«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصعد
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 07 - 2010

كان قد مرّ علي انتقالي للعمارة الجديدة ثلاثة أسابيع حين اكتشفت أنني، لسبب ما، لم أكن قد رأيت أحدا من سكان العمارة، لا أثناء الدخول إليها ولا الخروج منها. كانت عمارتي الجديدة التابعة لجامعة كولومبيا تقع في شارع 115، بين افينيو برودواي العملاق وافينيو ريفر سايد، وقد أسعدني الحظ حين تمكنت من الحصول علي استديو خاص بي في الطابق الثاني عشر، بجوار ثلاث شقق أخري احتجت أسابيع لألاحظ، عبر حاسة السمع فقط، أن بعض ساكنيها كنّ بنات. حين تقدمت بطلب للسكن ألححت علي أن يكون سكني لشخص واحد، إذ إنني كنت في حاجة ماسة للوحدة قليلا حتي أنجز بعض أعمالي، الجامعية منها والإبداعية. جاءتني الموافقة في صيف 2009، وتم الانتقال في شهر آب من السنة ذاتها، وأنا مليء بإحساس الأمان السكني الذي حرمت منه في السنوات الماضية. وأجمل ما في سكن جامعة كولومبيا لطلاب الدكتوراه هو أنه مضمون حتي التخرج، مما يعني أنني سأنسي، لوقت طويل، قلق البحث عن شقة وعذاب الانتقال من هنا إلي هناك، كما كان يحدث من قبل.
كانت العمارة مجاورة لمركز اسمه "كرافت"، مخصص للطلاب اليهود، الأمريكيين منهم والإسرائيليين، مزروع علي مدخله علما كلا البلدين، كعلامة علي صداقة حميمة تجمعهما. حين سألني بعض الأصدقاء عن موقع سكني الجديد، أخبرتهم أنني مجاور لأبناء العم، وقد أصبح هذا الجواب لقبا لسكني. والغريب أنني بينما كنت دائما أري الطلاب في مركز كرافت كلما مررت به، فإن الطلاب الساكنين في عمارتي كانوا محتجبين إلي أجل غير معلوم. لكن الحقيقة أن ذلك، علي أية حال، لم يسبب في البداية إزعاجا لي لعدة أسباب_سأذكرها جميعها لاحقا (إن تذكّرت)_منها أن الفتيات في مركز كرافت كنّ، غالبا، جميلات جدا، بالإضافة إلي أنهن كنّ، لأسباب مازلت أجهلها، في غاية السعادة، وهو أمر قد يثير الاستغراب، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الإسرائيليات منهن قد أتين من منطقة يكثر فيها، لعوامل تحتاج إلي تفصيل ليس هذا مكانه، القتل والدمار.
وإذا كان أغلب سكان مركز كرافت من طلاب البكالوريوس، فإن سكان عمارتي هم من طلاب الدراسات العليا ومابعد الدكتوراه، وهو ما قد يعطي سببا آخر للصمت الذي كان يغلّف المكان. ففي حين تفصل بين الحفلة والحفلة في مركز كرافت حفلة أخري، فإن عمارتي كانت كقبر لا يمتلئ.
لكن هذه المشاعر لم تسيطر عليّ بداية، بل إنني لم أكن قد أدركتها بعد، فانشغالي الشديد في الأسابيع الأولي بين الدراسة وتأثيث الاستديو، والفرحة الكبيرة بامتلاك مكان خاص بي في مانهاتن كانت قد أخّرت، إلي حدّ كبير، لحظة اكتشاف ذلك الصمت.
