يرحل القطار بين المدينتين ويمر بقرى صغيرة ... تراخيا فوق المقعدين المضلعين وأسندا رأسيهما إلى مسند المقعدين فتراءى لهما سقف القطار مقوسا كالعادة. كان سؤال: ماذا يدور برأسك بالتحديد؟ كانت إجابة: ما لا يمكن تحديده. وحيث إنه سأل سؤاله ليجد عند رفيقته ما يبدأ هو فى تحديد ما برأسه هو، ولم يجد ما هو محدد عندها، فهو لم يحرك رأسه استغرابا، وظلت معلقة بالعمود الممتد بطول العربة ليمسك به الواقفون حين يزدحم القطار. الوقت متأخر بعض الشىء. المحطة من خلف الزجاج مضاءة، صغيرة، بها أرصفة تخلو الآن من أى مسافرين. لم يفكر فى إحصاء الأرصفة، وجهة القطار فى هذا الوقت المتأخر ليست جهة يقصدها الآخرون. هما نفساهما لم يكن فى اعتقادهما أول النهار أنهما سيعودان بالقطار. امتدت سيقان أربعة لتستند على الجانب الخالى من المقعد المقابل فى نفس الوقت، وتحركت رأسه تتجول فى العربة: فى هذه الناحية يجلس رجل يرتدى “جاكت” رث، تخير مقعده فى مواجهة جدار العربة الأخضر بالضبط، ترك العربة شبه الخاوية بأكملها وتخير الجلوس مواجها جدار العربة ؛ فى الجهة المقابلة جلست فتاتان وشاب يتهامسون بصوت مكتوم، ويضحكون بصوت عال. هما فى المنتصف، يعودان إلى البلدة، البيت، وغالبا إلى قليل من النوم بعد تناول العشاء. كان سؤال: لكن كيف لا يوجد فى رأسك الآن شىء بعينه. إنك تفكرين منذ وقت طويل فى آلاف الأشياء!! الآن.. كيف لا يوجد فى رأسك ما يمكن تحديده؟ كان قد رفع رأسه وواجه رفيقته المسترخية على المقعد المجاور. لم تكن هنا إجابة. مر بائع حلوى، كث شعر الذقن، رفيع الصوت، سريع الحركة، شتت الانتباه، فأشعل سيجارة حتى يمر البائع وقد مر. أخذ يحاول أن يصيغ سؤالا عن أى شىء. إنه يريد الحديث، مجرد الحديث، لكنه سيكون من وجهة نظره أكثر روعة حين يتحدثان فيما يمكن أن يريد أن يتحدث فيه، لكنه لا يجد إجابة محددة عند رفيقته، ولا يجد فى رأسه هو شيئا محددا يبدأ الحديث به. كان ممكنا أن يستعيد حياته كلها (منذ مات أول مرة) بأدق تفاصيلها فى لحظة واحدة، ويضحك، لكنه كان على وشك كسر صمته حينها ويخبر رفيقته أنه يشعر حالا أن ذاك الشىء الذى تحتويه جمجمته يطفو الآن فى سائل من نوع ما، وأنه هذا الحال يجعله يشعر بما لا يجد بمخيلته (الطافية) تعبيرا عنه سوى الانتشاء، وهو لذلك يريد أن يتحدث. اكتشف أن الجملة التى انتهى منها كانت اقتراحا بأن يغنيا معا أية أغنية، فالوقت وإن كان متأخرا كما هو على الدوام كل ما يحس به هو انه فى عربة بالقطار، وأنها بالعربة معه، وأن العربة بها بعض الأشخاص غير المهتمين بهما، وأن القطار سيتحرك بعد قليل، وأنه يشعر بحالة من الانتشاء. اكتشف أيضا وهو يسأل نفسه كيف خرجت جملة بدلا من أخرى أن رفيقته قد أقرت الاقتراح فشرعا يغنيان بصوت خافت، بينما بدأ القطار فى التحرك معلنا عن رحيله بصافرة طويلة زاعقة لم توقفهما عن الغناء.