كل كاتب من كتابنا الكبار كانت عنده خصلة أو عادة أو صفة يتميز بها .. والكاتب الكبير توفيق الحكيم كانت خصلته هى " البخل الشديد " ورغم أنه كان غنيا فى شبابه . تجربة الحكيم مع البخل لخصتها الكاتبة "مى شاهين" فى كتاب شارع الصحافة ضمن سلسلة كتاب اليوم ..وفيه روت الكاتبة حوارا طريفا للغاية دار بين توفيق الحكيم وشلة من أصدقاءه وقد حاولوا أن يقنعوه بأن يغير من نفسه ويعيش حياته شوية ويتمتع بالدنيا وأن يعمل "عزومة " يدعوهم فيها على الغداء .. تعالوا نشوف من خلال هذا الحوار إزاى الحكيم استطاع أن يفلت من هذا المقلب .. فى البداية حاول أصدقاء الحكيم أن يجعلوه يترك البنسيون ويعود لشقته ولكن ماذا قال لهم ... توفيق الحكيم : اتركونى أنا سعيد فى بنسيونى الشلة : ولكنك فى جنتك هذه محروم من الحياة .. ما فائدة رجل مثلك يكسب فى العام ألفى جنيه وعنده 250 فداناً من أجود الأطيان. توفيق الحكيم ( فى حسرة ) : ليتها كانت 250 فدانا ولو كانت كذلك لكنت حاتم الطائى أو شيطانه .. ولكنها 200 فدان فقط لا غير . الشلة : ولكن يجب أن تخرج أولا من جنة البخل التى تعيش فيها نريد أن نعلمك أن تكون فدائيا فى عالم الكرم .. عايزينك " تبحبحها شوية " .. وتبر نفسك . توفيق الحكيم : إننى أعيش فى جنة فعلا .. إن سمعة البخيل تفيده ولا تضره إن كل واحد منكم إذا جلس فى قهوة أقبل عليه الشحاذون كالنمل ينغصون حياته إلا أنا فإنهم لا يجرءون على أن يقتربوا منى .. إنهم يعرفوننى ويعرفون أننى لن أدفع مليما ولهذا يأسوا من معونتى ، أليست هذه سعادة ثم هناك الجمعيات الخيرية التى تضيقون بكثرة ما تبيعه لكم من تذاكر إنها جميعا تغفلنى لأنها تعلم أننى بخيل والبخيل لا يدفع ولم يحدث فى حياتى أن تلقيت خطاب استعطاف إلا مرة واحدة جاءنى خطاب يطلب صاحبه إعانة قدرها 20 جنيها وسررت كثيرا بهذا المغفل الذى أحسن الظن بكرمى ورحت أقرأ الخطاب مرة ومرتين وثلاث مرات مسرورا من أنى سأخيب ظنه ثم تطلعت إلى العنوان فإذا بالخطاب مرسل إلى رجل يقيم فى الدور العلوى وقد أعطاه لى عامل البريد خطأ ! الشلة : ولكنا نريد أن نخلقك من جديد ونجعلك رجلا كريما والحل الوحيد أن تقيم لأول مرة فى حياتك مأدبة وتدعونا إليها ، توفيق الحكيم : إننى لست من أنصار الثورة والطفرة ولكنى من أنصار التدرج والتطور فلأتمرن قليلا على الكرم .. فمثلا أبدأ بدعوة واحد منكم إلى شرب فنجان قهوة ثم أدعو اثنين ثم أتحول من القهوة إلى الغداء وبعد ذلك أقيم هذه المادبة لأنكم تعلمون أن الخروج المفاجىء من الظلام الدامس إلى النور يعمى العيون ثم إنى سعيد فى بخلى هذا كما تسمونه وفى جنتى كما أسميها الشلة : لا بد أن تقيم المأدبة توفيق الحكيم ( يحاول التخلص ) : اننى أوافق على اقامة المأدبة .. ولكن ليس فى بيتى أطباق وشوك وسكاكين تكفى ثمانية أشخاص .. الشلة : نحن نتكفل بالأطباق والشوك والسكاكين .. توفيق الحكيم (يحاول النجاة من جديد ) : ثم إننى لست خبيرا فى اختيار أنواع الأطعمه .. ولم يسبق لى أن أقمت مأدبة .. ثم هناك عقبة وهو أننى ليس عندى طباخ ولا سفرجى .. الشلة : نحن سنتكفل باختيار الأطعمه وسنرسل لك الطباخ والسفرجى والذى منه بس إنت توافق بقى ... توفيق الحكيم ( يشعر بحصار اقتصادى فيسلم أمره لله ويبدو وكانه فأر فى مصيدة ) ثم يقول : فليكن إذن لا مانع من اقامة المأدبة .. إنه ستكلفنى على كل حال .. ولكن لو كلفتنى جنيها واحدا فإن معنى ذلك أنى سأخسر من ثروتى جنيها .. فماذا سأستفيد فى مقابل هذه الخسارة ؟ الشلة : سوف تأنس بأصدقائك توفيق الحكيم : إننى آنس بهم فى المآدب التى يقيمها غيرى ! الشلة : إذن فلتكتب قصة وتدفع لك أخبار اليوم ثمنها الذى اعتادت أن تدفعه لك ، وهو أربعون جنيها وتقيم بالمبلغ المادبة .. توفيق الحكيم : وما استفدت أنا ، سأخسر أربعين جنيها كان يصح أن تدخل جيبى .. الشلة : أخبار اليوم مستعدة أن تشترى القصة فوق الاتفاق الذى بينك وبينها .. توفيق الحكيم (مسرورا ) : عال ! لا مانع إذن من إقامة المادبة فى الأسبوع القادم (ينتبه إلى نفسه) ولكن ألا ترون أن مادبة تتكلف 40 جنيها تعد اسرافا وهل يليق أن تأكلوا بأربعين جنيها بينما الفلاح المصرى لا يجد أربعة قروش يأكل بها إنكم تدافعون عن الفقير فكيف ترتكبون هذه الجريمة فى حق الانسانية ماذا ستقول صحف المعارضة عن هذه الحماقة لم أسمع أن ثمانية أشخاص يأكلون بأربعين جنيها فى وجبة واحدة أى أن الغداء للفرد الواحد سيتكلف خمسة جنيهات ، وخمسة جنيهات هى مرتب حامل البكالوريا أى أن الواحد منم سيتناول فى طعام الغداء شابا حاملا بكالوريا وسنأكل نحن الثمانية ثمانية شباب حاملين بكالوريا بدلا من ثمانية بفتيك .. الشلة ( فى حالة يأس ) : إذن كم تريد أن تدفع ؟ توفيق الحكيم : إننى رجل درست القانون ويجب أن أحترم القانون والقانون العسكرى ينص على ألا يزيد ثمن الغداء على 25 قرشا فى فنادق الدرجة الأولى ، فليكن بيتى فندقا من فنادق الدرجة الأولى وبالنسبة للثماني أفراد فإن المجموع يصبح 200 قرشا .. وعشرة فى المائة بقشيش فيصير المبلغ 220 قرشا ، وثمانين قرشا للنبيذ والكونياك والويسكى والشمبانيا والكوكتيل .. إيه رأيكم ؟ الشلة : إزاى مش معقول . هذا المبلغ لا يكفى ؟! توفيق الحكيم (فى نوبة كرم ) : لا تحتجوا .. أعرف أن هذا اسراف ولكن يجب أن تتمتعوا إن هذه هى مأدبتى الأولى والأخيرة وهذا المبلغ يكفى وزيادة وإلا فلنجعله خمسة جنيهات وفى هذه الحالة اسمحوا لى أن أنتهز الفرصة وأدعوا جميع أصدقائى الذين دعونى للغداء والعشاء طوال حياتى وبذلك أسدد هذه العزائم وأستريح ولا تنسوا ناشر كتبى وقصصى .. إن الناشر لن يغفر لى إذا أغفلت دعوته إلى مأدبتى العذراء ويحسن أن نفهمه أن هذه الحفلة لتكريمه هو ثم أن هناك جماعة أتمنى لو دعونى إلى تناول الغداء فلماذا لا ندعوهم أيضا وهكذا أورطهم ليدعونى إلى موائدهم ... الشلة : إذن ستكون مأدبتك مصيدة .. توفيق الحكيم : ليست مصيدة .. وإنما طعم كالذى يوضع فى المصيدة ! الشلة : ولكن هذا سيجعل عدد المدعوين حوالى 30 أو 40 .. وخمسة جنيهات لا تكفى مطلقا .. توفيق الحكيم : قواعد الاقتصاد تقول أنه كلما زاد عدد المدعوين نقصت نفقات الفرد الواحد ثم أننا قوم إذا أكلنا لا نشبع .. هذا حديث شريف .. وبعد ده كله ماذا أستفيد من هذا الكرم كله .. الشلة : تستفيد أن يقال عنك أنك الكريم الأمثل .. إننا ننفق ذات اليمين وذات اليسار وكلما أنفقت جنيها جاءتك عشرة جنيهات والحسنة بعشر أمثالها .. توفيق الحكيم : إن الكرم فضيلة ولكن كرم البخيل فضيحة .. ولهذا أخشى لو أقمت هذه المأدبة أن يذاع أمرها ويشهر بى الناس ويعتبروها فضيحة .. ! .