كنت موزّعا بين قاعات الدراسة ومحلات المواد المنزلية لشراء أثاث لشقتي، وكانت الأسابيع الأولي مليئة بحفلات التعارف والاستقبال، إلي درجة أنني كنت أخرج من البيت صباحا وأعود إليه ليلا في بعض الأيام. يضاف إلي ذلك أن غرفتي كانت جميلة ومريحة إلي الحدّ الذي يمنعك، حين تكون داخلها، من أن تفكّر في أيّ شيء خارجها. وضعت سريرا جميلا في طرف الغرفة، يليق بسعاد حسني ذاتها أن تنام عليه، واشتريت تلفازا ضخما، ووضعته في مواجهة السّرير حتي أجبر نفسي علي مشاهدته قبل النوم، إذ إن أول سنواتي في أمريكا شهدت السابقة الأولي في حياتي التي أكون فيها في بيت بلا تلفاز. أذكر مرة أنّ أحد أصدقائي في الأردن أرسل لي رسالة علي الخلويّ يطلب منّي فيها أن أفتح علي قناة المستقبل لأشاهد مقابلة مع مارسيل خليفة. ضحكت كثيرا، وأخبرته أنه ليس هناك لا جزيرة ولا مستقبل في نيويورك، وأن الكل هنا يعيش الحاضر، الآن، الذي يسرق منهم لحظات الخوف علي مايأتي.
وحتي أؤنس وحدتي قليلا، فقد علقت مجموعة من الصور علي الحائط، ورتبتها بطريقة تجعلها جميعها تنظر إليّ في نفس الوقت. ولأنني مفتون بالشعر والقصة والموسيقي والسينما والنساء، فقد حرصت، تحرّيا للعدالة، أن أختار صورة تكون مثالا علي كل واحدة من هذه المجالات. هكذا، صرت أصحو لأصبّح علي درويش وماركيز، وأمسيّ علي عبد الحليم وبينيلوب كروز التي كانت صورتها، وهي تلبس قميصها الأبيض من فيلم (ايليجي)، تجمع بين قسمي السينما والنساء.
كانت ثلاثة أسابيع إذن تفصل بين أول أيام دخولي العمارة وبين تلك اللحظة التي كنت جالسا فيها في غرفتي أشاهد التّلفاز. كنت أشاهد حفلا موسيقيا لفرقة راديو هيد، وأتذكّر أنني، فجأة، بدأت أخفض صوت التلفاز قليلا، شيئا فشيئا، إلي أن تلاشي تماما، حين أخذ صوت أنثوي يتسلل خفية من تحت باب شقتي. لم أكن قادرا علي معرفة ما إذا كان الصوت جميلا أم لا_مع أن كونه أنثويا يحتّم بالضرورة أن يكون الجمال قد عرف طريقه إليه_ولم أستطع أيضا أن أفهم شيئا منه. كل ما أدركته، في تلك اللحظة، أن هذا الصّوت قد قطع صمت العمارة الذي أحاط بي منذ دخولها، أو، حتي أكون أكثر دقة، قد ذكّرني بوجود ذلك الصّمت الذي كان إدراكه غائبا عنّي. أطفأت التلفاز، وبدأت أفكّر في غرابة وضعي، ليس فقط لأنني لم أر أحدا من السكّان طول هذه المدّة، بل أيضا لأن هذا الوضع لم يثر، حتي ذلك الصوت، استنكاري. النتيجة المهمة الأخري التي خرجت بها، وهي قد تكون أكثر خطورة، أنني أسكن بجوار أنثي، وهو ما جعلني أعيد النظر في أنني أملك حاسّة خاصّة تكتشف المكان الأنثوي حتي لو كان محتجبا وراء سحب من الخوف.
حين صحوت من النوم كان موقف الأمس مسيطرا علي تفكيري. للصّدق أقول، مع أنني نادرا ما أقول الصدق، إنني لم أكن مشغولا بالتفكير بالفتاة بقدر انشغالي بالسبب الذي جعلني لا أري أحدا أبدا في العمارة طوال هذه المدّة. تخيلت أن هذا ليس ممكنا إطلاقا، في عمارة فيها خمسة عشر طابقا وحوالي مائة شقة واستديو. كنت أفتح باب العمارة وحدي، وأدخل وحدي، وأضغط علي زرّ المصعد وحدي، وأدخله وحدي، وأخرج منه وحدي، ثم أدخل باب شقتي وحدي_وهي الوِحدة الوحيدة التي كانت منطقية إلي حدّ ما. لو حدث ذلك مرة، مرتين، أسبوعا، أسبوعين، لكن أن يتواصل إلي الأسبوع الرابع علي التوالي، فهو ما يعني أن ثمة شيئا ما يحدث.
