ اللذين استحوذا على اهتمام أمي ووقتها ؛ ولأكتسب أهمية خاصة في الأسرة .. وأخذ يحدثني عن عقلي الباطن وعقلي الواعي والرغبات المكبوتة المكتومة في اللاشعور .. وكل هذا الهراء الذي يردده تلاميذ ( فرويد ) النجباء كلما واجههم ما يجهلونه من أسرار الكون والطبيعة البشرية التي لا يريدون أن يعترفوا بتميزها وتفردها عن سائر مخلوقات الله .. ولأنهم لا يريدون أن يعترفوا بجهلهم فيلقون به على المرضي المساكين الذين يخرجون من عيادتهم بدستة أمراض نفسية زائدة عما دخلوا به !
فالمشكلة الرئيسية لم تكن في أنا .. بل كانت في إصرار أبي وامي واخوتي والطبيب على أن صديقي هذا غير موجود .. دون أن يحاولوا مناقشة الأمر جدياً أو البحث عن الحقيقة لكي يريحوا أنفسهم .. حتى واجهتهم الحقيقة التي يرفضون الاعتراف بها !
***********
حدث هذا عندما كنت في المرحلة الثانوية .. مرحلة الموت والفشل أو التشبث بالحياة والنجاة كما حورتها وزارة تعليمنا الرشيدة .. وبالتحديد في الصف الثالث الثانوي .. كنت أدرس في القسم العلمي وكنت شديد الرغبة في الالتحاق بأحدي كليات القمة .. لا ليست الطب كما يتخيل كل الناس بل الهندسة بالتحديد .. ولأنني أحلم بدخول كلية الهندسة ولأنني أدرس في القسم علمي رياضة ولأنني أريد أن أصبح شيئاً مهماً في المجتمع ولأن الفيزياء مادة شديدة الأهمية في قسمنا فقد كانت ليلة امتحان الفيزياء بالنسبة لي ليلة قلق وتوتر وخوف رهيب .. خفت من الامتحان لدرجة أنه انتابني إحساس كئيب بأنني لن أتمكن من اجتياز هذه المادة بالذات .. خفت لدرجة أن كل ما استذكرته من فصول المادة وعلومها طوال العام تبخر من ذاكرتي تماماً ولم أعد قادراً على تذكر قانون واحد من قوانين الفيزياء التي ندرسها !
خفت لدرجة أنني قررت ألا أدخل الامتحان !
طبعاً كان هذا جنون .. جنون وقتي أصابني فوجدت نفسي ؛ دون وعي ؛ أضطرب وأعاف الطعام وأشعر بماء مثلج يملأ معدتي حتى تخيلت أنني غير قادر على النهوض من مكاني .. واصابتني تشجنات شديدة ودخلت في حالة إعياء رهيبة ألقتني على فراشي كالتمثال الخالى من الحياة !
فزعت أمي وأسرع أبي بإحضار طبيب العائلة الكريه ليراني ويصف لي العلاج المناسب .. وكان الحال في غاية السوء .. فالامتحان لم يتبقى عليه سوي ساعات وذاكرتي اللعينة قد تحجرت فلم أعد أذكر حتى أنني سمعت من قبل عن شيء أسمه ( قوانين الفيزياء ) .. وجاء الطبيب مهرولاً ؛ فقد كان والداي شديدي الكرم معه حتى أنهما كانا يجران كل المرضي من عائلتنا أو من معارفنا جراً إلى عيادته ؛وفحصني بدقة ثم أعلن أنني أعاني من ( رهاب ليلة الامتحان ) وبحاجة إلى تناول عقار مهدئ والنوم لبضع ساعات بعدها سأكون بخير بإذن الله .. وبالفعل فقد تناولت حبتين مهدئتين وشربت كوباً من العصير ووضعت كتاب الفيزياء في أبعد مكان عن ناظري .. ثم أحتضنت وسادتي وغبت في نوم عميق .. واستيقظت في منتصف الليل بالضبط وقد نسيت تماماً أن عندي امتحان فيزياء في اليوم التالى !
استراحت والدتي لهدوئي المثير وأعدت لي عشاءً طيباً ومج نسكافيه يكفي لإصابة مصر كلها بالأرق .. تناولت العشاء ببطء واستمتاع وشربت النسكافيه متلذذاً وأنا مرتاح البال وأخر هدوء .. وبمجرد أن نهضت من مكاني حثتني والدتي على الذهاب لغرفتي للاستذكار ، فلم يتبقى على موعد الامتحان سوي ساعات محدودة .. ولكنني جلست أمام التليفزيون بهدوء وفتحته واخذ أشاهد الكرتون وكأنني طفل في الرابعة من عمري .. وعندما كررت أمي مناشدتها لي بمحاولة الاستذكار وجدت نفسي أقول لها كلاماً لم أعده من قبل ولم أتصور حتى أنني سأقوله في يوم ما :
" أمي أنا لن أذهب للامتحان .. لقد أخطأت بدخولي لهذا القسم .. إنه لا يناسبني .. سأستكمل دراستي في القسم الأدبي ! "
وبمجرد أن انتهيت من كلامي حتى قامت الدنيا ولم تقعد .. أثارت والدتي زوبعة هائلة في البيت وأخذت تلطم وتشد شعرها وصرخت منادية والدي وأخوتي ليشهدوا على خيبتي القوية وخيبة أملها في .. وجاء والدي فكررت له ما سبق أن قلته في هدوء .. كانت قد تلبسنني حالة من البرود الكامل و ( التناحة ) المتناهية بحيث أنني لم آبه لصراخ والدتي ولا كلام والدي الجاف وتهديداته لي بطردي من البيت ولا بسخرية أخوتي منى .. المهم أنني ظللت واقفاً في مكاني حتى أنتهي الموشح التي اشتركت في غناءه العائلة بأكملها ثم دخلت إلى غرفتي لأنعم بنوم هادئ لذيذ لم أنعم به في حياتي من قبل !
ثم ما الذي حدث بعد ذلك .. لم أكن هناك ولم أري أي شيء .. فقط أنا سأقص عليك ما رواه لي الآخرون الذين رأوني .. أو الذين ( شبه إليهم ) !
***********
في الساعة الثامنة والنصف من صباح اليوم التالى رأتني والدتي ؛ التي لم تحاول إيقاظي للذهاب إلى الامتحان كما أمرها أبي ؛ خارجاً من غرفتي بكامل ثيابي وقد حملت في يدي أدواتي التي أستخدمها في أداء الامتحان بالإضافة إلى كتب ومذكرات الفيزياء وقلت لها بابتسامة واثقة أنني ذاهب إلى الامتحان ولن أتأخر !
طبعاً خرت والدتي على الأرض شكراً لله الذي هداني على نفسي .. وهرعت إلى التليفون لتخبر والدي ؛ الذي كان في عمله ؛ بهذا الخبر السار وبالطبع فقد شاركها والدي سعادتها .. وقضت والدتي ساعات في انتظار عودتي .. وهناك في لجنة الامتحان في مدرسة ( أبوبكر الصديق الثانوية ) وفي التاسعة إلا الربع دخل طلاب المرحلة الثانية لأداء امتحان الفيزياء وكنت أولهم .. وفي التاسعة تماماً جاءت أوراق الأسئلة وكان الامتحان مدمراً .. أسئلة في منتهي منتهي الصعوبة و( الفذلكة ) والتحوير .. واندلع حريق في اللجنة وأخذ الطلاب يصيحون محتجين أما الفتيات فقد كفين أنفسهن مئونة الصراخ واللطم لأنهن أختصرن الموضوع .. وفضلن الإغماء مباشرة !
