محمد ناصر فرغل عزيرى قارئ صفحة «بين السطور» إن كنت تظن أن ما يحدث هناك لا يخصك، فهذا الكتاب سيُقنعك بأن مصيرك مرتبط أكثر مما تتصور بسياسى يجلس على بعد آلاف الأميال.. اقرأ أيضًا| ترامب يتجه لتشديد السياسة الأمريكية تجاه كوبا لكنه يضغط على أزرار فى واقعك أنت، أى إن كنت تظن أن السياسة الأمريكية مجرد عناوين عابرة فى نشرات الأخبار، ففكّر مجددًا. كتاب «صعود ترامب: تحولات السياسة الأمريكية فى القرن الواحد والعشرين» ليس فقط عن رئيس مثير للجدل، بل عن عالم يتغيّر من جذوره، عن قراراتٍ تُتخذ هناك وتُحدث صدى فى كل بيت هنا. كتاب كجرس إنذار مدوٍ، لا يمكن تجاهله .. وعن زلزال سياسى هز أركان أقدم ديمقراطية فى العالم، وترك شروخًا لا تزال تتسع. اقرأ أيضًا| ترامب يهدد بفرض رسوم جمركية 10% على الدول الداعمة لبريكس إنه كتاب لكل من يريد أن يفهم لماذا أصبح الغضب لغة سياسية، ولماذا تتحوّل الديمقراطية إلى ساحة صراع. إنه دعوة مفتوحة لاكتشاف ما وراء الكواليس، حيث تُصنع السياسات وتُعاد كتابة القواعد، اقرأه، لا لتعرف فقط ما حدث، بل لتفهم ما قد يحدث غدًا. لأن ما يجرى فى واشنطن... لا يبقى فى واشنطن. تأسيس لمرحلة عنوانها الانقسام والريبة المتبادلة من دولة تتغنّى بالتعددية إلى ساحة صراع بين التيارات الشعبوية والنخب الليبرالية «الأبيض» خائف من الغد و«الأسود» محاصر بالماضى و«المسلم» فى مرمى الشك! فى كتابه اللافت "صعود ترامب.. تحولات السياسة الأمريكية فى القرن الواحد والعشرين"، يقدم عزت إبراهيم، الصحفى والمحلل السياسى البارز، تحليلاً مُعمقًا للتحولات السياسية والاجتماعية التى شهدتها الولاياتالمتحدة خلال ربع القرن، بدءًا من أحداث 11 سبتمبر وحتى عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فى ولايته الثانية. كما يركز على صعود التيار المحافظ الجديد وهيمنته على صناعة القرار الأمريكى، ويستعرض كيف أثرت هذه التحولات على السياسات الداخلية والخارجية، وعلى القيم السياسية التقليدية فى المجتمع الأمريكى. كما يناقش أبعاد الاستقطاب الثقافى والسياسى، وتأثير الإعلام، والاقتصاد، والتكنولوجيا، وحتى الذكاء الاصطناعى فى تشكيل المشهد السياسى الأمريكى. تشريح دقيق فى هذا العمل التحليلى، لا يكتفى المؤلف بتوثيق صعود دونالد ترامب، بل يقدّم تشريحًا دقيقًا لعصر سياسى كامل يعيد تعريف مفاهيم القيادة، والهوية الوطنية، والسلطة فى الولاياتالمتحدة. بأسلوب يجمع بين الرصد الصحفى والبصيرة الأكاديمية، يرصد كيف تحوّلت أمريكا من دولة تتغنّى بالتعددية إلى ساحة صراع بين التيارات الشعبوية والنخب الليبرالية..ويقدم قراءة مُعمقة فى التحول الذى شهدته السياسة الأمريكية، خاصة مع صعود "الشعبوية والمحافظين الجدد". لكن أهمية هذا العمل لا تقتصر على الداخل الأمريكى فقط، بل تمتد لتفتح أعيننا على تحولات مشابهة تجرى فى العالم، ورغم ما قد يبدو من عمق سياسى وأكاديمى فى الكتاب، إلا أن أسلوب الكاتب الذى يجمع بين التحليل والصحافة يجعل من السهل على القارئ العادى تتبع خيوط السرد وفهم المقولات الكبرى: كيف تحوّلت الديمقراطية إلى ساحة