بدأت أظن أنني قد أكون الساكن الوحيد الذي يأخذ المصعد، وأن ما منعني من رؤية الآخرين هو أنهم يصعدون أو ينزلون الدرج، إلي حدّ أنني أصبحت أمضي وقتا طويلا قبل خروجي من الشقة، واضعا أذنيّ علي الباب، منتظرا سماع صوت أحد النازلين أو الصاعدين، بلا فائدة. حتي بوّاب عمارتنا، الذي من المفروض أن تراه في اليوم أكثر من مائة مرّة، كان يسكن في العمارة المقابلة لعمارتي، وحين ذهبت مرّة لطلب شيء ما منه، لاحظت أن عددا كبيرا من السكان في تلك العمارة ينزلون ويصعدون في كل دقيقة، مما زاد من شعوري أن مؤامرة من نوع غريب تحدث في عمارتنا. فكرت لحظة أن أسأل أحد سكّان عمارتي إن كان لاحظ ما لاحظته، ثم، بعد لحظات، صفعت نفسي لغبائي، إذ كيف سأسأل أحدا من السكّان إذا كنت ما رأيتهم بعد؟
في الأيام التالية قرّرت اتّخاذ إجراءات أكثر جدّية. كان واضحا تماما أن الموضوع بدأ يشغلني حدّ الخوف، وأن رؤية إنسان ما في هذه العمارة الغريبة أو حتي سماع صوت كان أكثر أهمية عندي من التركيز في دروسي أو حتي التفكير في جارتي التي كنت قد نسيتها. وكان وجودي بجوار مركز كرافت الصاخب يزيد من تذكيري بصمت عمارتي. عليّ أن أعترف هنا أن شيئا ما كان قد حجب عني التفكير في الصعود أو النزول من شقتي بدون استخدام المصعد، إذ ربما كان ذلك الوسيلة الأكثر نجاحا لرؤية السكان. ربما يكون ما أبعدني عن التفكير بذلك الخيار أن شقتي، كما سبق وقلت، في الطابق الثاني عشر، في عمارة درجها ضخم وطويل، مما يعني أن الصعود والنزول مشيا سيكون نوعا من الرياضة لم أكن راغبا بعد في ممارسته.
الاحتمالات الوحيدة الباقية هي أن أزيد من تمهّلي لحظة دخولي وخروجي، وأنظر حولي، وأتشمم، وأتنصّت، علّ رأسا، أو قدما، أو، إن كنت أكثر حظا، فخذا تستره شهوة للعناق، يطلّ من هنا أو هناك. مرّة نزلت إلي بهو العمارة، وتفحصت البريد، ثمّ قرّرت الانتظار عشر دقائق لعلّ شيئا يحدث، حين كانت السّاعة تشير إلي الواحدة ظهرا، وهو وقت يفترض أن يكون مزدحما في نيويورك، إلا في عمارتي، التي يبدو أنها كانت قادرة علي قلب عادات الاشياء. بعد عشر دقائق خرجت، لاعنا كلّ شيء في سرّي. بدأت أظن أنني، والفتاة التي بجواري، قد نكون السّاكنين الوحيدين هنا، وهو شعور، مع ما قد يبعثه لأول وهلة من سعادة ظاهرية، يحمل في داخله قلقا من لعنة ما تحيط بالمكان.
