عودة الراعي، البابا تواضروس يحمل إلى القاهرة رسائل سلام من قلب أوروبا    باسل رحمي: إصدار 1492 رخصة مؤقتة لمشروعات جديدة    أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم الجمعة    باكستان: مقتل 5 مدنيين وإصابة 29 بقصف عبر الحدود مع الهند    جنوب أفريقيا يواجه زامبيا في مباراة مصيرية بكأس الأمم الأفريقية للشباب تحت 20 عاما    الرمادي يجري تغييرات.. تشكيل الزمالك لمواجهة سيراميكا كليوباترا في الدوري المصري    النيابة تستكمل معاينة حريق المبنى الإداري بوسط القاهرة    حسين الجسمي يحقق 12 مليون في أسبوع ب فستانك الأبيض    اقتحام مستشفى حُميّات أسوان بسلاح أبيض يكشف انهيار المنظومة الصحية في زمن السيسي    لقاء خارج عن المألوف بين ترامب ووزير إسرائيلي يتجاوز نتنياهو    إصابة 5 أشخاص بحالات اختناق بينهم 3 اطفال في حريق منزل بالقليوبية    بيل جيتس يخطط للتبرع بكل ثروته البالغة نحو 200 مليار دولار    مروان موسى عن ألبومه: مستوحى من حزني بعد فقدان والدتي والحرب في غزة    الهيئة العامة للرعاية الصحية تُقرر فتح باب التقدم للقيد بسجل الموردين والمقاولين والاستشاريين    طريقة عمل العجة المقلية، أكلة شعبية لذيذة وسريعة التحضير    «دمياط للصحة النفسية» تطلق مرحلة تطوير استثنائية    افتتاح وحدة عناية مركزة متطورة بمستشفى دمياط العام    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 9- 5- 2025 والقنوات الناقلة    وزيرة البيئة: تكلفة تأخير العمل على مواجهة التغير المناخى أعلى بكثير من تكلفة التكيف معه    ستحدث أزمة لتعدد النجوم.. دويدار يفاجئ لاعبي الأهلي بهذا التصريح    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجارب لأنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    «أوقاف شمال سيناء»: عقد مجالس الفقه والإفتاء في عدد من المساجد الكبرى غدًا    تكريم حنان مطاوع في «دورة الأساتذة» بمهرجان المسرح العالمي    الخارجية الأمريكية: لا علاقة لصفقة المعادن بمفاوضات التسوية الأوكرانية    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    حبس المتهمين بسرقة كابلات كهربائية بالطريق العام بمنشأة ناصر    في ظهور رومانسي على الهواء.. أحمد داش يُقبّل دبلة خطيبته    الضباب يحاوط الأسواق.. تأثير النزاع بين الهند وباكستان على الاقتصاد العالمي    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    تبدأ 18 مايو.. جدول امتحانات الترم الثاني 2025 للصف الرابع الابتدائي بالدقهلية    حملات تفتيش مكثفة لضبط جودة اللحوم والأغذية بكفر البطيخ    تسلا تضيف موديل «Y» بنظام دفع خلفي بسعر يبدأ من 46.630 دولارًا    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    جامعة المنصورة تمنح النائب العام الدكتوراه الفخرية لإسهاماته في دعم العدالة.. صور    كيفية استخراج كعب العمل أونلاين والأوراق المطلوبة    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    الأهلي يتفق مع جوميز مقابل 150 ألف دولار.. صحيفة سعودية تكشف    خبر في الجول - أحمد سمير ينهي ارتباطه مع الأولمبي.. وموقفه من مباراة الزمالك وسيراميكا    طلب مدرب ساوثهامبتون قبل نهاية الموسم الإنجليزي    بوتين وزيلينسكى يتطلعان لاستمرار التعاون البناء مع بابا الفاتيكان الجديد    زيلينسكي: هدنة ال30 يومًا ستكون مؤشرًا حقيقيًا على التحرك نحو السلام    موعد نهائى الدورى الأوروبى بين مانشستر يونايتد وتوتنهام    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    مصطفى خليل: الشراكة المصرية الروسية تتجاوز الاقتصاد وتعزز المواقف السياسية المشتركة    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صراع الأجيال (1-4)

كنت أتكلم مع صديقى الكبير الأستاذ السيد يسين، عن جيله وعن جيلى، عن جابر عصفور والثقافة وما حدث ويحدث فى ساحاتها، غير الطاهرة. وفجأة، وسط جدل كثيف، قال يسين بحسم: الصراع على المكانة.