المهم أنه وسط المذبحة التي حدثت في لجان الفيزياء يومها ربما كان هناك طالب واحد هو الذي آثار رد فعله الدهشة والذهول وسط زملائه خاصة ممن كانوا معه في نفس الفصل .. وكان هذا الطالب الوحيد الذي أحتفظ بهدوئه هو أنا .. كما يفترض !
قيل لي أنني تسلمت ورقة الأسئلة ونظرت إليها باستهانة للحظة .. ثم فتحت ورقة الإجابة وأخذت يدي تتحرك بسرعة فائقة وكأنها ( مكوك ) مسجلة الإجابات ودون حتى أن أرجع إلى ورقة الأسئلة أو أنظر إليها مرة أخري !
ولم ألبث أن انتهيت من الإجابة قبل مرور أقل من ربع ساعة .. وبقيت في مكاني أنتظر مرور نصف الوقت ؛ وهي الفترة القانونية التي لا يُسمح لنا بالخروج قبلها ؛ بينما كان زملائي في اللجنة يحدجونني بالنظرات المذهولة !
وأخيراً مضي نصف الوقت فنهضت من مكاني وسلمت الورقة إلى المراقبين .. ثم غادرت اللجنة تشيعني رغبات زملائي المخلصة في أن تدهسني سيارة سائقها أعمي قبل أن أصل إلى بيتي !
وقبل أن تصل عقارب الساعة إلى الحادية عشرة كنت أطرق باب البيت في هدوء .. ففتحت لي أمي بوجه باسم مستبشر وسألتني بلهفة عما فعلته في الامتحان فأجبتها بهزة رأس وابتسامة رضا .. ثم دخلت إلى غرفتي وأغلقت الباب خلفي معطياً أمي انطباعا بأنني متعب وأريد الاستغراق في النوم !
***********
نهضت من نومي الثقيل في الساعة الثانية عشرة ظهراً فوجدت الستائر مغلقة والنور الساهر الصغير الذي أبقيه مضاءً أثناء نومي مطفأ فعرفت أنني قد حظيت بزيارة أخري من صديقي أثناء النوم .. كنت قد تذكرت فجأة موضوع الفيزياء وامتحان الفيزياء ومصيبة الفيزياء وشعرت بهول الكارثة التي وضعت نفسي فيها .. في هذه اللحظة كان هناك حفيف ثوب بجوار أذني فأدرت وجهي إلى الناحية الأخرى ؛ كما علمني ؛ وقلت دون أن أحاول إدارة وجهي أوالنظر إليه :
" ماذا .. هل هناك شيء هام ؟! "
فقال لي بصوته المماثل تماماً لصوتي :
" لا شيء .. فيما عدا أنك ذهبت صباح اليوم إلى اللجنة وأديت امتحان الفيزياء وأنتهيت منه قبل أي طالب آخر في مصر .. هذا ما تعرفه والدتك وما رآه الجميع ولا يوجد شيء آخر يقال .. فقط يوم الثلاثاء تذهب إلى امتحان الرياضيات بمفردك .. لا تتوقع مني أن أنقذك ثانية ! "
ثم شعرت بفمه يلامس جانب وجهي بحنان ويقبلني قبلة مليئة بالحب والصداقة ثم أردف :
" إلى اللقاء يا صديقي .. أعتمد على نفسك ! "
وفجأة تلاشي وجوده من الغرفة .. وعاد النور الساهر الصغير للاشتعال وفتحت الستائر من تلقاء نفسها .. ووجدت غرفتي تسبح في الضوء الباهر .. ضوء شمس الظهيرة !
وفي نفس هذه اللحظة دخلت والدتي إلى الغرفة .. متسائلة عما أيقظني قبل أن أقضي نصف ساعة نائماً !
ولكن فجأة صمتت والدتي .. اعتراها ذعر مفاجئ وشحب وجهها .. تراجعت إلى الخلف وكادت تسقط على وجهها .. دق قلبي وقد أدركت ما أخافها .. أدرت وجهي ببطء إلى اليسار فوجدت صديقي منحنياً ومستنداً على الفراش بجواري وهو يتطلع لوالدتي بثبات ودون حركة !
***********
دُهشت من هذا التصرف الغريب من جانب رفيقي !
تري ما الذي دعاه للظهور علناً أمام والدتي وهو الذي كان طوال فترة تعارفنا الطويلة يصر على الالتفاف بثوب الغموض والتخفي ويصر على عدم الظهور إلا في الحمام ؛ أو في غرفتي بعد ذلك ؛ وبشرط أن تكون الأنوار مطفأة والستائر مسدلة .. فإذا به يظهر في وضح النهار لوالدتي ؟!
المهم أنه أختفي بعد أن أفزع أمي وسبب لها حالة لا توصف من الرعب والذعر .. ولكن الخطير في الأمر أنه تكونت عند والدتي فكرة وعقيدة ثابتة أن هذا المخلوق عفريت أو قرين لي من الجن يلاحقني ولابد من طرده .. ولذلك فقد أفقت في صباح اليوم التالى ؛ وبعد ليلة مرهقة قضيتها في استذكار منهج الرياضيات العسير ؛ على رائحة بخور نفاذ تملأ البيت وتمتمات وهمهمات غريبة فوق رأسي يرددها صوت مشروخ كئيب .. فتحت عيني وحدقت جيداً حولي فوجدت الدخان كريه الرائحة يعبق الغرفة وهناك بالإضافة إلى ذلك رائحة كريهة أخري مختلطة برائحة البخور .. رفعت رأسي من فوق الوسادة لأجد أمامي أمي بوجه قلق ممتقع والى جوارها " نجاتي " أو من يطلقون عليه " الشيخ نجاتي " .. نصاب حينا المعروف والدجال الأشهر في المنطقة .. ولابد أن أمي تخلت عن كل أفكارها المتحضرة المتدينة وقررت اللجوء لهذا الإمعة ليخلصني بدجله ونصبه من الجن الذي يلاحقني .. والمقصود به طبعاً رفيقي العزيز !
ضحكت لسذاجة أمي التي أصابتها ( على كبر ) وصرخت في وجه هذا الشيء المقيت وقمت بطرده من غرفتي بينما كانت أمي تتوسل إلى أن أهدأ .. فالرجل لم يحضر إلا من أجل مساعدتي .. ولكنني لم أكن على استعداد لسماع أي كلمة بخصوص هذا الأمر ولم أسترح إلا بعد أن غادر النصاب بيتنا بالفعل !
فشلت أمي في الجولة الأولي في الحرب .. ولكنها لم تفكر أبداً في إلقاء سلاحها والاستسلام !
***********
أنهيت امتحاناتي في السادس من يوليو وجلست في بيتنا بانتظار النتيجة بقلب مطمئن وبال مستريح .. ولكن والدتي لم تكن تشاركني اطمئناني وراحة بالى ليس بسبب النتيجة ولكن بسبب ( العفريت ) الذي رأته في غرفتي .. وكانت والدتي تردد دائماً وهي تبسمل وتحوقل مئة مرة في نفس واحد :
" في عز النهار .. لابد أنه عفريت قوي .. جبار من جبابرة الجن ! "
وكنت أضحك لأقوال والدتي .. فهي لا تعرف رفيقي بطيبته ورقته بل وجبنه في أحيان كثيرة .. بل إنها لا تعرف أن صديقي يخاف من عفاريت الجن أكثر مما تخافهم هي !