حين أخذت بالابتعاد قليلا عن باب العمارة، فوجئت بصوت تاكسي يقف ويخرج منه شخص متوجها نحو العمارة. بدأت أقفز فرحا، ورجعت سريعا، وأنا أتخيل كيف سيكون اللقاء الأول مع جيراني. لكنني رأيت رجلا كبيرا في السنّ يضغط علي جرس إحدي الشقق ويقف منتظرا. عرفت أنه ليس من السّكان، لكن وجوده أكّد لي علي الأقلّ أنني لست وحيدا في العمارة، إذ إنه قد جاء لرؤية أحد أصدقائه القدامي كما قال. سألته إن كان بإمكاني مشاركته في الانتظار، شارحا أنني أحمل شغفا كبيرا بمشاهدة الأصدقاء وهم يلتقون بعد انقطاع. ثم صمتّ للحظة، خوفا من أن تطول خطبتي عن الصّداقة ويظنني الرجل مجنونا، لكنه ابتسم ابتسامة غامضة وقال لي بالإسبانية (بور سوبويستو) أي طبعا. بعد دقيقتين اكتشفت أن الصديق القديم ذاك ليس في شقته، لكن الزائر الغريب
أوصاني، قبل أن يغادر، أن أحمل سلامي لصديقه حين أراه. ابتسمت، وقلت (بور سوبيستو. حين أراه).
لست وحيدا إذن، والفتاة جارتي ليست حالة استثنائية، لكن الغياب المستمر للسكّان أزعجني. في اليوم التالي اتصلت بأحد أصدقائي الفلسطينيين، ودعوته لشرب فنجان قهوة عندي. كنت أريد فقط أن أشعر، وأنا في غرفتي، أن ثمة من يستخدم المصعد ويدخل العمارة ويفتح الأبواب غيري. فكرت أن أعمل حفلة وأدعو إليها حتي طلاب مركز كرافت، لكنني طردت الفكرة سريعا، لأسباب يتعلق بعضها بالسياسة، وبعضها الآخر بضيق المكان. وصل صديقي بعد نصف ساعة، وحين كنت أصبّ له فنجان قهوة فاجأني قائلا:
-هذه عمارة مليئة بالفتيات الجميلات.
اهتزت يدي وأنا أصبّ القهوة ونظرت إليه.
-مليئة بماذا؟
- بالفتيات. وأنا أنتظر المصعد شاهدت ثلاث فتيات ينزلن من الطّابق الأول، ثم دخلت المصعد لأجد فتاتين تحملان غسيلا. يبدو أنهما كانتا في غرفة الغسيل. أنت محظوظ يا ...
كنت كمن يستمع لمسرحية. سألته إن كان متأكّدا، لكن شدّة إعجابه بما رآه منعته حتي من ملاحظة مدي صدمتي، لا بل إنه بدأ يلومني علي أنني لم أخبره عنهم من قبل. قرّرت ألا أشرح له وضعي، لكنني أصبحت مقتنعا تماما بحتمية وجود مؤامرة ضدّي.
صرت أقضي في العمارة وقتا أكثر من الجامعة، وصار نزولي من الغرفة يأخذ مني نصف ساعة أو أكثر، حتي أنني أخيرا بدأت أنزل علي الدرج بدل المصعد، متوقفا في كل طابق لدقائق، منتظرا خروج أحد ما. ولشدّة ضجري وانزعاجي قرّرت مرّة أن أدرس في بهو العمارة. أعني، نعم، في بهو العمارة. حملت كرسيا وكتابا، ونزلت إلي البهو، وبدأت أقرأ، مقسما ألا أعود إلي غرفتي حتي أري واحدا من هؤلاء "ال.." جيراني، كما سميتهم لنفسي. كان تصميما بمثابة حياة أو موت. قرأت، وقرأت، وبعد 45 دقيقة احتجت الحمام. فكّرت في أن أبول مكاني، لكنني خشيت فضيحة كبيرة، لذا صعدت غرفتي بسرعة، مستخدما المصعد، ثم نزلت عبر الدّرج، وحين وصلت الطابق السابع سمعت صوتا. أقسم. سمعت صوتا خمّنت أنه في الطابق الخامس. لم يكن صوتا أنثويا هذه المرة، بل كان أشبه بصوت مطحنة أو جاروشة، لكن هذا لم يعنني. "حتي لو كان صوت حمار ينهق لحظة المضاجعة" قلت لنفسي. صرخت بالانجليزية "انتظر" لكنني سمعت فتح الباب وإغلاقه. وصلت الطابق الخامس الذي يحوي ست شقق، راغبا في تحطيم جميع الأبواب، لكنني تراجعت. لم أكن متأكدا أن الصوت كان هنا، ثم ماذا سيظن بي هؤلاء المجانين؟ رجعت إلي البهو الذي كان فارغا كمدينة جرفها السّيل، وجلست علي الكرسي. كنت مخنوقا، وأظن أن دمعة ما سالت علي خدّي. بعد حوالي ساعتين، انتبهت إلي أنني نمت في مكاني بلا وعي، وكان الظلام مطبقا في الخارج. عندها تيقنت من فشل مشروعي، ورجعت إلي غرفتي.