كان يسين يستعير من مفكر فرنسي، وكنت أستعير الوقائع مما حدث لى ولجيلى ممن يكتبون قصيدة النثر. ثم تنهدت، فالمقولة تلخيص جيد لتلك الظلال بين الابن وأبيه ..لمواهب بليت على عتبة الانتظار،ولم تكن تطمح لأكثر من الاعتراف، غير أن الآباء، بعد أن كفت أرجلهم عن المشي، راحوا يقفون أمام أى خطوة يمكن أن تمنحها السماء لأبنائهم فى مواجهتها.
لكن من يمكنه أن يتوقى مكر التاريخ؟ لقد بدأ العقاد مجدداً وانتهى حجر عثرة، بينما وصل صوت صلاح عبدالصبور إلى أبعد مما أراد صاحبه.
يمكنك إذن أن تتخطى أباك، أو حتى أن تقتله مجازا، إذا كنت مختلفاً عنه وعن أى واحد آخر. هذا هو نقوطك فى حصالة الصراع.
حقيقة أخري، غير أن الصراع أمر واقع وأن الصوت المنشق غالباً ما يكون واثقاً من وصوله إلى المستقبل، هى أن صراع الأجيال الدائر كالدوامة، بحمولاته الطبقية والاجتماعية، لا ينعكس، بأوضح ما يكون، إلا فى الأدب.
وعليه نفتح هذا الملف مع الروائيين والشعراء وكتاب القصة والنقاد، لا كموضوع للبحث، بل كمناسبة لدعم الواقفين على العتبة.

إبراهيم عبدالمجيد:نسخ لا نفي
فى عالمنا العربى عامة، وفى مصر خاصة، تحتل مسألة الأجيال العناوين البارزة فى الدراسات النقدية. ومصر لها الريادة . إذا كانت هناك ريادة فى ذلك! أعنى التقسيم إلى أجيال. ففيها تقرأ دائما عناوين تحمل مصطلحات جيل الستينيات وجيل السبعينيات وجيل التسعينيات.
وعندما تسأل عن جيل الثمانينيات تسمع من يقول إن هذا الجيل يقع فى المنطقة الرمادية. وبالطبع لم نسمع حتى الآن مصطلح جيل العشرة الأولى من الألفية الثالثة ولا جيل العشرينيات التى بدأت منذ أربع سنين!
لا أصادف هذه المسألة فى الدراسات النقدية العربية المعنية ببلادها إلا نادراً فى بعض الدراسات السورية أو المغربية لكنها ليست بالاتساع المصرى. وهذا أمر طبيعي, ففى رأيى أن هناك خصوصية للبلاد العربية تتجلى فى منجزاتها الأدبية والفنية ، رغم شعارات القومية التى سادت فى السياسة منذ الخمسينيات.
إن ما يجمع بين الآداب العربية، بالأساس، هو اللغة التى تكتب بها الأعمال الأدبية أكثر من الموضوعات، أعنى طرائق الكتابة والتشكيل الأدبى. وهذا الملمح الأخير يمكن أن يكون ، بل هو كذلك فعلاً، ملمحاً عالمياً، أو يسعى أن يكون كذلك، أى غير منفصل عما يحدث فى العالم من تغير فى الكتابة الأدبية.