المهم أنه وبعد أن انتهيت من أداء الامتحان وفي الجمعة التالية مباشرة قامت والدتي بتبخير البيت قطعة قطعة بكمية بخور هائلة ثم توجهت إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة ؛ وهي عادتها الأسبوعية ؛ ولكن ما لم يكن من عادة أمي الأسبوعية أن تعود من المسجد ظهر الجمعة مصطحبة معها شيخ المسجد الإمام " أحمد حسين يونس " !
تعجبت من ذلك الأمر واعتراني الخوف والقلق على مصير صديقي العزيز .. فالشيخ رجل دين حقيقي واسع الإطلاع مثقف وبارع الذكاء وليس مثل " نجاتي " الدعي النصاب الذي لا يعرف من آيات القرآن الكريم سوي سورتي الإخلاص والكوثر !
حكت أمي الحكاية على مسامع الشيخ بحضوري .. طبعاً كنت واثقاً إنها قصتها عليه خمسمائة مرة طوال الطريق ولكنها تتظاهر بالبراءة وأنها لم تفعل شيء من وراء ظهري .. المهم أن الشيخ سألني عما إذا كنت قد رأيت هذا المخلوق من قبل فأجبته بالنفي سريعاً .. ولكنه تفرس في وجهي لبرهة ثم لمعت عيناه بذكاء .. وأدركت أنه عرف أنني أكذب وخشيت أن يفضحني على مشهد من والدتي ولكنه ؛ وله جزيل الشكر ؛ لم يفعل .. بل أبتسم برقة وطلب من والدتي بأدب أن تحضر لنا شيء نشربه .. فهمت إنه أراد أن يصرف والدتي ليختلي بي كما أدركت كم هو ألمعي وشديد الذكاء وتيقنت أنه لا فائدة من الكذب عليه .. ولذلك فبمجرد أن صرنا بمفردنا حتى اندفعت أحكى له كل شيء بصراحة ودون أن أغفل أي تفاصيل !
***********
عادت أمي حاملة صينية عليها كوبين من العصير وماء وسرت إذ وجدتني أنا والشيخ منسجمين معاً في حوار هادئ .. ولم تشأ أن تقاطعنا فوضعت الصينية أمامنا ثم انصرفت فوراً .. كنت قد انتهيت من رواية القصة بكل حذافيرها وبمنتهي الأمانة على الشيخ " يونس " .. واستمع لي هو بإنتباه كامل ثم بمجرد أن جاءت أمي بالعصير والماء حتى تناول كوب الماء وجرع منه جرعة صغيرة .. ثم هم قائماً فأدركت أنه يغادر ودهشت لموقفه العجيب من قصتي .. وتعلقت بكم قفطانه في لهفة ولكنه أمسك يدي وربت عليها بحنان وقال لي جملة لن أنساها ما حييت :
" يا بني جميل أن تحظي برفيق مخلص حتى ولو كان من الجن ! ولكن لا تنسي أنك أنت وهو مختلفان ولا سبيل لتجاوز هذا الاختلاف مهما حاولتما .. فأحتفظ لنفسك بمسافة مأمونة بعيداً عنه ! "
وغادر الشيخ المنزل دون أن يضيف المزيد ودون أن يحاول توضيح قصده من هذا الكلام العجيب .. وجاءت والدتي مسرعة على صوت انغلاق باب الشقة متسائلة في دهشة عن سبب مغادرة الشيخ قبل أن يقوم بطرد ( العفريت ) .. أما أنا فلم أجبها بكلمة واحدة لأنني كنت غارقاً في العرق البارد ومحاولاً استحضار كل ذكائي وفطنتي لأتمكن من فهم كلام الإمام الغريب الذي لم يخطر لي على بال أن أسمعه من شخص مثله !
***********
ظهرت النتيجة وحصلت على مجموع يؤهلني لفتح باب كلية الهندسة بإصبعي الصغير .. وغمرت الفرحة والدتي وأبي وكل الأسرة وانهالت على الهدايا من أبواي ومن جدتي ومن أقاربي الأدنين .. وبمجرد أن استطعمت فرحة النجاح حتى بدأت مرحلة التنسيق ومكتب التنسيق وبلاوي التنسيق .. وطلبت منى أوراق وأوراق لم أسمع عنها منذ ولدت .. ولكن الفضل في وصولي لهدفي في الحقيقة يرجع كله لرفيقي العزيز الذي أنقذني في امتحان الفيزياء وهي المادة التي رفعت مجموعي إلى حدود المائة في المائة !
في شهر سبتمبر وصلتني بطاقة الترشيح لهندسة القاهرة فانطلقت زغاريد والدتي وعم البيت سرور جنوني !
ولكن في نفس هذه الليلة جاء رفيقي لزيارتي بينما كنت مستغرقاً في نوم عميق في غرفتي .. أحسست بشيء يتحرك عند قدمي في الفراش ففتحت عيني على الفور لأجده قابعاً عند قدمي متكوراً على نفسه ورأسه بين قدميه وهو يئن أنيناً غريباً !
ذعرت لرؤيته بهذا المنظر وانخلعت من فوق وسادتي وطوقته بذراعي وانا أتسائل عما دهاه ولكنه واصل أنينه الغريب لأكثر من نصف ساعة دون أن يرفع رأسه من بين قدميه .. وأخيراً رفع وجهه ى مواجهتي فأصابني الرعب .. كان وجهه مسوداً قاتماً وعينيه حمراوين مليئتين بدموع أكثر مما يغرق وجهه منها .. أخذته في حضني وبذلت جهدي لتهدئته .. ولم أتمكن من تهدئته إلا بعد أكثر من ساعة وحملته على الكلام بالقوة ولكن لم يزد ما عرفته منه على جملة واحدة تحمل خبراً صادماً لي ومدمراً له .. حبيبته الحسناء التي كان قد وعد بزواجها .. ماتت !
***********
مرت فترة وبدأ صديقي يهدأ وحاولت قدر استطاعتي أن أنسيه أحزانه وتقريباً لقد قضيت كل الأيام التي تبقت من الإجازة الصيفية ملازماً إياه في غرفتي ليل نهار حتى ظنت أمي أنني مريض !
المهم أنه في الثالث عشر من سبتمبر كان أول يوم لي في جامعة القاهرة .. وكلية الهندسة ؟!
الحلم الذي مات غيري على بابه ها أنا أصل إليه باجتهادي وبمساعدات رفيقي العزيز المخلص !
كان جدول المحاضرات موضوع في واجهة مبني الكلية من الخارج .. فنقلت جدول محاضرات السنة الأولي مبتهجاً ثم دخلت أول محاضرة جامعية في حياتي !
بالفعل مواد الهندسة هذه بشعة .. صعبة للغاية حتى أن الرياضيات والفيزياء التي كادت تقضي علينا في الثانوية العامة تبدو بجوارها مجرد مزحة صغيرة !
كدت أصعق في المحاضرة الأولى وأنا جالس أمام أستاذ مهيب ؛ يبدو كأنه ( لورد إنجليزي ) نسيته أمه في الأتوبيس السياحي ؛ لا أفهم كلمة من الرطانة التي يلقيها علينا وكأنه يلقفنا بالحجارة .. وكانت زميلتي الجالسة تغمغم بكلمات ساخطة دلتني على أنها هي أيضاً لا تكاد تفهم شيء مما يقوله ( البروفسور جيلديا ) هذا !