صراع، وكيف يمكن لقائد مثل ترامب أن يصبح تعبيرًا عن أزمة ثقافية قبل أن يكون ظاهرة انتخابية ،"لم يكن صعود ترامب مجرد حادث سياسى عابر، بل نتيجة تراكماتٍ اجتماعية وثقافية واقتصادية أبرزها : تآكل الثقة فى النخب، وتصاعد الخطاب المعادى للمهاجرين، وتنامى الانقسام العرقى والثقافى." ويقتبس المؤلف فى مُفتتح الكتاب مقولة شديدة الإيحاء من عشرينيات القرن التاسع عشر للفيلسوف الشهير هيجل وكأنها نبوءة مستقبلية (( ولد التاريخ فى الشرق الأدنى.. وعاش طفولته فى اليونان.. ومرحلة النضج فى أوروبا.. وسيأتى يوم يصبح فيه أمريكيا)).. كما يبوح بنيته منذ السطور الأولى، كمن يشير إلى باب "الدهليز" لا إلى القصر.. : "هذا الكتاب عن كل الطرق التى قادت إلى ترامب".. جملة حادة، صريحة، متقشفة فى ظاهرها، لكنها تنهض على وعى تاريخى عميق لا يرى فى ترامب حدثًا شاذًا ولا فى صعوده استثناءً سياسيا. بل يضعه فى السياق الصحيح كذروة — وربما عرض جلّى — لتحولاتٍ أمريكية بدأت قبل سقوط البرجين بسنوات، وتجلّت بوضوح منذ أن نزل ترامب على السلم الذهبى ليعلن حربه المفتوحة على المؤسسة، والهجرة، والإعلام، والليبرالية ذاتها. عرض بانورامى مقدمة الكتاب تُعد عرضاً بانورامياً مُفعماً بالإشارات المتداخلة: من جغرافيا الإمبراطورية إلى نفسية المواطن الأمريكى، من التاريخ الطويل لحروب الخارج إلى جروح الداخل المتفاقمة، من وعود باراك أوباما الناعمة إلى خناجر ترامب المُشرعة..يقول المؤلف عباراته بصوت هادئ، لكنه يستدعى عواصف السياسة، من تحولات ما بعد 11 سبتمبر إلى نيران "كابيتول هيل"، ومن الخيبات الاقتصادية فى قلب الغرب الأوسط إلى الانفجارات الهواوية فى الجنوب المحافظ. كل ذلك، لا ليكتفى بسرد ما جرى، بل ليقنع القارئ أن هذه التحولات ليست مجرد وقائع زمنية، بل حلقات فى بنية سردية جديدة، تعيد رسم أمريكا وصورتها فى أعين العالم. فى ظل هذا التوتر العالمى الراهن، وفى زمن يطفو فيه اسم "ترامب" مجددًا على سطح السياسة الدولية وسط حرب باردة جديدة، تبدو العودة إلى هذا الكتاب ليست فعل قراءة، بل ضربًا من التسلح الفكرى. فالذى يريد أن يفهم حرب إيران وإسرائيل، لا بد أن يبدأ من واشنطن، ومن قلب واشنطن: من التيارات الفكرية، والمؤسسات، والقاعدة الانتخابية، والميديا، والضجيج الذى أخرج ترامب من البرامج الترفيهية إلى صدارة المسرح العالمى. "صعود ترامب" ليس عن رجل واحد، بل عن عصر كامل يُعاد تشكيله، وعن جمهورياتٍ كبرى تتأرجح تحت وطأة هوياتها المتناقضة، وحين ننظر إلى الشرق الأوسط، وما يشتعل فيه، سنجد أن جذور كثير من حرائقه تعود إلى البيت الأبيض. من هنا، تكتسب هذه القراءة أهميتها وضرورتها: لأنها قراءة فى نصّ يمشى بين الخطوط، ويضىء ما وراء الخبر، ويهمس فى أذن قارئه: انتبه... العالم يتغير من الداخل الأمريكى. وفى توقيت يتسم بالعتمة والارتباك العالمى، ومع عودة اللهيب الأمريكى إلى صدارة مشهد الشرق الأوسط، تطفو أمام القارئ العربى ضرورة فك شفرة ما يجرى داخل الكواليس الأمريكية، ليس من باب الفضول الثقافى، بل من موقع الدفاع عن الذات فى جغرافيا تزداد اضطرامًا.. كتاب "صعود ترامب" يُقدَّم بوصفه واحدًا من أكثر النصوص وعيًا بهذه التحولات، ليس لأنه يروى سيرة رئيس غير تقليدى فقط، بل لأنه يقرأ لحظة سقوط القناع عن الإمبراطورية التى طالما لبست وجهًا ناعمًا، وهى تمارس عنفها باسم القيم. ترامب، هنا، ليس حادثًا عابرًا، ولا حتى مجرد ظاهرة سياسية، بل هو حصاد مرير لربع قرن من التحوّلات الثقافية والسياسية والاجتماعية التى اجتاحت الولاياتالمتحدة من الداخل، وامتدت تداعياتها لتشكّل الخرائط فى كل ركن من أركان العالم، من كابول إلى القدس، ومن بغداد إلى بنسلفانيا. ومن عمق متابعة المؤلف الطويلة للسياسة الأمريكية، لا يعرض وقائع، بل ينحت سياقًا؛ لا يكتفى بتوثيق المرحلة، بل يضع يده على جذورها، فى تأمل طويل امتد عبر سنوات، تماهى فيها مع المراكز الفكرية، والتقارير المخابراتية، وأحاديث النخبة الأمريكية، ليمنحنا أخيرًا عملًا يمكن اعتباره خريطة للذهن الأمريكى فى القرن الحادى والعشرين، بكل ما يحمله من هواجس وتناقضاتٍ واستقطاب. ومن هنا، تصبح قراءة الكتاب فرضًا على من أراد أن يفهم أو حتى ينجو فى زمن تُدار فيه المعارك من خلف الستار الأمريكى. بداية الانقسام ويعود بنا الكتاب إلى تلك اللحظة المؤسسة لكل ما تلاها من اضطراب: هجمات 11 سبتمبر 2001، حينما لم تكتفِ الطائرات المختطفة بتمزيق واجهة نيويورك الحديدية، بل اخترقت جدار اليقين الأمريكى. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الداخل الأمريكى كما كان، ولم تعد الدولة تثق بمواطنيها، ولا المواطن يثق بدولته. بدأ التراجع عن القيم الليبرالية فى مقابل صعود هائل لصوت الأمن، واختلطت مفاهيم العدو الخارجى بالإسلام، فصارت المعركة ثقافية بقدر ما كانت عسكرية، ومع الوقت، انتقل العدو من الخارج إلى الداخل، وبدأت تتوالد أشكال جديدة من «الآخر»: المهاجر، الملون، المسلم، الليبرالى، كلهم صاروا خصومًا مُحتملين لهوية جديدة يُعاد تكوينها على عجل..فى هذا المناخ، بدأ الانقسام الأمريكى فى اتخاذ شكل وجودى، لا سياسى فقط، وراحت الدولة تتحصن خلف قوانين مثل: "باتريوت"، فى الوقت ذاته الذى تتآكل فيه الثقة الشعبية بالمؤسسات، ويتصدّر الخطاب المعادى للعالم، وللحداثة، وللثقافات المغايرة. وعلى مدى عقدين، لم تنجح وجوه السلطة من "جورج بوش إلى بايدن" فى ترميم هذا التصدع، بل شاركوا جميعًا فى ترسيخه، كلٌ بطريقته، حتى جاء ترامب ليعبّر عنه دون مواربة، ككائن سياسى مُفرغ من اللغة التقليدية، ومشحون بالغرائز الأمريكية الأولى. يتتبع الكتاب كيف تحوّلت لحظة 11 سبتمبر إلى مُحفز دائم لما يُشبه "نزع الثقة الجماعي" داخل الولاياتالمتحدة، حيث تمكّنت السلطات من إعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة بوسائل غير مسبوقة، باسم الأمن القومى..