وهكذا أرى أن تقسيم الأجيال فى مصر وفقاً للسنوات العمرية أمر شكلى ساذج قد يصيب مرة لكنه خطأ دائم وشائع أساسه استسهال الدراسة وخاصة فى الجامعات . ليس لأنه قد استقر العرف على أن عمر الجيل خمس وعشرون سنة من الزمان، وهم يقسمونه بالعشرات، لكن لأن التحولات الأدبية والفنية ترتبط بالأساس بالتحولات الكبرى فى الحياة.
ففى مصر مثلاً يمكن أن يكون عصر الخديو إسماعيل بداية مرحلة جديدة من التمهيد للتطور فى كل شيء بعد كثافة البعثات الأجنبية، وبعد ما جرى لمصر من تحد فرضه الاحتلال البريطانى عام 1882. لكن التحول الأبرز كان بعد ثورة 1919. وهنا يمكن أن يقال: جيل ثورة 1919 علامة على الانطلاقة الأدبية التى ظهرت مع جيل جديد يحاول أن يؤسس للأشكال الأدبية على نحو أكثر تقدماً ومواكبة لروح العصر فى الشعر والقصة والرواية والمسرح والفنون التشكيلية.
وبعدهما فى الخمسينيات صار التجديد علامة كبيرة فى معظم الأقطار العربية التى كان بعضها قد حصل على استقلاله من الاحتلالين البريطانى والفرنسى أو استقرت فيه نظم الحكم. لذلك يمكن أن يقال جيل مابعد الحرب العالمية الثانية وتحته تنطوى كل ثورات العالم العربى بما فيها ثورة 1952، التى رغم شعاراتها السياسية فتحت باب الثقافة أكثر على التغيرات الأدبية فى العالم التى وجدت لها مكاناً أكثر مما وجدت الواقعية الاشتراكية التى لم تنتج فى مصر غير أعمال لم تجد رواجاً كبيراً بين القراء لضحالة أكثرها وخطابه المباشر.
نجد بعد ذلك فى الستينيات حركة تجديد كبيرة، أصلها عدم التوافق مع الأقانيم السياسية الجامدة وروافدها الاحتجاجات التى تقريبا شملت أوروبا عامة وفرنسا خاصة ، وفى عالمنا العربى كانت هزيمة 1967 أيضاً رافداً لها, للرفض السائد للأشكال الأدبية الذى هو فى رأيى شكل من أشكال الثورة يصنعه الأدباء والفنانون. وشمل هذا التجديد بصفة خاصة القصة القصيرة والشعر. بعدها لم يتوقف التجديد الأدبى والفنى فى العالم العربى كله حتى الآن .
واحتلت الرواية مكانها الأكبر منذ السبعينيات، ولهذا تفسير بسيط جداً: أن الأحداث صارت مثل الانقلابات فى العالم وصارت الرواية هى الأنسب لرواية مايحدث أو ماحدث من قبله . لم يعد العالم كما كان من قبل فى أوروبا وفى أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتى وأمريكا اللاتينية وبالطبع مصر والعالم العربى الذى يتحول انتصاره فى أكتوبر إلى هزائم سياسية واجتماعية واقتصادية وخاصة فى مصر
. بل تقدمت الرواية كل الأشكال الأدبية منذ ذلك الوقت, وبسرعة تصدرت المشهد الأدبى كله . وهكذا يمكن أن نجمع السبعينيات مع الستينيات فى بداية واحدة لأنه فى الرواية اشترك الجميع . ويمكن للنقاد أن يجدوا لنا مسمى نقدياً ما, مثل جيل مابعد 1967 على سبيل المثال. وفى هذا لايعلو صوت الأدباء، بل بهدوء يفتحون الباب لموضوعات لم تكن مطروحة من قبل ويحتل منها المكان مساحة كبيرة وتشيع بينها حرية الخيال.
