لا تخلو البلدان العربية من فكرة الأجيال وتبعياتها. وإن اختلفت في بعض تفاصيلها، يبقي الأساس متشابها. وكما يقف الكثيرون عند جيل الستينيات في مصر، نجد جيل الأفق الجديد في ذات الفترة بفلسطين، وجيل الثمانينيات في العراق، وهكذا. في السطور التالية يحدثنا الأدباء عن مظاهر المجايلة، كلٌ في بلده، وموقعها في الحاضر الأدبي وتأثير تطورات العصر عليها. محمود شقير : فلسطين.. سمات عامة مستقاة من طبيعة المرحلة يمكن القول أن الإبداع في أساسه فردي وثمة تفاوت بين مبدع وآخر حتي لو كانا من الجيل نفسه. مع ذلك ثمة سمات عامة مستقاة من طبيعة المرحلة السياسية والاجتماعية بحيث تظهر هذه السمات في النتاج الأدبي بغض النظر عن الأعمار. أضرب مثلا علي ذلك: شعر الانتفاضة الأولي 1987 حيث شاعت فيه الحماسة والمباشرة والإكثار من ذكر الحجارة وأطفال الحجارة. وأضرب مثلا آخر: تلك الكتب التي ظهرت بعد أن أوجد محمود درويش زاوية في مجلة الكرمل بعنوان: »ذاكرة المكان.. مكان الذاكرة»، حيث أطلق النقاد اسم »أدب العودة» علي الكتب التي ظهرت بعد أوسلو 1993 تحدث فيها مؤلفوها عن مدنهم التي وُلِدوا وعاشوا فيها ثم تم نفيهم منها وعادوا إليها بعد أوسلو. من هذه الكتب: »رأيت رام الله» لمريد البرغوثي، »منازل القلب» فاروق وادي، »أرض الغزالة» حسن خضر، »حيرة العائد» محمود درويش، »العائد حكاية عودة» فيصل حوراني، و»ظل آخر للمدينة» محمود شقير. ولو عدنا سنوات طويلة إلي ستينيات القرن العشرين؛ فقد تجمع من حول مجلة الأفق الجديد المقدسية عدد من الكُتَّاب الشباب أُطلِق عليهم فيما بعد »جيل الأفق الجديد». وثمة من النقاد من يتحدث عن جيل السبعينيات وجيل الثمانينيّات وجيل التسعينيات في الشعر وفِي القصة. محمد حياوي : العراق.. الأجيال الأدبية منهجية غير واقعية أكثر من اشتغل علي قضية التجييل هم أدباء الستينيات نقادًا ومبدعين، بعد أن أسهمت ظروف عدة في بلورة هذا الجيل عربيًا، أهمها الصحوة القومية والمدّ العروبي الذي أعقب نكسة حزيران وما تلاها وانتشار الإيديولوجيات، لا سيّما اليسارية، فراحت الأجيال المتعاقبة تقلدهم بعد أن تصدي الكثير من النقاد لتصنيف الأجيال ومحاولة إيجاد ما يبرر هذا التصنيف، فصرنا نسمع عن جيل الخمسينيات ثم جيل السبعينيات والثمانينيات وهكذا. وهي من وجهة نظري ظاهرة لا تمت للإبداع بصلة، فالمبدع الحقيقي الفرد منشغل بمشروعه الذاتي وتطويره من دون التعكز علي المجايلة، وفي المحصلة لأن الإبداع الحقّ لا يمكن تعليبه أو توحيد ملامحه أو تجميعه في خانة واحدة ليسدّ كامله نقص ضعيفه، وبهذا تتساوي المواهب افتراضيًا محتمِية تحت يافطة الجيل الواحد. أسهمت ظروف عدة في العراق مثلاً في تكريس ظاهرة الأجيال، فكان العهد الملكي في الأربعينيات والخمسينيات والاسترخاء الذي شهدته الحياة فيه كفيلًا في بلورة من كتب وبرز فنيًّا في تلك المرحلة لتجمعه مع أقرانه بعض الملامح المشتركة، ثم دخلت مرحلة الستينيات بصخبها الإيديولوجي وعصر الهزائم القومية