لم يعد المواطن مجرد كيان يُفترض فيه البراءة، بل مشروع خطر قابل للارتياب، خصوصًا إن لم ينتمِ للعرق الأبيض أو الخلفية الدينية المسيحية. وهكذا، فتحت تلك اللحظة أبوابًا واسعة لمراجعة مفهوم "الحرية الأمريكية" ذاته، بحيث أصبح مشروطًا ومُراقبًا وموجَّهًا، ضمن سردية ما بعد–الصدمة. الحصار والتهديد ويُشير المؤلف إلى أن التغير الأعمق لم يكن فى السياسات وحدها، بل فى الوجدان الجمعى، حيث بدأ يتكوّن وعى جديد يرى العالم من خلال ثنائية الحصار والتهديد.. بات الخارج كله متهمًا، والداخل مُهددًا بالاختراق، وبهذا نشأت ثقافة سياسية قائمة على الخوف، ربطت بين الأمن والبقاء، وبين القومية والانغلاق. ومع كل ذلك، لم تأتِ الحرب على الإرهاب بالطمأنينة المُرجوة، بل عمّقت هشاشة النفس الأمريكية، ومهّدت الطريق لخطابٍ راديكالى مثل خطاب ترامب ليجد له مكانًا مركزيًا فى الوعى السياسى الأمريكى. أزمة الهوية واحدة من أبرز محاور الكتاب تتمثل فى تتبّع أزمة الهوية الأمريكية، والتى تتقاطع فيها عوامل العرق والدين والنوع والجغرافيا. فبعد أن وُصفت الولاياتالمتحدة لعقود بأنها "بوتقة انصهار"، صارت تلك البوتقة تتفكك، وظهرت توترات لم تكن لتُقال فى الماضي: الأبيض يخشى أن يصبح أقلية، والأسود يشعر أنه لم يصبح أغلبية رغم أوباما، بينما اللاتينى لا يجد موطئ قدم فى السياسات العليا، والمسلم موضع ريبة دائمة، والمثلى يطالب بالتمثيل، والمحافظون الدينيون يصرخون فى وجه التقدم الليبرالى. هذه التركيبة المُهتزة غذّاها اقتصاد لم يعد عادلًا، وإعلام لم يعد جامعًا، وسياسة لم تعد تعكس الإجماع، بل تعيش على الاستقطاب. وفى هذه الأجواء، يقدّم ترامب نفسه كصوت المظلوم الأبيض، ويحمل لواء الحنين لأمريكا "العظيمة" التى كانت — كما يدّعى — بيضاء، محافظة، قادرة على الهيمنة. لقد صعد بخطاب واضح: أن أمريكا تُسرق من الداخل، وأنه وحده قادر على إنقاذها. وأدهى ما فى الظاهرة، أن خطابه العاطفى هذا استقر فى قاع وعى ملايين من الأمريكيين الذين فقدوا إيمانهم بالنخب، واحتاجوا من يشعل فيهم جذوة الحنين. ويضيف الكتاب، فى تتبعه الدقيق لتشظى الهوية الأمريكية، أن هذه الانقسامات لم تعد مجرد اختلافاتٍ طبيعية فى مجتمع متنوع، بل تحوّلت إلى خطوط تماس مشتعلة، تتحكم فى المزاج الانتخابى، وتُحدد الأصدقاء من الأعداء داخل الأمة الواحدة. ويتوقف الكاتب عند مفارقة لافتة: أن انتخاب أوباما، الذى كان يُفترض أن يؤسس لمرحلة ما بعد العنصرية، قد أيقظ على العكس قوى دفينة من القلق الوجودى لدى شرائح واسعة من البيض المحافظين، الذين رأوا فى رئاسته تهديدًا صريحًا لامتيازهم التاريخى، فكانت النتيجة موجة معاكسة بلغت ذروتها فى شعبوية ترامب.. ويكشف الكتاب كيف أن أزمة الهوية امتدت إلى بنية الخطاب العام ذاته، فلم تعد هناك لغة مشتركة تصوغ "ما يعنيه أن تكون أمريكيًا"، بل صار لكل جماعة سرديتها الخاصة، وقيمها الخاصة، بل وحقائقها الخاصة. ويُرجع هذا الانقسام أيضًا إلى تآكل "التيار الوسطي" الذى كان تاريخيًا نقطة الالتقاء بين التعدد والتوحد، لكنه انهار، سواء من أقصى اليمين أو اليسار. وفى ظل هذا الانهيار، وجد "ترامب" طريقه سالكًا نحو إعادة تعريف الوطنية الأمريكية على أساس عرقي– ثقافى محافظ، وليس على أساس المواطنة الدستورية، الأمر الذى أطلق عاصفة من المواجهات فى الشارع، وفى الخطاب، وفى مؤسسات الدولة ذاتها. ترامب والعالم ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى السياسة الخارجية، وهى التى يظهر فيها وجه ترامب على حقيقته: فوضوى، غير مؤسسى، قائم على ردود الفعل أكثر من العقائد. وفى هذا السياق، يعيد المؤلف قراءة قرارات الانسحاب من الاتفاق النووى الإيرانى، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والانقلاب على حلف الناتو، والدخول فى مشاحناتٍ اقتصادية مع الصين. لم يكن الرجل يسعى إلى إعادة تشكيل التحالفات، بل إلى تفجيرها، فى محاولة لإعادة رسم العالم وفق مقاييس رجل أعمال لا رجل دولة. وتظهر قيمة الكتاب حين نربطه بما يحدث الآن: الحرب الإسرائيلية– الإيرانية فى 2025 ليست غريبة عن الأثر المتراكم لعقيدة ترامب، التى أخرجت أمريكا من فكرة "الراعي" إلى دور "المستثمر الوقتي". فالمنطقة، كما يقول الكاتب، لم تعد تحت عين أمريكا كجزء من استراتيجيتها العالمية، بل كملف قابل للمساومة، وبذلك خلَت الساحة لقوى أخرى تعبث بها، فى ظل تراجع الثقة فى أن تكون واشنطن ضامنة لأى شكل من أشكال الاستقرار. ترامب «نتيجة» الخلاصة التى يتوصل إليها الكتاب، بحنكة من يملك التجربة والوثائق، أن "ترامب" لم يكن طفرة، بل كان نتيجة. لم يصنع الانقسام، بل هو استثماره السياسى الأعلى. ولم يكن خارجًا عن بنية أمريكا، بل كان تعبيرًا فجًا عنها. استخدم كل الأسلحة المتاحة: الإعلام، الشعبوية، الكذب، الدين، الخوف، والحنين، حتى كوّن جمهورًا يرى فيه منقذًا لا رئيسًا، وفتح الباب على مصراعيه لتحول الحزب الجمهورى من كيان محافظ إلى أداة طيعة فى يد تيار "ماجا"، الذى لا يهمه الحزبية بقدر ما يهتم بالهيمنة الكاملة. ويتنبأ الكاتب، وهو تنبؤ قريب من التحليل لا من التنجيم، أن ترامب، سواء بقى أو رحل، فقد أسس لمرحلة جديدة، عنوانها: الانقسام الحاد، والريبة المُتبادلة، وسقوط الوسط السياسى، وصعود هوية أمريكية تتغذى على الخوف لا على الأمل. ولذلك، فإن قراءة هذا النص ليست عودة للماضى، بل محاولة لفهم المستقبل القريب جدًا. بكل دقة، يستند "عزت إبراهيم" فى رؤيته لمستقبل ما بعد ترامب إلى قراءة واعية لمجمل التراكمات التى شهدها الداخل الأمريكى منذ مطلع القرن الحادى والعشرين، ويرى أن ترامب لم يكن صانع الانقسام الأمريكى بل مُسرّعه، ولم يكن المؤسس لهذه المرحلة المتقلبة بل مجسّدها الأكثر فجاجة ووضوحًا. ولهذا، فإن مغادرته الرسمية للمشهد السياسى، إن حدثت، لن تعنى تراجع المرحلة، بل استمرارها تحت وجوه وأسماء أخرى. لقد استطاع ترامب – كما يقول الكتاب – أن يعيد رسم حدود النقاش الوطنى، لا على أساس الأفكار وإنما وفق الانتماء القبلى والسياسى، حتى بات كل رأى مؤشرًا على هوية، لا على اجتهاد فكرى أو موقف أخلاقى. تعطل النظام ويشير المؤلف إلى أن ما ساهم فى ترسيخ هذا المسار، ليس فقط شخصية "ترامب الطاغية"، بل أيضًا ما وصفه ب "تعطل النظام"، وهو تصدع ثقة المواطنين فى مؤسسات الحكم والنخب السياسية والاقتصادية، وانهيار الوسط التوافقى الذى ظل لعقودٍ يمسك بتوازن الحزبين الجمهورى والديمقراطى. ومع هذا الانهيار، أصبح المجال العام ساحة مفتوحة لخطابات التحريض والتعبئة والانفعال، ولم يعد التنافس الانتخابى حول برامج