ربع قرن منذ أن دوَّى الانفجار الأكبر فى ذاكرة العالم، لم يكن 11 سبتمبر مجرد تاريخ عابر، بل هو زلزال أطاح بيقين «الأمن العالمى» وفتح أبوابا واسعة لزمن «الإرهاب العابر للحدود». منذ ذلك اليوم صار الخوف ضيفا دائما على خرائط الدول، وتحوَّل الإرهاب من فعل طارئ إلى بنية خبيثة تتسلل إلى جسد المجتمعات والدول وتعيد تشكيلها من الداخل، ينهش المؤسسات ويشوه تعريف مفهوم الدولة ذاتها. وفيما تكفلت السنوات اللاحقة بتمزيق دول كاملة فى منطقتنا، ظلت مصر وحدها صامدة، كأنها الاستثناء الذى يثبت القاعدة؛ أن الورم يمكن استئصاله إذا توافرت إرادة لا تعرف المساومة. الإرهاب لم يكتفِ بتفجيرات متفرقة أو عمليات دموية نتابعها فى نشرات الأخبار، بل صار مشروعا متكاملا، يزرع أفكاره فى المدارس والمساجد ومواقع التواصل، ينسج تحالفات سرية مع شبكات تمويل عابرة للقارات، ويستغل كل فراغ سياسى أو أزمة اقتصادية ليبنى دولته الموازية. من بغداد إلى طرابلس، من صنعاء إلى دمشق، بدا الإرهاب كأنه القاعدة الجديدة بعد أن كان استثناء، وانتقل من الهامش ليتصدر متن الخريطة العربية. كثير من العواصم العربية وجدت نفسها، بعد سنوات قليلة من أحداث نيويورك، أمام كيان سرطانى يتغذى على أزماتها.. مدن تاريخية تحولت إلى ساحات قتال، وجيوش نظامية سقطت أمام ميليشيات تحمل رايات سوداء. وفى قلب هذه العاصفة وقفت مصر؛ الهدف الأول تاريخيا لكل موجات التطرف، من اغتيالات التسعينيات إلى التفجيرات التى تلت عام 2011، عرفت البلاد حجم الخطر وعاشت مراراته. لكن ما حدث بعدها هو ما يستحق أن يُروى؛ الدولة المصرية، بمؤسساتها الأمنية والعسكرية والقضائية، قررت ألا تكتفى برد الفعل، خاضت معركة شاملة تبدأ من الميدان ولا تنتهى عنده. فى سيناء؛ حيث توهم المتطرفون أنهم وجدوا ملاذا، أُحكمت القبضة الأمنية بعمليات متواصلة كسرت شوكة الجماعات والتنظيمات المسلحة. فى المدن والقرى، جرى تجفيف منابع التمويل، وتفكيك الخلايا قبل أن تكتمل، وعلى مستوى الأفكار؛ كانت الصحافة والإعلام تفكك الخطاب المتطرف وتفضح تلاعبه بالدين. المواجهة المصرية لم تكن أمنية فحسب، كان واضحا أن الرصاص وحده لا يهزم فكرة، لذلك توازت العمليات العسكرية مع مشروع تنموى واسع، طرق وجسور ومشروعات إسكان، استثمارات فى التعليم والبنية التحتية، وفرص عمل للشباب الذين طالما استهدفهم دعاة العنف. بهذا المعنى لم تكن المعركة ضد الإرهاب فقط حربا على الأرض، بل حربًا على الظروف التى يتغذى منها وعليها الإرهاب، لقطع الطريق على التنظيمات قبل أن تنبت لها جذور اجتماعية، فبقيت محاولاتها مجرد ومضات عابرة تُطفأ سريعا. بعد ربع قرن على «زلزال سبتمبر»، تبدو الخريطة الإقليمية شاهدة على الفارق، الخريطة تقول كل شىء؛ دول كانت تُضرب بها الأمثال فى التماسك صارت جزرًا من الدمار، وعواصم عربية فقدت مركزيتها لحساب ميليشيات أو تدخلات خارجية.. حتى القوى الدولية التى قادت «الحرب على الإرهاب» ما زالت تواجه هجمات متفرقة وفكرا مسموما يصعب اقتلاعه. وحدها مصر استطاعت أن تمنع الورم من التغلغل فى جسدها، وأن تحافظ على مؤسساتها راسخة، لا تُدار إلا من داخلها ولا يُملى عليها قرار من الخارج.. هذا ليس ادعاء انتصار نهائى، فالإرهاب بطبيعته كالماء يتسرب ويغير شكله، لكنها شهادة حية كُتبت بالحبر والحرب على أن المواجهة ممكنة حين تتوافر الإرادة والرؤية. عرفت مصر مبكرا أن الخطر ليس فى القنبلة التى تنفجر، بل فى الفكرة التى تنتشر فى الظل. لذلك ضربت الخلايا المسلحة فى مهدها، وواجهت الفكر بالفكر، وحافظت فى الوقت نفسه على هيبة الدولة ومركزيتها. التجربة المصرية تقدم درسا بليغا بأنه لا يكفى أن تعلن الحرب على الإرهاب؛ بل يجب أن تحصن البيت من الداخل، وأن يتوحد حول مشروع وطنى يتجاوز الخوف والغضب. بهذا المعنى لم تكن معركة مصر مجرد دفاع عن حدودها، بل دفاع عن «مفهوم الدولة» ذاته فى زمن هدد هذا المفهوم التطرف والفوضى.