والحقيقة لقد كدت أيأس وأفكر في تحويل أوراقي إلى كلية الحاسبات والمعلومات لولا أنني اختلست نظرة صغيرة من زميلتي هذه .. وكانت هذه النظرة كافية لإثنائي عن قرار التحويل حتى لوضربوا كلية الهندسة بالقنابل النووية !
***********
كانت بارعة الجمال حسناء للغاية كأنها تركية من بقايا أسرة " محمد على " ولكنها كانت مصرية مائة في المائة .. بل ( تربية حواري ) إذا شئتم الحق فهي من أعماق الأحياء الشعبية التي تحتفظ ببقايا مصر الحقيقية .. تفطر فول بالزيت الحار ومعه ولابد فحل البصل المقدس .. وتتغدي باذنجان مقلي وسلطة وتتعشي جبنة وفول وتتناول ( الزفر ) في المناسبات السعيدة أو من بقايا الخروف الذي ذبحوه يوم خرجة جدتها !
ولكنها في كلية الهندسة وتدرس بإصرار أبيها الذي يقتطع من قوته ليعلمها هي وأخوتها .. الحقيقة أنني سقطت في غرامها من اللحظة الأولى وأحببت مواد الهندسة من أجلها .. وحرصت على ألا أفوت محاضرة لأنها هي بدورها لم تكن تفعل !
المهم أنه بعد أسبوع واحد كنت قد وقعت في غرام أهوج متسرع لم أقدر خطورته إلا بعدها بأشهر !
***********
رفيقي بدوره كان قد بدأ في التحسن وان كانت علامات الحزن العميق قد انتقلت من وجهه إلى عينيه اللتين لم تكونا تعرفان من قبل سوي السرور والطيبة والشقاوة والنزق وساعدته أنا بكل قواي على تجاوز هذه المرحلة .. حتى لقد كنت على استعداد أن أتخلى عن أي شيء في العالم مقابل عودته لطبيعته السابقة ..
وفي يوم أسود لن أنساه عرضت على صديقي أن يرافقني إلى الجامعة مساءً ليري هذه ( الجامعة ) التي يدرس فيها هؤلاء البشر على مدار أعوام طويلة ما يقدر هو على تعلمه في ثلاث دقائق لا أكثر !
كان لدي محاضرة في الثامنة مساءً يومئذ ووجدتها فرصة مناسبة ليري صديقي العزيز حبيبتي الجميلة التي أهيم بها حباً كما يعرف هو منذ البداية .. ووافق صديقي على اقتراحي على الفور بسعادة .. وليته يا ربي ما وافق !
دخلت من باب الجامعة وهو ورائي .. كان موجوداً في مكان ما في الفراغ الأسود المنتشر حولي وكنت أعرف ذلك وأشعر بوجوده وإن كنت عاجزاً عن رؤيته لأنه كان مختفياً عن الأنظار .. وبمجرد أن صرنا داخل الجامعة حتى أخذ يضحك ضحكاته الطلقة المرحة وهو يتساءل كيف نتكدس كلنا داخل هذا ( الجب الضيق ) .. أي الجامعة طبعاً !
لم أعلق على أسئلته لأنه يقارن عالمنا بعالمه .. وعندما اقتربت من باب الكلية وجدتها واقفة في انتظاري .. إنها هي الحبيبة الغالية .. طبعاً كانت تتظاهر بأنها تنتظر إحدى زميلاتها إلا إن تظاهرها لم يخل على وتأكدت أنها لم تكن تنتظر أحداً سواي !
اقتربت منها ببطء متصنعاً الانشغال بكتبي التي في يدي ، وهي بدورها كانت تتشاغل بالنظر في الاتجاه الآخر لكيلا أدرك أنها كانت تنتظر رؤيتي .. كنا نلعب معاً لعبة المراهقة العزيزة هذه عندما سمعت شهقة علية حارة صادرة من صديقي الملازم لي من الخلف .. كانت شهقة غريبة ملهوفة وكأنها شهقة ( غريق ) .. ألتفتت ورائي بدون وعي ؛ وقد اختفت الفتاة من أمامي فجأة ؛ وسألته بقلق :
" ماذا .. ماذا ؟! "
فأجابني بصوت ملئ باللهفة :
" إنها هي .. هي .. تشبهها تماماً ! "
لم أعرف ما يتحدث بالضبط فكررت سؤإلى له فأعاد إجابته مؤكداً لي بأنها هي نفسها .. أو تشبهها لحد مذهل !
لم أدرك قصده بالضبط وكدت أعاود سؤاله مرة ثالثة لأستوضح ما يعني .. ولكنني عندما بحثت عنه أدركت أنه لم يعد موجوداً حولي في أي مكان وظللت واقفاً مكاني بضعة دقائق أفكر في المكان الذي قد يكون قد أختفي فيه .. لحظتها أدركت أنه ولابد قد سبقني إلى قاعة المحاضرات !
دخلت إلى القاعة المزدحمة فوجدت المقعد الذي بجوارها خالياً ، لابد أنه قد حجزته خصيصاً من أجلى .. سررت لذلك وتناسيت تصرف صديقي الغريب وتظاهرت بالبحث عن مقعد فارغ بالقاعة قبل أن أهم بالجلوس بجوارها ، وعيناها تدعوني إلى ذلك بفارغ الصبر .. فقط عندما حاولت الجلوس على المقعد المجاور لها أدركت أن هناك من سبقني إلى الجلوس عليه .. وساعتها أدركت على الفور من هو !
نهضت كالملدوغ وقد أصابني الذعر .. ورأيت الفتاة ترفع حاجبيها في دهشة بالغة عندما حدث ذلك !
***********
في تلك الليلة جاءني على غرة وأنا مستلقي وسط ظلام الغرفة !
شعرت بي يقترب منى ويجلس على طرف الفراش عند قدمي .. ولكنني لم أنهض وتبادلنا الحديث وانا ما أزال مستلقياً في مكاني !
قال لي بصوته الذي عادت إليه رنة الفرح والشقاوة :
" هل رأيتها ؟! إنها فاتنة .. فاتنة .. والأكثر من ذلك أنها تشبه فتاتي تماماً .. لا بل إنها هي ! هل تعرف أن كل واحد من جنسكم له نظير أو قرين من جنسنا ؟! لابد أنها قرينة فتاتي .. أليس كذلك ؟! "
تركته يتحدث كيف شاء ثم أجبته بجملة واحدة :
" رأيتها يا صديقي .. بل رأيتها قبلك ! "
تجلى لي وسط الظلام لحظتها واقترب منى وطبع قبلة على خدي بطريقته القديمة وقال لي متوسلاً :
" أنت لا تحبها .. أليس كذلك ؟! إنه مجرد إعجاب طفولى .. مراهقة متأخرة قليلاً .. أما أنا فقد قضيت عمري كله أحبها .. أنت ستتركها لي أليس كذلك .. أليس كذلك يا صديقي ؟! "
شعرت بيد غليظة تكتم أنفاسي فوجدت نفسي عاجزاً عن النطق .. ولكنه لم يرحمني بل أخذ يردد كالمخبول :
" إن الله يحبني .. أعرف إن الله يحبني كثيراً .. لذلك فقد أعادها لي من رحم الموت ..أنتزعها من القبر وأعادها لي .. الآن يمكنني أن أخذها إلى أرضي ونتزوج هناك ونعيش حياتنا بسعادة .. هل تعلم إنه يمكننا الزواج من جنسكم .. وسيكون زواجاً سعيداً بلا شك .. نعم سيكون زواجنا سعيداً للغاية .. وستشهد بنفسك على ذلك ! "
أصابني الغم عندما نطق بهذه الكلمات وصعبت على نفسي جداً ولا أدرى لم .. وهكذا وجدت دموعي تسيل بغزارة دون إرادتي .. وجدت نفسي أبكى بكاءً طفولياً ووجدتني غير قادر على إيقاف ذلك !