لكن تظل فى مصر حكاية التقسيم الذى اعتمد العشر سنوات علامة فارقة بينما تستطيع أن تجد بسهولة جداً روابط بين الكتاب الأكبر سناً الذين بدأوا بعد 1967 مع الكتاب الأحدث سناً الذين يكتبون حتى الآن. فكل ما قيل فى الموضوع مثلاً عن الكتاب الشباب إنهم كسروا التابوهات وكتبوا عن المهمشين تجده عند كثير من كتاب مابعد 1967. لايعنى هذا أن الأحدث سناً لم يقدموا جديداً لكن يعنى أن ما كانت له مساحة صغيرة عند الأكبر سناً، صارت له مساحة أكبر بسبب كثافة أعداد الكتاب الجدد .
حتى بعد أن ظهرت أعمال تستلهم الميديا الجديدة.. الإنترنت , بشّر البعض بسرعة بكتابة جديدة لكنها لا تستطيع حتى الآن أن تكون نهراً أدبياً, رغم أنى ،وأنا طبعاً من جيل قديم، أسهمت فيها برواية فى كل أسبوع يوم جمعة, ولم أعد إليها لأنى اكتشفت أنها لاتعطيك أى إمكانات متجددة فى التشكيل الأدبى أكثر من مرة بالنسبة لى على الأقل.
وهكذا سكت التبشير بكتابة جديدة بنت الميديا الجديدة، وفى مصر مثلاً لا تجد أكثر من ثلاثة أو أربعة أعمال حتى الآن لكل من الكتاب الشباب .
هل يعنى ذلك أنه لاجديد؟ لا. هناك دائماً جديد, لكن الحقيقة أن هذه الجماعات هى موجات متتالية لحركة التجديد التى بدأت على نطاق واسع منذ الستينيات . حتى الستينيات كانت بشائرها من قبل فى يحيى حقى ويوسف الشارونى وإدوار الخراط وبدر الديب وغيرهم. جيل الستينيات كان الأوفر حظا، لأنهم كانوا قلة وظهروا بعد الهزيمة, فكان هناك من يسمع وكانت فى العالم كله حركات شباب ثورية كبيرة، لكن الستينيات تحولت إلى أسماء تجمع الجيد مع الرديء. يكفى أن تقول جيل الستينيات لتقول فلان وفلان وفلان رغم الاختلاف فى القيمة بينهم .تحول الأمر إلى استسهال فى البحث وللأسف أُخرِج من بينهم كتاب كبار. تحول الأمر الى أسماء رغم الفارق بينها, ولم يستمر كما بدأ: تحولاً فى الأشكال الأدبية, وقيمته جاءت من ذلك.
لكن ألم يحدث تغير كبير فى مصر مثلاً وفى العالم العربى الآن؟ حدث طبعاً . وهو ثورات الربيع العربى ,التى لابد أن تصنع جيلاً جديدا,ً جيلا لم تظهر ملامحه النهائية بعد وإن ظهرت تجلياته فى بعض الفنون الأكثر والأسرع استجابة مثل الرسم على الجدران (الجرافيتي) والأفلام التسجيلية والروائية القصيرة والغناء والموسيقى والشعر العامى.
وهكذا يمكنك أن تقول إن مسالة الجيل، فضلاً عن الصراع البيني، تتشكل الآن بعيداً عن العمر, شأنها دائماً, رغم التقسيمات الساذجة القديمة . ويمكن جداً أن نجد كتاباً كباراً يستلهمون روح هذه الثورات، فى انتصاراتها أو هزائمها جنباً إلى جنب مع الشباب الذين سيكونون الأكثر عدداً والذين سيكون لهم يوما ملامح يقع عليها النقاد. وحتى إذا استثنوا الكبار منها فلن يكون الأمر معيباً، لأن للكبار إسهاماتهم السابقة. وفى النهاية الأجيال بنت الأحداث الكبرى وليست كل عشر سنين. ورغم أنها بنت الأحداث الكبرى فلا جيل ينفى ماقبله . أنت تقرأ توفيق الحكيم ونجيب محفوظ كما تقرأ أياً من الشباب أو متوسطى العمر أو حتى الكبار أحياء وموتى . هناك فى الأدب نسخ ولايوجد نفى. والمهم ليس الجيل بقدر الموهبة. فكم كاتباً كتب بعد ثورة 1919 مثلا, لكن من منهم عاشت كتابته؟ وكم كاتباً كتب بعد الحرب العالمية الثانية وكم منهم عاشت كتابته؟ ويظل دائماً هناك فارق بين الأجيال هو قدرة أى جيل جديد على تقديم شكل جديد .قد تكون له أجنّة سابقة عند غيره، لكنها هنا تظهر ميلاداً كاملاً. هذا لايحدث كل عشر سنوات.. إحنا مش فى طابور مستشفى.