سياسية واقعية، بل حول رواياتٍ وجودية عن ماهية أمريكا، وما إذا كان يجب "استعادتها" أم "إعادة تعريفها". وهكذا، تحول الصراع السياسى إلى ما يشبه حربًا أهلية مُؤجلة، بالكلمات والتصريحات، فى انتظار شرارة تترجمها إلى فعل ميدانى، كما حدث فى اقتحام الكابيتول، وكما يخشى أن يتكرر فى كل استحقاق قادم. وفى سياق هذا التحليل، يستحضر الكاتب نماذج تاريخية تؤكد أن جذور هذا التحول ليست آنية، بل ممتدة فى التربة الأمريكية منذ قرون، ويستشهد بما كتبه الصحفى الأمريكى "نيك براينت" فى كتابه الحرب الأبدية: "صراع أمريكا الذى لا ينتهى مع نفسها"، حين اعتبر أن الاستقطاب الحالى هو امتداد طبيعى لصراعات لم تُحل منذ الحرب الأهلية، وأن الانقسامات العرقية والثقافية والطبقية التى تعانى منها الولاياتالمتحدة ليست ظواهر استثنائية، بل جزء من تاريخها البنيوى. ومن هنا، فإن عزت إبراهيم لا ينقل فقط استنتاجًا سياسيًا، بل يقدّم تحذيرًا ضمنيًا بأن صعود ترامب لم يكن خاتمة مرحلة بل فاتحة زمن أمريكى جديد، عنوانه القلق، وشعاره الريبة، وأداته الصدام المتواصل. حوارات النخبة لا يكتفى المؤلف بتحليل الأحداث، بل يقدّم 15 حوارًا مع مفكرين وسياسيين أمريكيين، مما يمنح القارئ نافذة لفهم العقل السياسى الأمريكى من الداخل." وهى حوارات أجراها مع رموز مثل: فوكوياما، كينيدى، جوزيف ناى، وآخرين، لا تأتى فى سياق الزينة الثقافية، بل كأدلة إضافية على انهيار المرجعيات القديمة. فحتى تلك العقول، التى كانت ذات يوم تُنتج ما يُعتبر نظرياتٍ كبرى مثل: "نهاية التاريخ" أو "القوة الناعمة"، تظهر فى الحوارات مترددة، مُرتبكة، وفى حالات كثيرة، متشائمة. إنها أمريكا وهى تفكر بصوت مرتجف. كلٌ منهم يملك سؤالًا، لكن لا أحد يملك جوابًا. بعضهم يحاول التماسك بالديمقراطية، وبعضهم يحذر من نهايتها. بعضهم يؤمن أن ترامب مرحلة، وبعضهم يخشى أنه بداية دائمة. كلها آراء تتناثر بين أوراق القسم الثانى، لتجعل القارئ لا يخرج من الكتاب بإجابات، بل بأسئلة أعلى وأخطر: هل ما زالت أمريكا هى أمريكا؟ وهل نحن بصدد سقوط داخلى، أم تحوّل استباقى؟ وهل ترامب هو النهاية، أم البداية؟ فى الخلاصة، لا يُقرأ كتاب "صعود ترامب" كعرض لأحداث، بل كتأمل فى الارتجاج العميق لمجتمع كان يعتقد أنه مركز العالم، فإذا به يكتشف هشاشته. كتاب متين، لا يدّعى الحياد، لكنه يمارس الموضوعية بحزم، ويكتب بلغة عقلانية لا تنفصل عن الإحساس بالخطر. عمل رصين، يربط الحاضر بالماضى، ويمنحك مفتاحًا لفهم الأيام المقبلة. حيث يمثل الكتاب إضافة للمكتبة العربية، ويمنح القارئ فرصة لفهم كيف يرى الأمريكيون أنفسهم، وكيف تتشكل قراراتهم، وهو أمر نادر فى الكتب المُترجمة أو الغربية، ببساطة، هو كتاب يقرّب السياسة من الناس، ويجعلها جزءًا من وعيهم اليومى. المؤلف المؤلف عزت إبراهيم، باحث وصحفى يشغل منصب رئيس تحرير «الأهرام ويكلى» وبوابة الأهرام الإنجليزية. كتب مئات المقالات والتقارير والدراسات فى السياسية الداخلية والخارجية الأمريكية، والإسلام السياسى والحرب على الإرهاب والسياسات الإقليمية للدول الكبرى والسياسات الإعلامية.