كنت قبل انتقالي إلي هنا أمنّي النفس بمجاورة عرب لأكسر من حدة الغربة قليلا، أما الآن فوضعي النفسيّ كان يتقبل مجاورة الشيطان ذاته. شعرت أنه لم يبق أمامي، قبل اللجوء لوسائل غير عقلانية لمقابلة ساكني العمارة، إلا أن أستخدم غرفة الغسيل في طابق التسوية، والتي لم يكن الوصول إليها ممكنا إلا عبر المصعد. بدل أن أضع الغسيل وأصعد إلي غرفتي، أصبحت أجلس علي أحد الكراسي في غرفة الغسيل ومعي كتاب أقرأه، منتظرا أن يأتي أحد يشاركني، بلا جدوي. كنت في اللحظة التي أضع فيها قدمي في غرفة الغسيل أري جميع الغسالات والنشافات فارغة تماما، كأن أحدا لم يفكر في غسل قاذوراته منذ أمد بعيد. لا رائحة لبشر ولا لباس ولا حتي خراء. أضعت الكثير من الوقت في الغرفة بداية، ثم فكرت في خطة أخري. طبعت إعلانا كتبت عليه أنني أدعو من يرغب من السكان إلي ممارسة الغسيل كعمل جماعي، نتكلم أثناءه ونتعرف علي بعضنا، ونطرح فيه المشاكل التي تواجه عمارتنا الحبيبة، بغية الارتقاء بمستوي حياتنا فيها. شعرت للحظة أن طريقة الإعلان كانت أقرب إلي الدعايات الحزبية الرخيصة، لكنني صممت علي استخدامه.
وضعت حوالي ثلاثين إعلانا في جميع طوابق العمارة، إضافة إلي ثلاثة إعلانات في المصعد، واثنين علي باب شقة جارتي بالتحديد، وكتبت عليها جميعها اسمي ورقم شقتي. في اليوم التالي، تجولت في الطوابق لأري أن جميع الإعلانات قد تمّ نزعها، وكذلك تلك التي علي باب جارتي، أما التي في المصعد فقد وضعت إشارة _ كبيرة علي أحدها، ووجه ضاحك علي الثاني، أما الثالث فقد احتجت لثوان لأتحمل فكرة ما كان قد كتب عليه. بخط أسود عريض كتب أحدهم بالعربية_أكرر، بالعربية_(تلحس .. علي هيك اقتراح). كانت مفاجأة مذهلة، أنستني للحظات إدراك أنني كنت قد شتمت فعلا. كان واضحا أن العامية المكتوبة هنا شرق أوسطية_فلسطينية أو أردنية في الأغلب. ثمة عرب هنا إذن. عرب صامتون، بلا صوت، عرب يختبئون علي غير العادة، عرب ميتين. العربي الذي كتبها لم يعرف طبعا أنني أتكلم لغته، وهو ما جعل الموضوع ساخرا إلي حد كبير.