محمد إبراهيم طه:دورة حياة
لا أبدو على الشكل الموضوعى مقتنعاً بشكل كامل بمصطلح صراع الأجيال, ولا يبدو المصطلح موجوداً بالصورة التى يروج لها فى الواقع الأدبى المصري. وربما يروق لى فهمه أكثر فى إطار بحث الكاتب المشروع عن موطئ قدم داخل المشهد الأدبي، خلال قوس من أقواس دورة حياته الإبداعية، ومعرفته أين يقف وما الذى عليه أن يقدمه، والممكن تقديمه، سعياً إلى بلوغ منزلة متقدمة فى المشهد الأدبى المحلي، والبحث بالمثل عن موطئ قدم فى المشهد الأدبى العربي، ثم العالمي.
ما أقصده يبتعد قليلاً عن فكرة الصراع، والخصومة التى تنتهى بإزاحة أو نفى أحد الطرفين للآخر، لكنه يقترب أكثر من فكرة المصالحة، والتسامح والقبول والتعايش، ويبدو المصطلح حاجة إنسانية ومشروعة، يعضدها ما نراه من علاقات الصداقة بين أدباء من أجيال مختلفة.
تبدو إذن، فى حالة الكتابة الأدبية التى هى فعل فردي، فكرة تسليم الرايات من جيل إلى جيل، أكثر إنسانية من فكرة الاقتناص التى تصور جيلاً يسعى لإزاحة جيل سابق والجلوس مكانه، ليمارس أول ما يجلس نفس ما كان يفعله الجيل السابق، فى الاستعداد للدفاع عن نفسه ضد جيل قادم، لأن فكرة التسليم والتسلم تحمل فى داخلها معنى التعايش والتجاور والتأثير والتأثر، والتعاقب الذى ينتهى مع دورة الحياة الإبداعية بتسليم الراية.
ومن ثم يمكن فهم ما يحدث من تفاعل بين الأجيال الأدبية، وبين أدباء الجيل الواحد على أنه ظاهرة إنسانية عامة، لا ترتبط بمجتمعات متخلفة أو متقدمة، فيها نزوع إنسانى ومشروع نحو حيازة مكان واضح فى المشهد الأدبى معتمداً بشكل أساسى على طاقات إبداعية حقيقية، تعزز ظهورها أو تبطئ من تقدمه ظروف خارجية، تاريخية وجغرافية.
وإذا كان الصراع, بالشكل الذى يروج له، فكرة مقبولة، يتمترس خلفها كل من لا يجد له مكاناً فى المشهد الأدبي، من مغامرين ومظلومين ومنبوذين ومجربين، فإنه أيضاً فى الوقت نفسه يصلح شماعة براقة، يعلق عليها الكسالى وقليلو الموهبة فشلهم، أو توقفهم عن الإبداع الذى هو نشاط فردي، لا يعوقه عائق.
