تاريخ رئيس الوزراء التركى الملقب ب«الثعلب المكار» يقول إنه يسعى لإنهاء الدولة العلمانية التى خلقها «الذئب الأغبر» أتاتورك منذ87 عاماً فمن ينتصر فى النهاية ؟ بدعوة من الهيئة الإنجيلية القبطية لحضور ندوة تنظمها دار الندوة الدولية - بيت لحم - حول العلاقة بين الدين والدولة ودور الإعلام فى تسيير هذه العلاقة طرت إلى اسطنبول فى مارس الماضى، ورغم أن جلسات الندوة استغرقت أغلب نهارات اللقاء فقد اقتنصت يوما للتجول فى اسطنبول القديمة وزيارة الأماكن الأثرية التى أعشقها، ولابد من الاعتراف بأن الفضل فى هذا كان للسفيرة المصرية منى مصطفى عبده التى أصرت على تكليف اثنين من موظفى السفارة لاصطحابى فى أنحاء اسطنبول القديمة. تلك الجولة التى استغرقت نصف نهار أثارت كوامن ذكرياتى وجددت عشقى لتلك المدينة، وكانت زياراتى المتكررة لتركيا فى الثمانينيات من القرن الماضى قد منحتنى كتابا أعتز به ضمنته انطباعاتى الأولية حول ذلك البلد العريق الذى لم يكن يخلو من الانبهار والدهشة، تركيا هذه الأيام تختلف كثيرا عن تلك التى زرتها لأول مرة عام 1979، فى نهاية فترة عصيبة من الصراعات المسلحة التى كادت تقضى على زهرة الشباب التركى، وانتهت بانقلاب عسكرى قاده الجيش التركى الذى ظل منذ عام 1980 يحكم قبضته على تركيا بدعوى حراسة العلمانية. ورغم التطور الكبير فى الأماكن الأثرية وإحاطتها ب «بانوراما» تسر العين وتسهل على السائح التجول، فقد هالنى الزحام الشديد فى اسطنبول، فمثلما يحدث فى مصر، يتدفق آلاف المواطنين الأتراك على اسطنبول بحثا عن لقمة العيش والحياة الأفضل، رغم أن اسطنبول ليست العاصمة السياسية، ولكنها عاصمة الثقافة العثمانية والمعاصرة بل والأوروبية «عام 2009»، وقد حباها الله بموقع فريد وجمال طبيعى آسر، يحتضنها مضيقا البوسفور والدردنيل وبحر مرمرة - التى تصل البحر الأسود ببحر إيجة وتصل آسيا بأوروبا. ولا يمكن أن تتجول فى شوارعها العريقة دون أن تتذكر السلطنة العثمانية التى عاشت أكثر من ستة قرون من 1299 إلى 1923 وجعلت العثمانيين القوة المهيمنة على العالم الإسلامى ووصلت جيوشهم إلى جنوب شرق أوروبا وغربى آسيا وشمالى أفريقيا. يبدو أن رئيس الوزراء الحالى ثعلب السياسة التركى «رجب طيب أردوجان» يحلم باستعادة تلك الأمجاد، ويسعى حثيثا إلى إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، إلى تركيا الإسلامية، وحلم الخلافة ليس ببعيد عن مخيلته فقد نشأ وترعرع فى أحضان حزب الخلاص الوطنى بقيادة نجم الدين أربكان فى نهاية السبعينيات، الذى ألغاه الانقلاب العسكرى عام 1980، مع إلغاء جميع الأحزاب، ثم بعد عودة الحياة الحزبية إلى تركيا عام 1983 انضم أردوجان إلى حزب الرفاه الذى رشحه لمنصب عمدة اسطنبول عام 1994، وفى عام 1998 وقف أردوجان يتلو أبياتاً من الشعر التركى تقول: مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرص ديننا. وهى أبيات تصلح لأن تكون شعاراً لأكثر الجماعات الإسلامية تشددا، ولطالبان وجماعة القاعدة، هذا هو فكر أردوجان الذى ساقه إلى المحاكمة والسجن لمدة ثلاث سنوات بتهمة التحريض على الكراهية الدينية، ومنعه من العمل فى الوظائف الحكومية ومنها الترشيح للانتخابات العامة. ولم يظهر ما يبشر بأى تراجع لأردوجان عن مبادئه التى تتخذ من الدين سلاحا للسيطرة على الدولة، فما أن صدر قرار بحظر حزب الفضيلة حتى انشق عليه مع عدد من الأعضاء منهم أردوجان وعبدالله غول وقاموا بتأسيس حزب العدالة والتنمية عام .2001 من الطبيعى أن يسعى أردوجان لتحقيق حلمه، وقد أتيحت له الفرصة منذ أن فاز بمنصب رئيس الوزراء، فبدأ يسعى لتحقيقه بهدوء وصبر عجيبين، وقدرة خارقة على إرضاء أو إخراس جميع المعارضين، وكأنه أخطبوط امتدت أياديه لتصافح الجيش والقضاء والأحزاب التركية، والأرمن والأكراد، إضافة إلى الاتحاد الأوروبى الذى يرقب باهتمام شديد كل التطورات فى دولة تسعى بلا كلل للانضمام للاتحاد. ما يفعله أردوجان فى تركيا اليوم ثورة على كل ما فرضه عليها أتاتورك الذى كان يطلق عليه لقب الذئب الأغبر، لقد وجد الذئب الأغبر من يتصدى له أخيرا، ثعلب ماكر يجيد فنون الكر والفر، ولا يستسلم، بل يعيد المحاولة مرارا وتكرارا. وتاريخ رجب طيب أردوجان يعضد شكوك الكثيرين فى أنه يسعى لتحويل