في مساء اليوم التالي كنت في غرفتي أطبخ ملوخية. كان من عادتي حين أطبخ أن أضع موسيقي من جهاز الآي بود. بدأت بقطع الثوم حين سمعت فجأة باب الشقة المجاورة لي يفتح. رميت كل شيء بيدي، وهرعت إلي الباب وفتحته لأجد أن جارتي قد أخذت المصعد. نظرت إلي إشارة المصعد النازل لأري أنه قد توقف في غرفة الغسيل. سعدت كثيرا. معركة غسيل إذن. ضغطت علي زر المصعد وطلبته، وحين جاء كان فارغا. نزلت بسرعة كبيرة إلي غرفة الغسيل، لكنني ما وجدت أحدا. كانت الملابس موضوعة في النشافة، مما يعني أن الغسيل قد بدأ منذ مدة، لكنني مع ذلك كنت مليئا بأمل أن تنتهي مأساتي هذه الليلة. قررت البقاء في الغرفة حتي لو اضطرني ذلك إلي إكمال طبخة الملوخية فيها. الملوخية! تذكرت النار والطنجرة فجأة، وصعدت إلي غرفتي ركضا، لأجد الدجاج علي وشك الاحتراق. أطفأت النار، ولعنت الملوخية، وقررت أن أتعشي زعتر في ذلك اليوم، ونزلت مرة أخري إلي غرفة الغسيل. جلست 10 دقائق أخري، دون أن يأتي أحد، ثم 10 دقائق أخري، إلي أن توقفت النشافة عن العمل.
لم تأت جارتي. انتظرت نصف ساعة، لكنني فجأة بدأت أركّز النظر في النشّافة. لاحظت أنها كانت مليئة بملابس داخلية ملونة، وصدريات، وشورتات، وبلاطين جينز. بدأت أتخيل الهيئة التي ستكون عليها جارتي حين تلبس كل هذا، ثم، حين ازداد غضبي، قررت التصرف بشكل لا يليق. فتحت باب النشافة، وبدأت ألمس ملابس جارتي. أمسكت بإحدي الصدريات وضغطتها قليلا. تخيّلت أن نهدي جارتي من النوع الذي إذا نام الواحد بينهما فلن يصحو أبدا. كانت هذه أول مرة أري فيها ملابس داخلية لامرأة قبل أن أراها شخصيا، وألمس صدريتها قبل أن ألمس يدها. كنت مملوءا بأسي لم أجد له تفسيرا، وكانت رائحة الملابس قد بدأت تدوّخني. أرجعتها لمكانها، وأغلقت النشافة، ثم غادرت إلي غرفتي. في تلك الليلة حلمت بأنني في المصعد، محاطا بخمس فتيات، وأنني احترت في أي واحدة منهن ستكون جارتي، وأنني، حلا للإشكال، طلبت منهن أن أستخدم اختبارا بسيطا للتعرف علي هوية جارتي، بأن تكشف لي كل واحدة منهن عن صدرها لألمس، لا ثدييها، وإنما صدريتها.
قرّرت أن أغادر العمارة في نهاية الأسبوع، وأن أذهب في رحلة مع الطلاب الدوليين إلي ولاية بنسلفينيا، أملا في أن تحمل لي عودتي للعمارة وضعا أفضل. لكن شيئا لم يتغير بعد رجوعي. ولأنني شعرت أنه لا بد من استخدام العنف في هذه اللحظة، فقد قررت أن أعطّل المصعد ليوم الثلاثاء، حين لا يكون عندي محاضرات، وأن أبقي في العمارة طوال اليوم، فلا بد أن السكان سينزلون مستخدمين الدرج. ظللت أبحث عن مفتاح المصعد حتي وجدته، ثم أحضرت مفكا وقطاعة، وقطعت السلك الكهربائي. كنت قد صممت أيضا علي أن أضع إعلانا بالعربية يطلب من ذاك العربي، أيا كان، التوجه إلي لشقة (12 c) لأن فيها عربيا يحب أن يراه. تعطل المصعد، وجلست في البهو ساعتين دون أن ينزل أحد. احتجت الحمام، فأدركت أنني أحتاج الصعود 12 طابقا لكي أبول. صعدت، وعملت فنجان قهوة، ثم نزلت مرة أخري. لم يكن ثمة أحد، لكن ما لفت نظري وجود مجموعة من الإعلانات المعلقة في بهو العمارة، تعلن إضراب السكّان "جميعهم"_كما كتب_عن النزول من شققهم احتجاجا علي تعطل المصعد "غير المنطقي أبدا" كما ختم الإعلان. لاحظت أيضا أن إعلاني العربي قد حمل تعليقا صغيرا "حِل عن ...