الكبري، لتكتسب ملامح خاصّة بها، وليبق هذا الجيل مهيمنًا علي الساحة الإبداعية لعقود طويلة ما زالت آثارها شاخصة حتي الآن، ليولد تحت ظله جيل ضائع وقع تحت هيمنته وانمحت سماته سُمي في العراق جيل السبعينيات الضائع، بعد ذلك نشبت الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت علي مدي ثماني سنوات ونتج عنها أدب حربي تعبوي كان كافيًا لتجييل من ظهر في تلك الفترة وأينعت تجاربه الفنيّة تحت لهيب النّار، ليسمي لاحقًا جيل الثمانينيات الذي ظل مهيمنًا علي الساحة الأدبية في العراق حتي سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي في العام 2003 لتظهر تجارب مختلفة ومتمردة وعصية علي التجييل، تجاوزت فنيًّا كافّة الأجيال التي سبقتها، وهي ليست جيلًا محدد الملامح أو متقارب زمنيًا، بل خليط من بقايا الأجيال السابقة واللاحقة كلها، وهذا دليل علي أن قضية التجييل في الأدب والفنون ليست واقعية ولا تمتلك مسوغاتها النقدية، إنما يحاول المشتغلون في الآداب والفنون رسم ملامحهم وتجسيد منجزهم الفني بعيدًا عن أيّة إسقاطات مسبقة، بل أنّني أزعم بأن أحد أهم الشروط في العملية الإبداعية هو الاستقلالية والتفرد وامتلاك الملامح الخاصة بكل مبدع. بوشعيب عطران : المغرب.. جيل قديم وآخر جديد يعكس الإبداع الأدبي كباقي الفنون، علاقة نوعية بين الإنسان ومحيطه، وبالتالي يحدد مستوي نسق تفكيره، والذي حتما يختلف من جيل لآخر، باختلاف الرؤي والمواقف وفق التحولات الاجتماعية، فتنشأ الرغبة لدي كل جيل في تجاوز سابقه، بإحداث الفارق، والسعي إلي خلق قطيعة معه. من هنا برزت إشكالية (المجايلة) أو (التجييل)، محتدمة بصراع الأجيال وذلك بالاستناد علي العمر الزمني، وهذا القياس لا يمكن اعتماده أبدا علي الإبداع الأدبي..تري لماذا..؟ لأن الإبداع الأدبي متواصل بين جميع الأجيال وبمختلف مشاربها، كما أنه صيرورة لا فكاك منها.. صحيح أن كل جيل يكتب عن زمنه، ولكل جيل حساسيته، محملة بتجاربه، ومدي تجاذبه مع تحولات مجتمعه، لكن هذا لا يخول لنا أن نحصر الإبداع الأدبي في زمن معين، ما دامت المرجعية الثقافية والحضارية والتاريخية، لها حضور قوي في منجزه، بل هي جسر ممتد بين الماضي والحاضر. من هذا المنطلق في نظري (المجايلة) أو (التجييل)، لا تخدم الإبداع الأدبي، بل تحاصره من انتقاله وتحد من تطلعات مبدعيه، الذين سيستسلمون للنزاع والصراع، عوض الخلق والابتكار. المشهد الأدبي المغربي هو الآخر لم يسلم من هذه الرياح، إلا أنها كانت خفيفة، ولم يكن لها أي مفعول يذكر. شخصيا لم ألمس تداول هاتين الكلمتين منذ ولوجي عالم الكتابة، لكن يتردد علي سمعي، بين الحين والآخر، جيل قديم وجيل جديد، دون تحديد مسبق، وهذا التقسيم في نظري لا ينطوي علي إقصاء أو تقليل من شأن الآخر، بل يسعي للتنافس والتجديد، ومحاولة اكتشاف مساحات أخري للإبداع، بتجديد آلياته وبناء تجارب جديدة و متميزة، مع تغيير في شروطه المتوارثة. صحيح أن الأجيال السابقة في الإبداع المغربي، كان يطبعها