أصبحت كلمة «حصريا».. تحاصرني، أينما تحركت بين القنوات، والشاشات والمحطات.. أفلام، إعلانات، أغنيات، برامج، سهرات، حورات، حفلات، عروض، مهرجانات الدوري الإنجليزي في كرة القدم، مسابقات تلعب علي وهم الرغبة في التربح والثراء بمجرد الضغط علي بعض أرقام الهاتف المحمول، وغيرها من المواد الإعلامية، أرضية، وفضائية. «حصريا».. علي هذه القناة «حصريا».. علي هذه الشاشة «حصريا».. علي هذه المحطة «حصريا».. كلمة اقتحمت، القاموس اللغوي والأبجدية الإعلامية واللغة المرئية التي اعتدنا عليها، زمنا طويلا. «حصريا» تعني بها ، إحدي المحطات، أو القنوات ، أنها هي فقط «المتحكمة» المسيطرة «المهيمنة» علي بث وعرض ، مسلسل ما، أو حوار ما. كلمة «حصريا»، تعتقد محطة ما أو قناة ما أنها تجذب عددا أكبر من المشاهدين والمشاهدات وتثبت جدارتها، ونجاحها وتفوقها، علي المحطات أو القنوات الأخري المنافسة. هذا الوضع «الحصري» للمواد المرئية هو وضع إعلامي وأسلوب ثقافي وليس مجرد «طريقة اقتصادية» ل زيادة الأرباح. إن كلمة «حصريا» لا تبيع للناس البث المرئي الذي تم احتكاره اقتصاديا فقط ، لكنها تبيع أيضا في اللحظة نفسها، وهم التفرد والاختلاف والتميز. إن المشاهد مثلا للدوري الإنجليزي ، في كرة القدم الذي تعرضه «حصريا» إحدي المحطات يشعر بالفخر.. ويشعر بأنه مستهلك، مختلف، ومتفرد، ومميز، حيث خصته المحطة بإمكانية الفرجة. والمشاهدة، مثلا، لمسلسل لايتاح عرضه ، إلا في قناة ما بشكل «حصري» تحس بأنها بالضرورة في مكانة أكثر تميزا. بالضبط كما هو الحال، مثلا، في الأندية الرياضية التي يحظر دخولها إلا بالكارنيه الذي يثبت العضوية الخاصة.. «الدخول حصريا للأعضاء والعضوات فقط». بالطبع أصحاب العضوية، تلك الفئة المحظوظة، التي أمكنها الاشتراك في نادٍ «خاص».. «حصري»، يشعرون بالزهو والتميز عن «العامة». «حصريا»، تداعب أوتار حب التميز «الفطري» لدي البشر. حتي لو كنا مثل الآخرين فإن في أعماقنا حقيقة لا نستطيع إخفاءها أو إنكارها وهي الاشتياق الدائم للاختلاف.. ولو كان مجرد مشاهدة لمسلسل لايتاح للعامة علي المشاع. إن فلسفة الإعلانات كلها مؤسسة علي هذه الحقيقة.. «الرغبة في الاختلاف»، و«حب التميز» وعشق «التفرد». هذا إعلان، مثلا، عن «شامبو» جديد يطرح في الأسواق وينادي عملاءه «شامبو يجعلك مختلفا». أو مثلا، إعلان عن ماركة سيارة، يقول: «سيارة لمن يعشق التميز». إنها إعلانات تبيع الأكاذيب، وتروج للأوهام باللعب علي حلم لا يتحقق من أجل الفلوس. وأنا لا أقصد أن الاختلاف والتميز والتفرد أحلام مستحيلة، لكنني أقصد أن الاختلاف والتميز والتفرد رغبات وأحلام تحتاج إلي أكثر من استخدام شامبو معين، أو اقتناء سيارة معينة، أو مشاهدة حفلة غنائية «حصريا» علي قناة معينة. لو الشامبو أو مسحوق غسيل أو زيت للقلي بيحقق الاختلاف والتميز والتفرد «مكنش حد غلب». نعم، هي اختلافات، لكنها اختلافات في الشكليات والقشور والمظاهر والاستهلاكية، وبالتالي فهي اختلافات خادعة مزيفة كاذبة، تهدف إلي المزيد من الاستهلاك وإهدار الفلوس وتشويه معني الأشياء وإحلال الأوهام بدلا من الحقيقة. ولهذا السبب ،فإن مجتمعاتنا «حصريا» تتمتع بهذه المفارقة المأساوية وهي أن هناك الآلاف من النساء والرجال الذين يستخدمون أنواعا مختلفة من الشامبوهات ومساحيق الغسيل وماركات العربيات وزيوت الطبيخ ومنتجات الألبان، لكنهم يستخدمون الأنواع نفسها من طريقة التفكير ونمط السلوكيات في الشوارع وفي البيوت، ويعتقدون في الأشياء ذاتها. إن كلمة «حصريا»، التي تحاصرني أينما تحركت بين القنوات والشاشات والمحطات تحمل في «جوهرها» الرسالة نفسها، التي تحملها إعلانات السلع الاستهلاكية وتلعب علي نقطة الضعف لدي الإنسان أن يكون مختلفا متفردا ومميزا، وإن كانت كاذبة خادعة. قد تكون كلمة «حصريا» مصطلحا إيجابيا حين يقول رجل عاشق لحبيبته «أحبك بشكل حصري».. وحين تعبر امرأة عاشقة عن علاقتها العاطفية «أنها عاطفة حصرية».. أو «حب حصري» أي أن كلا منهما قد استحوذ تماما علي عواطف الآخر وأن كل طرف قد احتكر حب الآخر، لا مكان لامرأة أخري ولا مكان لرجل آخر.. فقط، في هذه الحالة، أو حصريا في هذه الحالة، أؤيد تعبير «حصريا» لأن الحب الحقيقي الصادق بالضرورة حب «حصري» هو خاص جدا. أو أعلي نقطة في الخصوصية وليس مشاعا لكل مَنْ هب ودب. فقط في حالة الحب، أعلن بكل زهو: «لو لم أكن حصرية ل وددت أن أكون حصرية». من بستان قصائدي كل يوم أطوي صفحة جديدة من موسوعة أحزاني يوم يأتي الحزن ضربات من النار ويوم يأتي طعنات خنجر من وراء الستار ويوم يأتي شهقة انتخار كم سأطوي من الصفحات؟ وكم سأتلقي من ضربات وطعنات؟