***********
أخذ يتردد على كل يوم تقريباً ليحكي لي تفاصيل غرامه الجديد .. لم يكن يفعل ذلك لإذلإلى واغاظتي وكنت أعرف هذا وواثق منه .. ولكنني كنت وما زلت صديقه الوحيد في الكون .. فلمن يذهب ولمن يحكي إذا لم يكن لي أنا !
من ناحيتي حاولت نسيان الفتاة واجتهدت في الابتعاد عنها قدر أمكاني .. بل وانقطعت عن حضور المحاضرات في الكلية من أجل خاطرها .. وواظبت على التردد على زميل لي تعرفت عليه مؤخراً لأنقل منه المحاضرات وليساعدني في استذكارها .. وهكذا امتنعت عن رؤيتها لأكثر من أسبوعين .. ولا تدري مدي الغم الذي أصابني خلال تلك الفترة السوداء من حياتي ففترت شهيتي للطعام وأصبحت أعافه بشكل مثير للانتباه وفقدت مرحى وأختفت الضحكات نهائياً من فوق ثغري واصابني أرق غريب جعلني أقضي طوال الليل أستجدي النوم حتى بزوغ الفجر دون جدوى ثم يسلمني لنوم كئيب ثقيل كنوم الأموات كنت أستيقظ منه في العصر شاعراً بالبلادة والإكتئاب والملل من حياتي .. وبالرغم من انقطاعي التام عن الذهاب إلى الجامعة فإنها لم تنقطع عن السؤال عني يوماً واحداً .. كانت تتصل بي على هاتفي المحمول عدة مرات كل يوم ، فإذا امتنعت عن الرد عليها ؛ وهو ما كان ما يحدث دائماً ؛ كانت لا تتردد في الاتصال بي على تليفون البيت منتحلة شخصيات عديدة !
المهم أنني حاولت بكل طاقتي نسيان الفتاة وشطبها من حياتي من أجل إرضاء صديقي ورفيق عمري العزيز .. ولكنني بعد مرور ثلاثة أسابيع كنت قد وصلت لمرحلة السعار .. اشتقت إليها والى رؤية ملامحها وسماع صوتها حتى لم أعد قادراً على المقاومة .. سأذهب لرؤيتها مهما كان الثمن !
***********
ذهبت في صباح يوم أثنين رطب بهيج ودلفت إلى داخل الجامعة .. وكان أول ما وقع عليه بصري هناك هو فتاتي الحبيبة .. جالسة على سلم كلية الهندسة تتحدث في المحمول الخاص بها وتضحك بمرح!
ولا أستطيع أن أصف لك رد فعلها عندما رأتني أقترب من مجلسها على سلم الكلية .. أسرعت بإنهاء المكالمة وألقت التليفون في حقيبة يدها بسرعة ثم انتفضت واقفة وأخذت تبادلني النظر في شوق ولهفة .. وأعرف أنه لولا خجلها وأدبها لرمت بنفسها على واوسعتني تقبيلاً وتعلقت برقبتي !
المهم أنني وصلت عندها وسلمنا على بعضنا وتبادلنا حواراً ودياً مبتوراً ولكن النظرات الدافئة كانت أبلغ من أي كلام .. كنت حتى هذه اللحظات لا أفهم كيف يتمكن رفيقي من رؤيتها والتواصل معها .. ولكنني عرفت الآن وفهمت ما كان يجري في غيابي عنها بالضبط .. فبعد عدة دقائق من لقاءنا سألتني حبيبتي وعيناها تضحكان وتلمعان ببريق السعادة :
" هل أنت وسيط روحي أم أن لديك قوة روحية خفية ؟! "
فسألتها وقد بدأ الشك يساورني :
" لماذا تقولين ذلك ؟! "
فأجابت بنفس ضحكتها الصافية :
" لأنني أراك في أحلامي كل ليلة تقريباً .. كل ليلة أوي إلى فراشي وبمجرد أن أغمض عيني أجدك أمامي تتحدث معي كما نتحدث الآن ! ولكنك انقطعت عن الحضور إلى الجامعة منذ أسابيع .. لماذا ؟! "
وهنا أدركت أن رفيقي لا يُغلب وأنه مصر على الاستئثار بالفتاة .. ومصر على حرماني منها !
وعندما وصلت إلى هذا الحد من التفكير بدأ شعور غريب ، شعور دخيل يدب في عروقي ناحية رفيقي الذي لم أشعر نحوه أبداً إلا بالحب والصداقة والأخوة البالغة .. شعور بالغيرة والحقد والرغبة في الانتقام !
***********
جاءني يسعى هذه الليلة .. كان سعيداً منتشياً ويبدو كالطفل من فرط سعادته وفرحه .. جلس على طرف الفراش بجواري ثم أقترب منى وقبل خدي برفق ثم مسح على شعري بيده الناعمة اللطيفة وقال لي وهو يكاد يرقص فرحاً أنه عثر على حل يمكنه من الارتباط بالفتاة والزواج بها ولكنه مضطر من أجل تحقيق ذلك إلى التخلي عن طبيعته وانتحال شخصية آدمية .. وما أسهل ذلك عليه !
كنت راقداً مديراً وجهي عنه إلى الناحية الأخرى وهو يتكلم .. وبمجرد أن فرغ من كلامه قلت له دون أن أنظر ناحيته :
" ولماذا يجب أن تكون أنت الذي يتزوجها ؟! "
فصمت قليلاً ثم سأل بحذر :
" ماذا تقصد ؟! "
فقمت من رقدتي واستدرت لأواجهه وقلت له بشجاعة لم أعهدها في نفسي من قبل :
" أقصد أنني رأيتها قبلك وأحببتها قبلك .. وفي الأصل هي لي أنا وليست لك ! "
مرت نظرة غريبة في عينيه ثم أجابني بهدوء :
" إنها تحبني يا صديقي .. أنت لا تري كيف تستقبلني كل ليلة ! "
فاحتددت عليه وصرخت فيه :
" إنها تظنك أنا ! إنها تحبني أنا وتظن أنك أنا .. كما أنها تسعد بك لأنها تظن نفسها نائمة تحلم ! "
" دعها تظن كما تريد .. المهم أنني أري نظرات الحب في عينيها وانا أحادثها كل ليلة ! "
كدت أجن وانا أجيبه متحدياً :
" إنها لا تحبك .. إنها ليست من جنسك ولا من أرضك ولا تصلح لك يجب أن تفهم ذلك ! "
فأجابني متحدياً بدوره :
" يبدو أنك أجهل بنا مما ينبغي ! نحن قادرون على الزواج منكم والعيش معكم وفقاً لشروطكم دون مشاكل .. بل يمكننا الحصول على أطفال أصحاء ممتازين منكم .. بل ربما كان الأطفال الذين يأتون نتيجة زواج مشترك بيننا وبينكم أكثر تميزاً وتفوقاً من الخلص !