أخشى أن أقول إن ظاهرة صراع الأجيال غير موجودة، إنما هى دورة حياة إبداعية، تماماً كدورة الحياة البيولوجية، يمر بها كل كاتب، فى أولها اندفاع ونزق وطاقة وعدم خبرة وفى نهايتها التروى والكهولة والحكمة، يبدأ الكاتب محلقاً ومتمرداً ومجرباً، ثم يعدل بعد فترة عن التجريب ويصير كلاسيكياً. من ثم لا يبدو غريباً أن يبدأ محمد المخزنجى مشواره القصصى بالقصة القصيرة جداً فى الآتى ورشق السكين، ثم يعدل بنفسه عنها ويعود إلى القصة الطويلة فى الموت يضحك وأوتار الماء، بينما يعيد شباب الكتاب الآن المجد للقصة القصيرة جداً، وسوف يقلعون عنها بعد سنوات، أو يبدأ عبده جبير تجريبياً وغامضاً وصعباً ثم ينتهى واضحاً وكلاسيكياً، أو ينتهى المنسى قنديل بروايات تتجاوز الخمسمائة صفحة البر الغربي، وأنا عشقت بعد أن كتب الرواية القصيرة، أو يكون حجازى الذى بدأ قصيدة التفعيلة هو نفسه الذى رفض فى القوس الأخير من دورة حياته الإبداعية قصيدة النثر، ويستشهد فى جل مقالاته فى الأهرام بأبيات من الشعر العربى القديم الذى ثار عليه.
إنها دورة الحياة، البيولوجية، والفنية، والإبداعية، التى فى قوسها الأول يكون الكاتب مختلفاً عنه فى قوسها الأخير. وفيما يتماس أو يتقاطع الكتاب فى أقواس مختلفة من دوراتهم الإبداعية، ولا يتولد بالضرورة عن ذلك التماس صراع الأجيال، وغالباً ما ينشأ عنه تجاذب، وافتتان متبادل، وصداقة، واحتضان وتبَنّ.
بعيداً عن المؤثرات الخارجية على المشهد الأدبي، يظل البقاء داخله مرهوناً بالموهبة، وما ينجزه الكاتب من إبداع، وتصدر المشهد الأدبى لا يخضع لشروط العدالة الاجتماعية، ولا التمثيل النسبى للمركز والأطراف، ويمكن لعشرة موهوبين من منطقة واحدة وجيل واحد ونوع أدبى واحد أن يتصدروا المشهد بناء على قيمتهم الأدبية وقيمة ما يقدمونه من إبداع، كما يمكن أن يظل المشهد فارغاً سنوات، ما دامت لا تتوافر الكتابة الجميلة التى تمتلك شروط البقاء.
وقد تلعب المؤسسة الثقافية، عامة أو خاصة، والأنظمة السياسية، دوراً سافراً فى تأجيج هذا الصراع بين أدباء من الجيل نفسه، أو بين أجيال مختلفة، أو تهدئته، أو ضبط مساره أو تحويله، من خلال النشر والدعاية والترويج لاتجاهات أدبية بعينها أو أسماء بعينها، والجوائز (الرسمية والخاصة) والمؤتمرات الأدبية، والتمثيل فى الوفود المتبادلة.
أرى أن ما يطلق عليه صراع الأجيال الأدبية يبتعد كل البعد عن نطاق الإبداع الحقيقي، ويمكن حصره فى اختلافات فكرية أو أيديولوجية، أو خلافات شخصية على نشر قصة أو رواية، أو اختلاف حول الجوائز والتكريمات الأدبية وما يشوبها من مجاملات أو عدم عدالة، أو فى صراعات على مناصب فى المؤسسة الثقافية أو عضوية لجان، أو التمثيل فى مهرجانات أو مؤتمرات، وكلها متغيرة بتغير الأشخاص والمؤسسات التى تمنح والتى تبحث عن المنح.
