إزداد المسافرون إلي الوجه القبلي فوق رصيف 11 المخصص لقطارات الدرجة الثالثة . فأكثر المسافرون بهذا الرصيف من أبناء الجنوب البسطاء الذين يعملون بالعاصمة ، ويعودون لديارهم بالأعياد والمناسبات . وبالقرب وعلي الأرصفة المجاورة هناك الأجانب لزيارة آثار الجنوب ، وبعض الأغنياء ولكن في إنتظار القطارات الفاخرة المكيفة . ظهر بالمحطة "رجل " في العقد الثالث من العمر ، تبدوا عليه البساطة ورقة الحال يشع وجهه البؤس ، يرتدي جلباب متهالك ، معه زوجته ، يبدوا عليها المرض تتعكز عليه ، يسيران ببطء ، ترمقه بنظرات من هينة لأخري تمتزج بالعطف والحب . سألته الزوجة : أين سنذهب الآن وأين القطار ؟ أجابها الزوج : سنذهب لرصيف رقم إحدي عشر ، وسننتظر القطار فقد قارب علي الوصول ، لا تقلقي يا " حبيبتي " إن شاء الله ستشفين ، وستزول آلامك وآثار العملية الجراحية قريبا . ردت الزوجة : إن شاء الله ياحبيبي ، ولكني متعبة ، وأشعر بخوف وإنقباض قلبي . الزوج : سلامتك حبيبتي ، خيرا إن شاء الله ، هيا إسندي عليا وإستمري بالسير ؟ وصلا الإثنين إلي الرصيف وقد إشتد الزحام ، أجلسها علي أحد مقاعد الرصيف بجوار بعض النسوة . مر الوقت وقد تأخر القطار عن موعده كثيرا كعادته . ولكن آخيرا ، بدأت مكبرات الصوت تبشر بقدوم " القطار رقم 188 " المتجه إلي أسوان . دخل القطار المحطة ، مطلقا بوقه المخيق ، هرول الجميع ، وقفت الزوجة ، إنقض الجميع علي عربات القطار ، ساد الهرج والمرج ، بدأت المشاجرات علي المقاعد الشاغرة ، علت الأصوات داخل القطار . المقاعد صارت للأقوي . بدا " الزوج " مصدوما ، نظر إلي المشهد الدامي ثم نظر لزوجتة الضعيفة ولا يدري كيف سيقتنص مقعدين أومقعد من بين المتناحرون . دنت " الزوجة " من زوجها ، فلازت بيديه ، ثم همست بإذنه : الألم شديد وموضع العملية الجراحية يؤلمني ولن أستطيع الإنتظار أكثر ، ناهيك عن إنقباض قلبي الشديد وخوفي من هذا القطار ، ثم ألقت برأسها علي كتفه وسالت دموعها . غضب الزوج وأحس بالضعف ، ثم قال لها بصوت حزين ومنهك : سامحيني ياحبيبتي فما باليد حيلة ، فلا أملك أموالا كافية لنستقل حافلة ، أنت تعرفين أننا إبتعنا كل مالدينا بل وإقترضنا من أجل " العملية الجراحية " حتي تشفي وتعودي لسابق عهدك وتبقين لي ولأطفالك ، فلو لم نقم بإجرائها لكنا إفتقدناك لا قدر الله ، أنتي تعلمين جيدا أنني لن أستطع العيش بدنيا أنفاسك ليست فيها . إزدادت دموعها وشهيقها ، فوضع يده علي خدها وإستدار وقبلها علي جبينها . فجأة ، إنطلق بوق القطار لينذر بإقتراب الرحيل ، أفاق الزوج لينظر فيجد أن الرصيف قد خلا من المسافرين والقطار قد إكتظ بهم ! الزوج : لقد إمتلأ القطار تعالي لنبحث عن ثغرة ، داخل العربات الخلفية . وبدأ البحث وكلما دخل عربة لم يجد بها متنفسا ، حتي وصل لآخر عربة بالقطار ، وقد إنتابهما الملل وفقدا الأمل في أن يستريحا من عناء هذه الليلة . العربة الأخيرة لم تكن مزدحمة كثيرا فدخلاها سويا . بدأ " الزوج " يستجدي المسافرين من الشباب أن يهبونه ولو مقعدا لزوجته المريضة ، فنظر إليه الجميع في صمت ثم تجاهلوه . فجأة ، وقف شابان وإبتسما في وجهيهما وأمروهما أن يجلسا بمقعديهما ، وقال أحدهم : لقد ألغينا سفرنا بالقطار سوف نستقل " الحافلة " فهنيئا لكما المقعدان ، وشفاكي الله ياأختنا . إغتبطا الزوجين وحمدا الله ودعيا للشابين بالستر والبركة بالعمر ، وتنفسا الصعداء وإنطلق القطار بأمان .. مر بائعا للأطعمة ذو بنية ضخمة وملامح حادة وصوت أجش مخيف . فإستوقفه الزوج وسأله : بكم رغيف البيض ؟ البائع : بجنيهان ونصف ياأخينا . الزوج : أعطني رغيفان ؟ قاطعته الزوجة : لا أريد طعاما . الزوج : لماذا يا حبيبتي !؟ الزوجة : أشعر بالقئ ! الزوج : سلامتك حبيبتي ، إنه مفعول المخدر لم ينضب من جسدك بعد . البائع مستعجلا : هل ستنتهون من الغزل أم أنقشع إلي رزقي ؟ الزوج للبائع : أعتذر منك أخينا فهي مازالت تعاني آلام العملية جراحية . البائع وقد علا صوته : وأنا مال أهلي بعمليتها ، إنجز ماذا تريد ياأخينا ؟ الزوج : إجعله رغيفا واحدا ولا تنسي الكمون ؟ نظر له البائع وقد كشر عن أنيابه ثم نهره قائلا : هل ستضع شروطك أيها الأبله ؟ ما سأعطيك إياه تأكله وتحمد ربك ، فأنت لا تأكله في بيتك ؟ الزوج شعر بالخوف من هذا العنفواني وآثر ألا يضايقه حتي يذهب بسلام ، وحصل علي الرغيف ودفع خمسة جنيهات فهذا طلب البائع المتغطرس وإلا سيبرحه ضربا هو وزمرة البائعين ، ثم تناول الرغيف . نامت الزوجة من شدة الإرهاق علي كتفه . نظر لها الزوج في حب وحنان ثم طوقها بزراعيه لدقائق . وفجأة ، توقف القطار بعيدا عن أي محطة .. أحس الزوج بمغص حاد في معدته ، فآثر ألا يوقظها وأسند رأسها علي المقعد لتكمل نومها ، وقام ليبحث عن " مرحاض " ليقضي حاجته ، دخل مرحاض العربة فوجده قد ملئ بالمسافرون ، ذهب إلي العربة التي تسبقها فوجده قد ملئ أيضا ، إزداد المغص وطرقات القطار مكدسة بالمسافرين ، فمازال يتقدم حتي وجد مرحاض فارغ فسارع بالدخول إليه . بعد دقائق سمع صوت إرتطام شديد مصاحبا لإهتزاز القطار بعنف ، ثم إنطلقت الصرخات والإستغاثات ، وإنتشر الهلع والفوضي بين الركاب . شعر الزوج بالخوف ، حاول فتح باب المرحاض ولكنه لم يستطع فهناك زحام أمام الباب ، نظر من النافذة وجدهم يهرعون من القطار ، بدأ يصرخ دون فائدة ، مر الوقت قام بفتحه فإستجاب فخرج فوجدهم قد نزلوا إلا القليل وبعض المصابين ، إرتعد خوفا وشعر بالقلق الشديد علي زوجته ، نزل من القطار وبدأ يركض إلي عربات القطار الآخيرة حيث زوجته ، والناس من حوله قد جمدت وجوههم خوفا . وعندما وصل لنهاية القطار فوجئ بالصاعقة التي أدمت قلبه . فقد إرتطم قطار قادم علي نفس الشريط وبنفس الإتجاه بآخر عربات قطاره الذي يستقله وزوجته ، وقد تحطمت وإشتعلت بها النار ومات من بداخلها بمافيهم زوجته .. هناتوقف الزمان والمكان مذهولان لما أصاب الزوج ، وإنهار الزوج المسكين ، ونطقها : إنا لله وإنا إليه راجعون ...