وأعدك أن أول طفل سنحصل عليه أنا وهي سيحمل أسمك وستكون أباه الروحي ! "
هنا وصل جنوني إلى نهايته فصحت في وجهه غير مبال بأن تسمعنا أمي الجالسة أمام بابي مباشرة :
" إنك لن تتزوجها ! يجب أن تفهم أنني لن أتركها لك ! "
لحظتها شعرت بألم حاد مفاجئ في جانب وجهي الأيسر وفي نفس اللحظة أختفي رفيقي تماماً ولكن ليس قبل أن يقول لي بنبرة قاسية غريبة لم أسمعها في صوته من قبل :
" حاول أن تمنعني إذن ! "
للحظة ظللت جالساً في موضعي غير قادر على التحرك أو النهوض .. وعندما نهضت أخيراً أضاءت النور وتطلعت لوجهي في المرأة فوجدت على خدي الأيسر علامة حمراء طويلة .. علامة ملتهبة .. وعرفت أنها ضربة قوية من سوط رفيقي الناري الذي يحمله كل بني جنسه !
لقد جلدني بسوطه الناري !
وأنا واقف أتطلع للأثر الذي تركه رفيق عمري على وجهي أحسست بحقد وغضب لم أعرفه في حياتي من قبل ..إنه لم يكتفي بحرماني من حبيبتي ومحاولة الاستئثار بها لنفسه بل لقد جرؤ أيضاً على ضربي وجلدي .. أيخوفني ؟! أيهددنني ؟! أيرعبني أبن " سموم " ؟!
لا والله .. فإذا كان هو ابن " سموم " فأنا أبن " آدم " .. لدينا مثل مصري يقول إن " أبن المرآة لا يغلبه إلا الموت " !
وقد أقسمت أن أغلبه ولو اقتضاني ذلك أن أقضي عليه نهائياً !
***********
في صباح اليوم التالى ارتديت ملابسي وتناولت إفطاري وغادرت المنزل في موعد المحاضرة الأولى .. كنت هادئاً واثقاً من نفسي ومصراً على موقفي .. لماذا أخاف وأتنحي عن طريقه وأتركها له سهلة مواتية لقمة سائغة ؟!
ألا سحقاً للجبن والخوف !
غادرت المنزل ووصلت إلى الجامعة في موعد المحاضرة بالضبط فدلفت بسرعة إلى قاعة المحاضرات قبل أن يصل الدكتور " أشرف كامل " الذي كان يمنع أي طالب من الدخول بعده .. كانت هناك كما تمنيت .. جالسة في مقعد بجوار الحائط الأيمن للقاعة .. وردة يانعة زاهية وجمالها كما هو لم يفقد ذرة من قوته ولكن في عينيها الجميلتين ارتسمت علامات حزن وكآبة صعقتني وشلت تفكيري ، فاتجهت نحوها مباشرة غير مبال بنظرات الزملاء الصريحة المنتقدة ؛ رغم أن القاعة كانت مليئة بالمقاعد الخالية خاصة في الركن الذي تجمع فيه الأولاد ؛ وجلست جوارها وانا أواجه كل من ينظر نحوي بنظرة جريئة ثابتة تقول له باستهانة وحزم : " خليك في حالك والنبي ! "
وبالفعل فقد تشاغل كل منهم في نفسه وتركوني أنعم بمجاورتها في هدوء ولكن الغريب أنها هي لم تشعر بوجودي وكأنها لا تراني !
ظلت منصرفة عنى لحظة ففقدت صبري وهمست منادياً إياها باسمها فنظرت إلى نظرة صغيرة خاوية .. ثم أقدمت على أغرب تصرف توقعته منها .. سحبت مقعدها مترين إلى الوراء ووضعته إلى جوار مجموعة من زميلاتها الفتيات وجلست دون أن تنظر إلى .. بل وظلت طوال وقت المحاضرة وهي تتجاهلني تجاهل تام وكأنها لا تعرفني أصلاً !
أصابني الجنون وكدت أفقد السيطرة على نفسي وانهض صارخاً في وجهها أمام كل الموجودين حولنا .. ولكنني تمالكت نفسي بالقوة وجلست على الجمر ثلاث ساعات حتى أنتهت المحاضرة أخيراً وغادر الدكتور " أشرف " القاعة ونهض الزملاء وأخذوا ينسلون من القاعة جماعات جماعات .. وكانت هي وسط مجموعة من الفتيات وتحاول الخروج برفقتهم عندما توجهت نحوها وسحبتها من ذراعها أمامهن ، فغضبت هي وهمت البنات بالاعتراض ولكنني قلت لهن في صفاقة :
" أرجوا أن تهتم كل منكن بشئونها .. إن هناك أمر مهم بيني وبين الآنسة يجب أن يسوى الآن ! "
وهكذا جذبتها رغماً عنها إلى أحد أركان كافتيريا الكلية وأجلستها أمامي وارغمتها على أن تخبرني بسبب الجفوة الغريبة التي استقبلتني بها اليوم .. وبعد خمس دقائق كنت قد عرفت كل شيء وأدركت أن صديقي ورفيق عمري العزيز لم يكن خصماً شريفاً تماماً كما تصورت .. وها هوذا قد بدأ أولى خطوات لعبته القذرة .. محاولة جعلها تكرهني أنا لتحبه هو !
وحينها قررت أن أخبرها بكل شيء وافضي إليها بسر عمري حتى وإن لم تصدقني أو اتهمتني بالجنون واللوثة
صحيح أنه نجح في أول فصول المسرحية السخيفة التي يؤديها بمفرده .. ولكنني أقسمت ألا أعطيه الفرصة لإنهائها !
***********
بعد خروجي من الكلية مباشرة توجهت نحو صديق قديم لي اسمه " طارق علاوي " صديق طيب من الصعيد وخبير في كل شئون الحياة تقريباً .. خاصة شئون الدجل والسحر وطرد الأرواح وكل هذا الهراء !
لم يكن هو يمارس الدجل والسحر بل كان يعرف كل أكبار السحرة والدجالين في مصر على امتدادها من الإسكندرية شمالاً وحتى بلاد النوبة جنوباً .. استقبلني بحفاوة رغم التباعد الذي دام سنينا بيننا ورحب بي ترحيباً حاراً في بيته المتواضع بالجمالية .. حكيت له حكايتي قاصاً منها عدة خطوط مهمة وفصلتها في النهاية على الحد الذي يفهمه أغلب المصريين البسطاء أمثاله .. وهكذا أقتنع صديقي القديم أن هناك جنى قرين لي يطاردني ويسبب لي المشكلات ويمنعني من الاستذكار ويكاد يتسبب في فشلي وضياع مستقبلي وتدمير حياتي !
وكما توقعت أبدي صديقي شهامة وجدعنة واستعداد تام لمعاونتي في التخلص من هذا القرين حتى ولو أضطره ذلك إلى الذهاب معي إلى آخر الدنيا .. وقبل أن أعود إلى بيتي كان قد أجري اتصالاته بمعارف مهمين ممن يفهمون في هذه الأمور واتفقوا جميعاً ورشحوا لنا شيخاً واصلاً ؛ قيل أنه الوحيد القادر على طرد القرين من الجن بنجاح ساحق ؛ أسمه الشيخ" مصطفي " .. المشكلة الوحيدة أنه يقيم في منطقة جبلية على مقربة من الأقصر !!
