ليل القاهرة صيف عام 1965 قفز اللص إلي سطح المنزل مستترا بظلام الليل وحالة السكون الشاملة. واستطاع بقليل من المجهود أن يعالج قفل الباب ويدخل الحجرة الكائنة علي سطوح أحد منازل حي السيدة زينب. أصيب اللص بخيبة أمل كبيرة من الوهلة الأولي. فقد اكتشف أن الحجرة تفتقرتماما إلي ما كان يأمل فيه. فلم يجد ما ينطبق علي قاعدة "ما خف حمله و غلا ثمنه" فلا ساعة يد ثمينة أو منبه. ولا جهاز راديو قيم. والملابس كلها مستعملة وبسيطة. ولم يجد اللص ما يغريه علي السرقة. وفكر في أن يعود أدراجه ولكنه تراجع عندما تذكر أصحابه . فسوف يسخرون لانه عاد خاوي الوفاض. لهذا قرر أن يحمل أي شيء. فحص الحجرة فحصا دقيقا بعين خبير في السرقة. ولم يجد في النهاية سوي مجموعة من الكتب بدت امامه ذات قيمة. بدأ بسرعة في وضع الكتب في حقيبة سفر كانت موضوعة فوق الدولاب الوحيد. ثم فتح الدولاب وجمع ما استطاع أن يجمعه من القمصان والبنطلونات. وقبل ان يمضي لمح طبق مغطي موضوع فوق المنضدة بركن الحجرة. كشف الغطاء عن الطبق فوجد قطعة من اللحم المسلوق والأرز. أخذ ملعقة من رف الصحون وراح يأكل أرزاً مع قطعة من اللحم وبعد أن أكل شعر بالندم. فمن المؤكد أن قاطن الحجرة سيعود جائعا. وسيصطدم بالسرقة ثم بالقضاء بالوجبة. هز اللص رأسه ساخرا من تلك الشفقة التي انتابته دون مبرر. كان الوقت قد جاوز منتصف الليل عندما خرج اللص حاملا الحقيبة المملوءة بالكتب. فكما أن كثيراً ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. كذلك فإن الليل كثيراً ما يأتي بما لا تشتهي اللصوص. فقد اصطدم اللص بحجر في الطريق جعله يسقط علي الارض محدثا بعض الجلبة التي اثارت انتباه أحد رجال الشرطة. الذي سرعان ما شك في الامر وأطلق صفارته في جوف الليل. عندما حاول اللص أن يطلق ساقيه للريح. وبعد دقائق وعدة صفارات من هنا وهناك كان اللص يسير متخاذلا وسط كوكبة من الجنود متجهين به إلي قسم الشرطة. وقف اللص أمام الضابط النوبتجي الذي راح يعاين المسروقات بلا مبالاة وهو يشرب الشاي . قال اللص موجها حديثه للضابط. يا سعادة البك 0000 هذه الكتب كتبي ولم أسرقها من أحد.. نظر الضابط إليِّ وهو يشعل سيجارة : - ولماذا كنت تحملها وتخرج في هذا الوقت.؟ سكت اللص ثم أجاب بسرعة : - كنت أحملها إلي أحد أصدقائي.. إنها كتبي يا سعادة البك ومستعد أن أقسم لك.. سأله الضابط وهو يفحص الكتب وباقي الأشياء : هل تجيد القراءة..؟ أجاب اللص: نعم يا سعادة البك .. كان الضابط قد أخرج بعض الكتب من الحقيبة وراح يفحصها علي مكتبه. أمسك أحد الكتب ورفها أمام اللص وقال له: أذن اقرأ عنوان هذا الكتاب.. تلعثم اللص وحار في إجابته ثم قال: انا لا أزال أتعلم القراءة يا سيدي ولكن قريبي.. يجيد القراءة ... هز الضابط راسه ثم أمر بفتح محضر للتحقيق.. وأمر بوضع القيد الحديد في يد اللص.. و أمر بحبسه تحت التحقيق بالتخشيبة. وقبل أن يخرج اللص مع جنود الشرطة من الباب هتف الضابط فجأة: لحظة واحدة .. تعالي هنا .. توقف الركب وعادوا إلي حيث كانوا. فقد تغيرت ملامح الضابط تماما وهو يحمل في يده كتابا وكأنه قنبلة علي وشك الانفجار. هتف الضابط بصوت حاد وهو يوجه أسئلته إلي اللص: من أين أتيت بهذه الكتب؟ تلعثم اللص أمام لهجة الضابط الغريبة. ولكن الضابط صرخ فجأة: تكلم.. ظل اللص محدقا في وجه الضابط.. هتف الضابط قائلا: إن هذه الكتب خطيرة جدا.. من أين أتيت بها. لم يفهم اللص ما يعنيه الضابط وأصر علي أن الكتب كتبه ليهرب من تهمة السرقة ولكن الضابط قال بحدة: إن هذه الكتب في غاية الخطورة.. ولابد أن تدلنا فورا علي صاحب هذه الكتب.. وإذا فعلت.. فسوف أفرج عنك فورا.. سكت اللص وهو ينظر إلي الضابط فهو لص يفهم مهنته جيدا.. ويفهم هذه الاساليب والوعود التي تكون بمثابة الفخ. امتنع اللص عن الكلام. والضابط يرغي ويزيد. ثم قال الضابط وهو ينتفض: أن اسم صاحب الكتب موجود عليها.. فتكلم إذن. و إلا أمرت بضربك: ظل اللص متشككا في الامر ولكنه لم ينطق. دخل مكتب الضابط في هذه اللحظة شاب نحيف الجسد يضع نظارة طبية علي عينيه ويتحرك علي استحياء وأدب. ويمسك في يده بكتاب لم ينتبه الضابط إلي وجوده عندما وجده يتحدث مع أحد الجنود عن كيفية الإبلاغ عن حادث سرقة. التفت إليه الضابط بسرعة وسأله: متي تمت السرقة ؟ أجاب الشاب بصوت رقيق ونظرات هادئة: تمت الليلة.. فعندما عدت إلي حجرتي وجدت بابها مفتوحاً. قاطعه الضابط وكأنه يحاول أن يربط بين الأحداث: ما هي المسروقات ؟ أجاب الشاب: حقيبة سفر كبيرة وعدد من الكتب بالإضافة إلي بعض الملابس، برقت عينا الضابط بريقا حادا غريبا.. وسأله وهو يركز نظراته علي ذلك الشاب الهادئ الذي يقف أمامه: اسمك صلاح محمد أحمد ؟ هز الشاب رأسه مبتسما وقال : نعم.. سأله الضابط بسرعة وبحركة من يده مشيرا إلي الكتب العديدة الموضوعة علي المكتب والحقيبة: هل هذه الكتب كتبك ؟ تأملها الشاب برهة قبل أن يجيب قائلا: نعم إنها كتبي .. سكنت الحجرة كلها في لحظة واحدة.. وكأنها تلقت أمرا ًغريباً بالسكون والانتظار لأن أحداث جسامآً سوف تحدث الآن. وشت اللحظات الصامتة المتعاقبة علي توتر المشاعر المرتجفة المتحفزة لخطر قادم: عاد الضابط إلي مكتبه ودون ان يجلس علي مقعده رفع سماعة الهاتف وتحدث إلي شخص لم يتبين اسمه ومنصبه. وبعد عدة دقائق من الحديث الهامس وضع الضابط السماعة بهدوء شديد وظل مكانه ينظر إلي الشاب الهادئ. لم تمض عدة دقائق وإذا بعدة رجال يرتدون الملابس المدنية يدخلون الحجرة. واتجهوا مباشرة إلي الضابط الذي يجلس في هدوء. وسأله أحدهم بصوت حاسم قوي: هل هذه الكتب كتبك حقا..؟ أجاب الشاب وهو يتعجب من تكرار هذا السؤال بهذه الطريقة: نعم إنها كتبي وحضرت للإبلاغ عن سرقتها. لم يكد ينهي اخر كلمة من كلماته حتي دوي صوت صفعة هائلة سددت بإحكام إلي خده الأيمن. سقطت نظارته علي الأرض وتكسر زجاجها وطار الكتاب من يده واستقر تحت أحد المقاعد. تمايل الشاب ولم يكد يتماسك نفسه وإذا بصفعة محكمة أخري علي خده الأيسر. وارتجف كل من بالحجرة من شدتها. ارتعشت الأبواب والنوافذ ارتجف المصباح الكهربائي المدلي فوق المكتب والصفعات واللكمات تنهال علي الشاب وهو يميل وينحني. يرتد علي الخلف ويكاد يسقط إلي الأمام. كان رنين الصفعات المؤلم يرتد من سطوح الزجاج والمرايا و الجدران الكئيبة ليستقر في شفاف القلب. اندفع الدم من فم الشاب ومن أنفه اقترب منه الضابط وسأله: إن هذه الكتب كتب دينية... كان الشاب يعاني معاناة شديدة ويجاهد كثيرا ليحتفظ بتوازنه. كان الطالب وكأنه شمعة صغيرة ترتجف في وجه رياح ظالمة تصر علي أن تطفئها. سأله الضابط مرة اخري: أقرأت هذه الكتب ؟ أجاب الشاب بصدق وبساطة شديدة رغم الدم المنساب من أنفه: لا .. لم أقرأها بعد.. سأله رجل المباحث الذي كشف عن شخصيته: أتعرف ما في هذه الكتب ؟ أجاب الشاب وهو يمسح خيط الدم الذي يسيل من جانب فمه : فيها كل الخير..ولا يوجد فيها ضرر إنها مجرد أفكار.. قالها ببساطة شديدة . وسدد له أحد الرجال ضربة قوية علي مؤخرة رأسه فانكفأ علي مكتب الضابط الكبير الذي بدأ في هذه اللحظة وكأنها منضدة جزار. فقد مال الشاب برأسه عليها وقطرات من الدم تتساقط علي الكتب و الأوراق. وعندما كان الشاب يجاهد في رفع رأسه لأعلي وقع نظره علي شعارات معلقة علي الجدران. تحمل معاني فيها الحرية و العدل. اغرورقت عينا الشاب بالدموع. جذبه أحد الرجال من كتفه بقوة ونظر في عينيه قائلا: إن هذه الكتب سوف تؤدي بك إلي الهلاك.. هتف الشاب من أعماق آلامه وجراحه وقال: إن الدعوة للأخلاق والخير لا تؤدي إلي الهلاك أبدا. انهالت اللكمات مرة أخري من كل صوب. و شارك هذه المرة كل الجنود والضباط و كأنهم في معركة حربية كبري. تحركت المناضد من أماكنها. سقط كوب الشاي علي الأرض. تطايرت ألفاظ السباب البذيئة فقدت بذلة ضابط الشرطة وقارها عندما راح يضرب الشاب بالشلوت. فقد ارتجفت نجومه اللامعة. وسقط غطاء الرأس. كان الشاب يتلوي من الالم ويترنح وما كاد أن يسقط علي الأرض وهو ينزف وإذا بهم يرفعونه مرة أخري. صرخ أحدهم في وجهه : لابد ان تعترف لنا.. وتذكر كل أسماء التنظيم السري الذي تنتمي إليه.. ألست من الإخوان المسلمين ؟ رفع الطالب نظره إلي الضابط وقال: أنا طالب في كلية الحقوق ولا أنتمي لأي تنظيمات سرية.. هز الضابط رأسه وقال : إجابة متوقعة.. ولكننا سنعرف كيف نجبرك علي الاعتراف
ازدادت حدة المعركة الحربية الكبري بين الرجال العتاة وهذا الجسد الرقيق الذي تمزقت ملابسه وسالت الدماء من كل جزء من جسده وراح يتلوي من الألم كعصفور سقط وسط طيور جارحة متوحشة. كان اللص يقف وحيدا في ركن الحجرة يشاهد ما يحدث أمامه وهو يرتجف. لقد دخل كل اقسام الشرطة وشاهد زملاءه يضربون. ولكنه لم يشاهد مثل هذا الضرب أبدا.. حمد الله في سره أنه لا يقرأ ولا يكتب.. ولا يصلي أيضا.. لقد سمع في الآونة الأخيرة عن رجال يتم اعتقالهم بمجرد الشك في أن لهم ميولاً دينية .. وهنا يتم الاعتقال دون تحقيق او محاكمة. ويذهب إلي كل معتقلات وسجون مصر. اعتبارا من السجن الحربي إلي ليمان طرة وليمان أبو زعبل . ومعتقلات الواحات وقنا والفيوم والاسكندرية وبني سويف بالاضافة الي القلعة والمخابرات.. إنها التهمة التي تشرد الاهل والأصدقاء. والتي يذهب المتهم بها الي السجن وهنا يحتسبه الناس عند الله. ولا ينتظرون ميعاد خروجهم. سقط الشاب أمامه مغشيا عليه هذه المرة. والدماء تنزف من وجهه الهاديء. انتبه الضابط فجأة إلي اللص المنكمش علي نفسه في ركن الحجرة فهتف صارخا: أفرجوا عن هذا اللص فورا .... وفي لحظات كان اللص يخرج من قسم الشرطة طليقا حرا. وينتقل نفس القيد إلي الشاب الملقي علي الأرض. كان الفجر يشرق علي وجه الدنيا حزينا عندما حملت إحدي سيارات الشرطة المدججة بالسلاح. هذا الشاب إلي مكان غير معلوم ولسنوات أيضا غير معلومة.