الالتزام السياسي، فيطغي علي تجربتها الإبداعية، أما الأجيال اللاحقة فقد تحررت منه و من تأثيراته. في تجربتي الشخصية، أسعي دائما للانفتاح علي الأجيال السابقة، كما الأجيال اللاحقة، لا أحس بأي فرق بينهما. فلكل جيل صوته، و لا يمكن أبدا أن يأتي من فراغ. إلياس فركوح : الأردن.. لكل جيل علاماته تتضمن المجايلة في الكتابة الإبداعية مفهوماً مخاتلاً، غير متفق عليه، أو علي تحديده وحصر معناه. كما أنّ القبول به هكذا، من حيث مبدأ »التسمية»، إنما يقع داخل منطقة التحيُّز: مع تميُّز كتابة هذا الجيل علي كتابة ذاك، وكأنَّ الانتقال من جيلٍ إلي آخر إنما يعني »ارتقاءً وتطوراً»! من جهتي، أعاينُ مسألة الاختلاف في كتابة جيلين متتاليين، أو يفصل بينهما جيلٌ أو أكثر، من بُعدين: الأول، الموضوعات »الصُغري» التي انشغلَت بها كتابات جيلٌ واحد، نتيجة لطبيعة مشكلاته التي ولدَّتها المرحلة التي يعيشها مجتمعه – وذلك داخل إطار موضوعات أوسع تطرقت إليها أجيال سابقة، ولسوف تطرقها أجيال لاحقة، كالظلم واللاعدالة، وعلاقات الحبّ، والتنافس والصراع، والثنائيات الضدية كالخير والشر، إلخ. الثاني، هل شكَّلَ الفرق في السنين بين جيلين، فارقاً بين نهجين كتابيين يمكن ملاحظتهما عند إجراء القراءة المقارنة المتأنية، وعلي مستويً واحد أو أكثر من الوعي، واللغة، والرؤية إلي العالم، وفحص الذات بأسئلة لم يتطرق إليها جيلٌ سابق؟ علي ما ينتجهما هذان البُعدان من خلاصات وملامح، يصير لنا أن نتخذ »موقفاً نقدياً/ أدبياً»؛ وإلّا سنكون أسري الانحيازات الجاهلة، والانتصار الأحمق لجيلٍ علي آخر! في الأردن مسألة الأجيال الأدبية لا تشكّل حالة من تلك الانحيازات الحادة، أو ما يمكن تشبيهها ب»التشنجات»؛ وذلك – في اعتقادي – لأنَّ الأجيال السابقة لم تكن معرقلة للاحقة، بل وقفت إلي جانبها في معظم الأوقات. أما التمايز بين الأجيال؛ فتمثّل عموماً في »الموضوعات» الصُغري التي انشغلت بها نصوصها، وهذا أمرٌ طبيعي. غير أنّ ما استوقفني في الجيلين الأخيرين، وما يزال، إنما يتمثّل في اللغة تحديداً. فهي إما تكاد تكون مسطحة خالية من إحالات علي معناها الأول المباشر الظاهر، أو تستلف من الشعر مجازاته وتشابيهه وصوره علي نحوٍ يُفقد النصّ نوعه، ليضعه في منطقة التداعيات المنفلتة من ضابط يقوم ب»تعيينها» وتسميتها! وفي النهاية، لكلّ جيلٍ »علاماته» التي تؤشر عليه متمثلاً في كتابٍ أو أكثر، كما أنَّ »الفرادة» هي إبداعٌ شخصي خاص لا ينسحب علي جميع المنتمين إلي جيلٍ محدد. وثمّة لغات قديمة، وأساليب كتابة سابقة، ووعي فني واجتماعي وتاريخي »خليط» – بإمكاننا معاينة ذلك كلّه في كثير من نصوص ينتمي أصحابها إلي جيلٍ ما! ما يشير إلي أنّ الانتقال عبر السنين لا يعني، بالضرورة والحتم، الانعتاق صوب ما هو »جديد وطازج»! خليل صويلح : سوريا.. الكتابة الجديدة تعوّل علي الذات أظن أن اكتساح العولمة للخرائط ألغي أية خصوصية محليّة، ولم يعد المبدع محكوماً بتضاريس المكان، فالكتابة اليوم تقوم علي