ورغم أنها مشكلات أزلية، ولا يمكن تلافيها، فإنها تدخل من المؤكد فى نطاق الصراع على المصالح، وتظل بعيدة كل البعد عن ظاهرة صراع الأجيال إبداعياً بمعناها المطروح والتى هى نادرة الحدوث، وتحدث على فترات متباعدة، مفصلية، وترتبط بظروف خارجية وتحولات سياسية واجتماعية كبيرة، ولا يمكن تطبيقها محلياً على الأجيال الأدبية المتتالية، الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، هذه الأجيال التى قد ينظر إليها كحلقة واحدة فى تاريخ الرواية المصرية والعربية, بملامح عامة تنبثق عنها سمات خاصة لكل جيل، تنبثق من كل جيل سمات خاصة لكل مبدع، تميزه عن مبدع آخر من الجيل نفسه.
لم ألمس صراع الأجيال بشكل شخصي، لا من أحد سبقنى ولا من أحد لاحق. وأنا لا أتصور أن أصارع يوسف إدريس مثلاً، أو إبراهيم أصلان أو يحيى الطاهر عبد الله, وبداخلى قبس منهم، لست وحدى بالتأكيد فى هذا الصدد، لكن كل الأدباء كذلك، فجيل الستينيات فى القصة والرواية، وكلهم كتاب كبار لم يعلنوا القطيعة مع نجيب محفوظ، ولا يوسف إدريس، وكلهم برعوا فى كتابة الرواية، وحاولوا أن يصنعوا لأنفسهم مساحة فى وجود نجيب محفوظ، فارتادوا بها مناطق لم يرتدها الجد نجيب محفوظ، فأخذها كل فى اتجاه، بعضهم أخذها إلى التراث والتصوف، وبعضهم أخذها إلى الهامشى والشعبى والريفي، وبعضهم إلى السياسى والإنساني، وبعضهم إلى الأيديولوجيا، ولم يعلن أحد من هذا الجيل القطيعة مع الأستاذ، باستثناء محمد حافظ رجب، صاحب الصيحة المشهورة: نحن جيل بلا أساتذة، وكتب القصة بطريقة مغايرة، ولم يكتب الرواية، ثم جاء جيل السبعينيات فى الرواية، فلم يعلن القطيعة مع من قبله.
من جانبى أحتفظ بتقدير لجيل الستينيات، جيل الآباء، واستفدت من تجاربهم جميعاً، وأنا بدأت الكتابة مع ندوة الروائى محمد جبريل فى المساء فى منتصف الثمانينيات، و من نشر لى مجموعتى الأولى توتة مائلة على نهر محمد البساطي، ولم يكن رآني، كما أشاد بأعمالى الأساتذة بهاء طاهر وجميل عطية إبراهيم وعلاء الديب وإبراهيم عبد المجيد ومحمد جبريل ومحمد المخزنجى ومحمود الوردانى ويوسف أبو رية وآخرون، ولم أستشعر من أحد ممن قدمونى إلى الحياة الأدبية إحساساً بأن وجودى أو وجود أحد من جيلى قد يتعارض مع وجودهم، تماماً كما أحمل العلاقات نفسها لأدباء من جيلي، وأتعاطى مع الجيل الذى جاء من بعدى بنفس المعايير، ودون صراع أجيال، مع احتفاظى بحالة من التنافس المشروع، للبقاء فى المشهد الأدبى بالاجتهاد ما استطعت, لتقديم مشروع أدبى واضح الملامح ينهض على رواية مختلفة على مستوى الموضوع واللغة، اختلافاً من داخل النوع الأدبى وليس من خارجه.
إن الملامح المشتركة بين الكتاب من الأجيال المتعاقبة أكثر بلا شك من ملامح الاختلاف، الأمر الذى يؤكد أننا إزاء أبناء قبيلة واحدة، يحتفظ كل من أفرادها بسمات تخصه, جنباً إلى جنب مع السمات الكلية العامة التى تجمعهم كقبيلة أدبية روائية مصرية. يعزز هذا التصور أن العلاقات التى تربط الأدباء بعضهم البعض من أجيال مختلفة، هى علاقات صداقة، وتأثير وتأثر، أكثر جدا من كونها علاقات صراع أو خصومة طوال الوقت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.