تركيا إلى دولة إسلامية وإنهاء العلمانية التى خلقها أتاتورك وحافظ عليها الجيش لمدة 87 عاما هى عمر الجمهورية التركية التى ولدت عام 1923، ومنذ أن ظهر على المسرح السياسى، ومعه زوجته المحجبة، التى اقتدت بها العديد من الفتيات، صعدت إلى السطح مشكلة الحجاب ومازالت مطروحة للنقاش لم تحسم بعد، ومؤخرا منعت المدارس التركية الطالبات المحجبات من دخول قاعات الامتحانات، وحاولت بعض الطالبات التحايل على ذلك الموقف المتعنت بارتداء باروكة تخفى الشعر، أجازها بعض الشيوخ فى تركيا، ولكن المسئولين فى المدارس منعوا الطالبات المرتديات للباروكة من أداء الامتحانات. وكان أردوجان قد حاول منذ أن تولى السلطة السماح للطالبات بارتداء الحجاب داخل الجامعات الحكومية، لكنه لم يلق تأييدا كافيا فى البرلمان، ولم ييأس - كعادته - ففى التعديلات الدستورية المقترحة التى يناقشها البرلمان التركى حاليا وضع المادة رقم 10 والتى تنص على مبدأ «المساواة أمام القانون» وتقول أنه: «يجب ألا تفسر الإجراءات التى تتخذ، على نحو يتعارض مع مبدأ المساواة»، وهو ما يفتح الأبواب على مصاريعها لانتشار الحجاب. ومعروف أن الأحزاب الدينية تدعو بقوة إلى تحجيم النساء وفرض الحجاب عليهن مع إنكار حقوقهن فى تبوؤ الرئاسة بحجة أنها ولاية عامة، باختصار، إذا أفلح أردوجان فى تحقيق حلمه وتحويل تركيا إلى دولة دينية فسوف تعود المرأة التركية إلى مرحلة ما قبل أتاتورك، ومع التيربون واليشمك والبرقع.. إلخ لن نرى تانسو شيللر أخرى، تلك السيدة الجميلة التى عينت فى التسعينيات من القرن الماضى وزيرة لخارجية تركيا ثم فى شهر يونيو 1993 اختارها حزب الطريق الصحيح زعيمة له لتصبح أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء فى تركيا، وانتهت مهمتها فى يونيو 1996 عندما شُكلت حكومة إئتلافية من حزب الرفاه (الرفاهية) الإسلامى، الذى حصل فى الانتخابات العامة التى أجريت عام 1995 على أكبر عدد من مقاعد البرلمان، لكنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة إلا فى يونيو 1996 بالائتلاف مع حزب الطريق الصحيح. اكتشف أردوجان أن عدوه اللدود هو الجيش التركى، وتمكن من أن يمرر قانونا يحد من دور الجيش ويقصره على الحماية من التهديدات الخارجية بدلاً من التهديدات الداخلية المفترضة، ولم يكتف بذلك بل انتقل إلى الخطوة التالية، ففى نهاية شهر مارس الماضى دعا إلى تعديل الدستور العسكرى الذى يبلغ عمره 28 عاماً داخل البلاد وإجراء إصلاحات على 28 مادة، من بينها تشريعات تتناول مقاضاة الضباط العسكريين أمام محاكم مدنية لمساءلتهم بخصوص جرائم تتعلق بأمن الدولة والنظام الدستورى. وهكذا تخطى ثعلب السياسة التركى الخط الأحمر واخترق المحظور، كان الجيش ولايزال يحظى بعدد كبير من المناصرين الذين يرون أنه الحارس للهوية العلمانية للبلاد، ولكن بعد إلقاء القبض على ضباط كبار بتهمة المشاركة فى تنظيم سرى يعرف باسم «إيرجينيكون»، يهدف للإطاحة بالحزب الحاكم ورئيس الوزراء، أشهر أردوجان سلاح مقاومة الفساد وكشف الحجاب عن فضائح عديدة داخل الجيش، فانهارت مقاومة الجنرالات وارتخت قبضتهم على السلطة، وتشجع المعارضون وبدأت الأصوات ترتفع منددة بالنظام السياسى العسكرى الذى أسسه مصطفى كمال أتاتورك، اليوم تقرأ فى الصحف التركية، ولأول مرة منذ سنوات، مقالات تنتقد الجيش الذى طالما تمتع ضباطه بحصانة من المقاضاة، وطالما ارتكبوا وسائل إرهابية دون عقاب للإطاحة بحكومات لا تعجبهم، اليوم يحاكم الضباط أمام القضاء المدنى بتهمة إحداث فوضى داخل البلاد وأنهم كانوا يخططون لتفجير مساجد وغير ذلك من الأعمال الإرهابية. كيف استطاع هذا السياسى المحنك أن يرخى قبضة الجيش التركى وهيمنة القيادة العسكرية على البلاد التى استحوذت على الشعب على مدى العقود الثلاثة الماضية، سؤال يحتاج إلى متخصصين ليجيبوا عنه، والمصادفة إنه الموضوع نفسه الذى كنا نتحدث فيه على مدى أيام ثلاثة فى فندق شيراتون مسلك، العلاقة بين الدين والدولة، وهل يمكن إبعاد الدين عن الساحة السياسية؟ وإلى متى؟ خاصة فى دولة 99% من سكانها من المسلمين، وهيمن حكامها على العالم الإسلامى لأكثر من ستمائة عام؟ والسؤال الأخطر الذى يجب أن يشغلنا: ما هو تأثير الأحداث فى تركيا على جميع دول المنطقة.