مرجعية الفرد وليس الجموع، وتالياً فكل تجربة تذهب إلي نهرها الخاص الذي لا يصب في المجري نفسه لكاتب آخر من الجيل نفسه. الكتابة الجديدة تعوّل علي الذات في مرجعياتها، وبناء علي ذلك فإن فكرة الجيل لا تتحقق بالمقدار نفسه التي كانت عليه في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. كانت الأجيال الأدبية السابقة تتكئ علي رافعة أيديولوجية، يسارية غالباً، هي من تحمل المشروع الإبداعي بمختلف أجناسه، فيما يفتقد مبدع اليوم إلي اليقينيات، أو أنه يكتب اللا يقين، من موقع التمرّد علي الزي الموحد الذي حاولت الأنظمة القمعية تعميمه علي الجميع. . مبدع اليوم يبتكر نصّه الشخصي غير عابئ بما يكتبه الآخرون من جيله، فلكلٍ منهم حقله المعرفي الخاص ومكوناته الثقافية التي أتت من حال التشظي العام، وفقاً لخيارات قد لا تلتقي مع خيارات سواه. أن نقطن المدينة نفسها فهذا لا يعني أننا نتاج مؤثرات واحدة، فالعولمة والترجمة ألغتا الجغرافيا لمصلحة التاريخ، أقصد التاريخ الشخصي للمبدع وهو يعيد رسم خرائطه التي لا تتقاطع مع خرائط الآخرين، في تأثيث النص وبناه البلاغية والتخييلية. الزلزال الذي أصاب المنطقة، أسهم بزيادة التمزقّات السردية وتنافر الأهواء، إذ بات لكل مبدع خندقه الذي قد يجاور خندق الآخر، وغالباً لا يتقاطع معه، وهذا ما نسف فكرة الجيلية من جذورها، عدا المكونات البيئية الأولي التي ينطلق منها هذا الكاتب أو ذاك. هدي جعفر : اليمن .. لكل جيل مزاجه السردي يُعد الجانب الاجتماعي/السياسي هو المجال الأهم والأبرز الذي تشتغل عليه الرواية اليمنية، ونظرًا لطبيعة المجتمع اليمني وبناه السياسية والاجتماعية والمذهبية شديدة التعقيد فإنّ ذلك انعكس علي الرواية اليمنية وجعل السمات الجامعة الأهم بين الروائيين والروائيات هي محاولة الخروج من هذا الكيان القبلي والكتابة من خلاله، والإفلات به (وليس منه) لصنع عوالم روائية موازية ومحاولة لتفكيك النظم الاجتماعية التي تحكم اليمن منذ سنوات عدة. ما يربط أجيال الروائيين والروائيات اليمنيين هو إعادة صياغة أشكال العلاقات الاجتماعية والسياسية في اليمن، فقد كان هناك قديمًا روايات عن الهجرة وقصص المدينة والريف ثم أصبحت مواضيع هموم المواطنة والمساواة والحرية هي النقطة الأبرز في الرواية اليمنية أي بعد الثورة اليمنية وزوال الحكم الإمامي، وتلا ذلك ظهور موجة روائية للحديث عن النساء وحقوقهن وعوالمهنّ علي لسان الروائيات أو الروائيين الرجال وكذلك الحديث عن الفئات المهمشة وهم الواقعون في أسفل السلم الاجتماعي اليمني وهم ما يُعرف بفئة »الأخدام» وعن الاضطهاد والعنف المركب الذي يتعرضون له في اليمن. إن السياسة تنعكس بفجاجة علي الأجيال الروائية اليمنية، وتلون مجالاتها ومواضيعها بألوانها المختلفة ولكل جيل يمني مزاجه السردي الذي يحكي عن آماله وطموحاته. جدير بالذكر أن أول رواية يمنية حسب المفهوم الأوروبي الحديث للأدب كانت رواية »فتاة قاروت» الصادرة في 1927 للأديب اليمني أحمد السقاف.