***********
جاء لي مرة أخري في ليلة الجمعة الأخيرة .. كان هادئاً خجلاً من نفسه وراغباً بشدة في مصالحتي والاعتذار عما بدر منه في لقاءنا الأخير .. أقترب منى وأنا راقد على فراشي متظاهراً بالنوم وقبل خدي برقته المعهودة التي كرهتها وهمس لي :
" ألم تشتق إلى ؟! لابد وانك كذلك لأنني اشتقت إليك كثيراً يا صديقي ! "
لم أجبه بكلمة فدار من حولي وجاء من الناحية الأخرى ليواجهني .. لم أكن أرغب في مواجهته ولا أعرف الآن ما إذا كنت غاضباً منه فقط لذلك كنت عازفاً عن مواجهته أم لأنني كنت أخشي أن يقرأ في عيني ما أنتويه له من غدر !
المهم أنني أدركت أنه لم يأتي إلى إلا لأنه يريد الحديث بشدة ولا يجد من يبادله الحديث سواي أنا .. فأنا صديقه الوحيد في الكون !
وعندما فكرت قليلاً وجدت أنه الأسلم والأحوط أن أتظاهر بمسامحته والصفح عنه ، وان أحادثه بشكل طبيعي يجعله يعتقد أنني قد تناسيت موضوع الفتاة التي أحبها .. كنت أريد ألا ينتبه لما أدبره له .. واجتهدت في مخادعته قدر ما أسعفتني فطنتي ..وأيضاً خستي ووضاعتي !
والنتيجة المهمة أنه أنصرف عنى وهو على ثقة من أن المياه قد عادت لمجاريها بيننا .. وان المحبة القديمة لم تمت بعد !
كل هذا كان يحدث في نفس اللحظة التي كان صديقي " طارق " يعد فيها العدة لسفرنا إلى الأقصر اليوم !
***********
وصلنا إلى الأقصر في منتصف الليل بالضبط .. ونزلنا المدينة الساحرة التي أضحت كأنها قطعة من أوربا .. بل قطعة من الجنة إذا شئت الدقة .. وطبعاً لم يكن من الممكن الذهاب إلى الجبل في مثل هذا الوقت فاخترنا أحد فنادق المدينة الكثيرة وبتنا فيه حتى مجيء الفجر .. كان صبري قد نفد ولم أعد أحتمل أكثر من ذلك .. لهذا فما إن سمعت آذان الفجر يرطب ندي الصباح حتى أيقظت " طارق " ؛ الذي كان يغط في النوم ويشخر كأنه ترولى مثقوب .. ولم أصبر حتى نتناول الإفطار فهرعنا إلى موقف السيارات لنأخذ عربة تقلنا إلى أقرب قرية للجبل وفي الطريق اشترينا بعض الفطائر والسندوتشات ألتهمها " طارق " كلها بمفرده لأنني لم أجد عندي أي قابلية لتناول الطعام .. ووصلنا إلى القرية الواقعة على مقربة من الجبل .. وغادرنا العربة وبدأنا نصعد الجبل الذي لم يكن في الحقيقة شاهق الارتفاع .. وصادفنا بضع أناس ذوي مظاهر غريبة كانوا يظهرون لنا على حين غرة و يبدون وكأن الجبل قد أنشق عنهم فجأة .. أصابني الخوف من مظهر الجبل القاتم المخيف .. بينما صديقي ؛ الخبير بن الخبير ؛ أخذ يبسمل ويحوقل ويستعيذ بالله من شر الشيطان ومن شر كهان الفراعنة الذين تسكن أرواحهم الجبل وتحرسه ..
ووصلنا في النهاية ؛ وبعد رحلة شاقة مرهقة ؛ إلى مقر المدعو " الشيخ مصطفي " .. وعلى عكس ما توقعنا فلم يكن مقر الشيخ الذائع الصيت أكثر من مجرد بيت وطئ مبني بالطوب الأخضر الذي شققته حرارة الشمس اللافحة وبضعة كسر من الأحجار متناثرة في حوائط البيت هنا وهناك وكان الباب مفتوحاً بلا أحد يرقبه .. وهكذا دخلنا دون أن نجد من يسألنا من نكون أو ماذا نريد ووجدنا أنفسنا في قاعة ريفية فقيرة مليئة بأكوام من الحطب المصفر الجاف وهناك وفوق كومة حطب صغيرة وجدنا امرأة عجوز منحنية وتبدو أنها كفيفة أيضاً .. كانت تمسك بيدها مسبحة كهرمان جميلة وتفر حباتها وهي تتمتم بالدعوات والتسابيح .. تقدم منها " طارق " وقال لها بلهجة صعيدية متقنة :
" السلام عليكم يا حاجة .. دلينا والنبي على الشيخ " مصطفي " مش هو موجود بردو ؟! "
أومأت السيدة برأسها المجلل بطرحة بيضاء نظيفة ثم أشارت برأسها ناحية قاعة داخلية في المنزل وعادت لفر المسبحة والتمتمة وكأن شيء لم يحدث ..
ودخلت القاعة خلف " طارق " وجلاً خائفاً وقد استولت على فجأة فكرة الرجعة .. وكدت أسحب " طارق " من ذراعه وأجبره على العودة ولكنه كان قد سحبني بالفعل وراءه إلى داخل القاعة .. وبالتمام أصبحنا أمام الشيخ مباشرة !
***********
عدنا إلى القاهرة في صباح اليوم التالى وكأننا كنا في نزهة صغيرة أو في جولة سياحية .. ولم يكن وفاضنا خاوياً بل كنا في الحقيقة ننوء بحمل ما طلبه الشيخ وما أمرنا به من غرائب الأمور والعجائب التي لم أعرف من قبل بوجودها في الكون .. والفضل في العثور على كل هذه الأشياء العجيبة إنما يرجع ل" طارق " وحده الذي لف متاجر الأقصر المختفية في الأزقة النائية وجنبات الجبل ليحضر طرائف المواد والأدوات التي لم أسمع عنها من قبل والتي من المستحيل أن تجدها لدي التجار أو العطارين المحترمين ..
وعدت إلى البيت وبدأت في تنفيذ كل أوامر الشيخ بالحرف مصراً على عدم ارتكاب أي هفوة قد تتسبب في إطالة المدة التي حددها للقضاء على العفريت الذي يلازمني وهي أسبوع واحد لا غير !
وهكذا ؛ وتنفيذاً لتعليماته ؛ بدأت بمرآتي غرفة نومي والحمام فحطمتهما تحطيماً كاملاً شاملاً وحملت كسرهما وأشعلت فيها النار في الشارع أمام منزلنا .. وعندما تعجبت والدتي من تصرفي هذا سألتني بقلق عن السر في ذلك قلت لها في ثقة :
" ألم تكوني تريدين تخليصي من شر هذا الجني القرين الذي يلازمني ؟! حسناً أنا أتخلص منه الآن ! "
وكان هذا الكلام كفيلاً بإسكات والدتي تماماً وضماناً لعدم تدخلها أو استنكارها لأي عمل جنوني أقدم عليه بعد ذلك !