بدأت أصرخ بصوت عال هذه المرة. لا. ليس جميعهم. ليس جميعهم يا كلاب. أنا لم أشترك في هذا. لم يسألني أحد. لم يرني أحد. كلاب. توجهت إلي غرفتي، وأخذت عصا غليظة كنت قد حضّرتها من قبل احتياطا لمشاكل متوقعة، وبدأت أضرب بها علي جميع أبواب الشقق في العمارة. اخرجوا أيها الحشرات. أعرف أنكم في الداخل. اخرجوا. كفاكم خوفا. كان صوتي يملأ كل شيء. استخدمت يديّ وقدميّ وأنا أركل الأبواب وأدقّ الجرس. الغريب أنني لم أسمع أي ردة فعل. اخرجوا يا كلاب. أنا الذي عطّلت المصعد. اخرجوا وحاكموني. أريد أن أري وجوهكم القذرة، لا لأنني مشتاق لرؤيتها. كلا. ما أريده فقط هو أن أبول علي كل واحد منكم، فردا فردا. بعدها يمكنكم أن تحتجبوا إلي الأبد. شهر كامل وأنتم تخافون مني. وأنتِ (هنا بدأت أوجّه الكلام لجارتي مع أنني كنت في الطابق الرابع) أيتها العاهرة، هل تعرفين أنني شممت رائحة صدريتك ذات مرة، نعم شممتها. كانت رائحة عفنة (كنت أكذب طبعا، وأنا، كما قلت سابقا، نادرا ما أصدق). بدأ صوتي يبحّ، وحين وصلت الطابق السفليّ شعرت بأن الأرض تلفّني. رميت العصا من يدي، وجلست علي الأرض.
أول مرة صحوت فيها بعد تلك الحادثة كانت حين وجدت نفسي في غرفتي. فتحت عينيّ بصعوبة لأجد نفسي محاطا بعدد هائل من الناس الذين، فجأة وبلحظة واحدة، بدؤوا بالتصفيق. اقترب مني أحدهم، وعبّر، باسم سكّان العمارة "جميعهم" عن سعادته لشفائي. رغبت في فتح فمي، لكن التعب ألزمني الصمت. قال لي الرجل إن هؤلاء حوله هم جميع سكان العمارة، وأنهم كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة "للترحيب بي" كما قال، لكن الوقت لم يسعفهم. لم يشر، ربما أدبا، إلي ما فعلته في ذاك اليوم من صراخ وتحطيم للأبواب. سمعت واحدا يهمس بالعربية ويقول لي "كيفك؟" نظرت إليه. كان يبتسم. قال لي، بالعربية أيضا: "فرصة سعيدة يا أخي." لم أجب أيضا، لكنني قلت في نفسي "... أختك." بعدها اقتربت مني فتاة جميلة، وعرّفت عن نفسها قائلة إنها جارتي، وإنها سعيدة بلقائي "أخيرا، بعد طول انتظار" كما قالت، وإنها تحب كثيرا الموسيقي التي تسمعها في شقتي. رغبت أن أسألها أن تكشف لي عن صدرها لأتأكّد أنها هي هي. كانت جميلة إلي الحدّ الذي يصبح النظر إليها مؤلما تماما. بقيت علي صمتي، وأنا أسمع همهمات جيراني. تذكرت عبارة كنت قد قرأتها مرة أن "الآخرين هم الجحيم"، لكنني شعرت برغبة خانقة في البكاء. "أين كنتم؟" قلت في نفسي، ولأول مرة في حياتي أحسست بأنني وحيد تماما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.