ولما فرغت من مسألة المرايا بدأت في الخطوة الثانية وهي رش الخليط السحري في جميع منافذ وفتحات البيت .. وكان هذا الخليط ؛ كما قال لي الشيخ " مصطفي " ؛ عبارة عن ماء من بئر فرعوني قديم في الجبل كان الكهنة يستخدمونه لأغراض طقسية سحرية وزيت يسمي ( زيت الكاهن ) وزيت آخر أسمه ( زيت العريف ) وقليل من دمائي التي طلبها مني الشيخ وأعطيته منها بعد أن قمت بجرح إبهامي بموس حاد .. وقمت برش هذا الخليط حول النوافذ وأبواب الحجرات والمطبخ والحمام وحول باب المنزل الخارجي .. كل المنافذ .. كل المنافذ والفتحات في البيت ومن الداخل والخارج أيضاً .. ولا أخفي عليك أنني كنت أقوم بكل هذا وأنا أشعر بالسخرية من نفسي وأحس إحساساً أكيداً أنها لن تجدي وانها مجرد دجل ونصب .. ولكن ما رأيك إذا كانت هذه الأشياء التي قد تثير سخريتك مني قد أتت بنتيجة بالفعل .. ونتيجة سريعة لمستها بنفسي بعد بضع ساعات !
وأصل الحكاية أنني ؛ وقبل أن أعود إلى القاهرة ؛ أو بالتحديد ونحن ؛ أنا و " طارق علاوي " في القطار وفي منتصف المسافة بين الأقصر والقاهرة ؛ انتابني خوف غامض وشك رهيب .. فماذا لو أحس رفيقي بأنني أخطط للتخلص منه واضعافه وربما قتله كذلك ؟!
أعرف الإجابة على ذلك .. فما زال أثر سوطه الناري ؛ الذي ضربني به ضربة أشبه بالمزاح ؛ ماثلاً على خدي الأيسر .. وفشلت كل المراهم والكريمات في إزالته أو حتى في تخفيفه !
ذعرت لهذا الخاطر المرعب الرهيب وافضيت به بالفعل لطارق الذي قال لي باستهانة ولكن بثقة كاملة أعادت لي الطمأنينة والإصرار :
" هل تعتقد أن الشيخ " مصطفي " يلعب ؟! أول شيء في التخلص من القرين ألا يدرك أنك تتخلص منه إلا عندما يبدأ يضعف ويفقد معظم قوته وعندئذ لن يضرك علمه بتدبيرك في شيء .. لأنه أصلاً سيكون قد فقد القدرة على إيذائك ! "
وفي نفس تلك الليلة التي بدأت فيها تنفيذ تعليمات الشيخ الكثيرة المعقدة بدأت قصتي مع رفيقي تنتهي .. والى الأبد !
فليلة بعد ليلة كان يأتي إلى بجسد ضعيف خائر وبصوت لا يقدر على إسماعه ويشكو لي من متاعب غريبة بدأ يعاني منها ولا يعرف ما هو سببها .. ولا حتى أهله من عتاة الجن يعرفون ولم ينجحوا في علاجه .. ولا حتى في معرفة ما دهاه !
أمسرور أنا بهذا ؟! ..
لا والله فأنا لم أعرف السرور منذ اليوم الذي غاب فيه عني وأنقطع عن زيارتي نحو شهرين كاملين .. ولكنه جاء الليلة مرة أخري .. جاء على حين غرة !
كنت جالساً إلى فراشي ألعب بقدمي وأحدث حبيبتي وأنا نائم على بطني كالأطفال أو كأبطال الأفلام الرومانسية الشهيرة .. كنت في قمة سعادتي هذه الأيام واتمتع بلذة الحب صافية كاملة عذبة مقطرة .. فقد أختفي رفيقي من حياتي وحياة الفتاة أيضاً وأضحت لي .. لي وحدي !
وبينما أنا على هذه الحال فوجئت بالنور في الحجرة يتراقص ويذهب ويجيء مرات ومرات .. ثم أنقطع تماماً لمدة نصف دقيقة أصبحت خلالها الغرفة تسبح في الظلام الدامس .. ثم عاد النور فجأة ولكنه كان ضعيفاً خافتاً وأخذ يتقطع بشكل غريب .. لم يخامرني الشك للحظة في أن تكون اللمبة قد أصابها عطب ما .. بل كنت واثقاً أن هناك شيء غريب يحدث !
وبالفعل فلم تكد السماعة تسقط من يدي حتى فوجئت برفيقي يتجسد في الغرفة .. ولكنه ليس ككل تجسد .. فقد ظهر في البداية على شكل كرة ملتهبة تصدر أضواء حمراء خاطفة تصاحبها أنات مرتفعة .. أنات ألم تشبه أنات وصرخات المحترقين .. فهل رفيقي يحترق !؟ هل يحترق الجن أصلاً ؟!
هببت من مكاني وقد أصابني ذعر لم أعرفه في حياتي من قبل .. كدت أهم بالصراخ والاستنجاد بمن في البيت .. ولكن علام أورطهم في موقف أكبر منهم وأعرضهم لخطر لا أدرك حدوده بعد ؟!
وأظلمت الغرفة ثانية .. ثم عاد الضوء الضعيف الخافت ثانية .. وفي هذه المرة كانت الكتلة الحمراء الملتهبة قد تجلت ملامحها وأخذت شكلاً محدداً واضحاً .. شكل رفيقي العزيز !
رأيته راقداً عند قدمي بوجه شاحب وعينان تبخرت منهما الحياة وجسد سليب الحيوية .. رأيته راقداً بلا حول ولا قوة يتنفس أنفاس الموت .. رأيته وكان بإمكاني ؛ بل فكرت فعلاً ؛ في أن أقدم على ما أمرني به الشيخ وما كرره لي مراراً :
" عندما تراه ضعيفاً خائراً فأمسك بجفن عينه اليسري وأغرز دبوساً رفيعاً في رأسه ليقتله ! "
رأيت كل هذا وفكرت في كل هذا ولكنني لم أقدم على شيء من ذلك .. لماذا ؟!
لأنني أنا ؛ أنا الذي خططت ودبرت ونفذت بدم بارد وقلب ميت ؛ أرتجف قلبي لوعة وطفرت الدموع من عيني حينما أدركت أن رفيقي العزيز .. رفيق عمري وصباي وشبابي وحبيبي الوحيد حقيقة .. حقيقة يحتضر !
هرعت إليه وحملت رأسه ووضعتها على حجري . فتح عينيه وابتسم لي .. ثم قال لي بصوت لا أكاد أسمعه :
" إنه أنت إذن ! يمكنك الآن أن تشد جفن عيني اليسري وتغرس دبوساً في رأسي .. لا تخف فلن أؤذيك حتى لو كنت قادراً على ذلك .. يعز على أن أفارقك ولكن يسعدني أنني لن أمت إلا على يديك أنت ! "
قال هذا فقط .. فقط ثم تركني وحيداً في الأرض ورأسه مسجاة في حجري !
***********
أعذرني يا بني إذا كنت قد أطلت عليك في حكايتي .. ولكنني أحكي لك ما دفعني إلى أن أترك بلدي وأجوب العالم كله شرقاً وغرباً لأبحث عن السلوى والنسيان .. أربعين سنة دون أن أحظي بالراحة أو تغمرني نعمة النسيان بفضلها !
تبحث عن أثر سوطه الناري على خدي الأيسر ؟!
لا .. لن تجده .. فآخر شيء فعله حبيبي قبل أن يسلم الروح هو أن طلب مني أن أدني وجهي من شفتيه وطبع على خدي الأيسر قبلة محت تماماً أثر سوطه الناري .. إنني أحس بليونتها رغم مرور كل تلك السنيين وكأنه قبلني الساعة فقط .. ولكن للأسف فليس للقبلات أثر !!
kassasmanal.blogspot.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.