حواجز غير مرئية، وجدران معنوية تفصل بينهما، حالة غربة يعيشها الزوج مع زوجته والعكس صحيح رُغم أنهما من المفترض أن يكونا أقرب البشر لبعضهما البعض، صَمْتٌ وبرود وفتور فى الحب والمشاعر والأحاسيس يؤدى تدريجيّا إلى الطلاق العاطفى، يظل الزواج على الورق فقط لأسباب تتعلق بالأولاد أو بالشكل الاجتماعى، أو يظل قرار الانفصال مؤجلًا لأسباب يعرفها الزوجان جيدًا، لكنها بعيدة كل البعد عن رغبتهما فى الاستمرار سويّا، إذ يبقى الطلاق النفسى والعاطفى إعلانًا بانتهاء الأمان بينهما. أشياء صغيرة عرفتها منذ أن التحقت بالجامعة وتوطدت علاقتى بها طوال أربع سنوات الدراسة بكلية الآداب، وحين تتحدث الفتيات عن الحب والزواج كانت صديقتى تعلن أمامى أنها لن تتزوج أبدًا، حتى لا تهدم بيتًا آخر عزيزً عليها، كنت أندهش لما تقوله، وفى يوم حين كررت الكلام نفسه أجدنى أستوقفها وأسألها: أى بيت الذى سيهدمه زواجُك، هل ستتزوجين من رجُل متزوج؟ تجيب وهى تهز رأسها بأسى: - بيتنا، ذلك البيت الذى كبرتُ ونشأتُ فيه؛ لأننى بمجرد أن أتزوج سيحدث الطلاق بين أبى وأمى!! يزعجنى ما تقوله، فأسألها فى حيرة: لماذا؟ تطرق وجهها فى الأرض بينما عيناها تلمعان بالدموع، وتقول من بين دموعها: - إن أمى وأبى قد اتفقا معى أنا وشقيقتى التى تكبرنى بعامَين على ذلك، وقد أخبرتنا أنها تعيش مع أبى من أجلنا فقط، رُغم أنهما فى حقيقة الأمر يُعَدّان فى مقام المطلَّقين، فلا حب يجمع بينهما ولا مودة ولا رحمة، وهما منفصلان بالفعل ولكن بلا طلاق رسمى، لقد أجّلا الطلاق إلى ما بعد زواجنا أنا وشقيقتى، فأمى لا تريد حين يتقدم أحد للزواج منّا أن يجد أبوينا مطلقين؛ فيتوجس ويتراجع أو يُعيّرنا. لقد أكدت لنا أن علاقتها بأبى مجرد صورة اجتماعية زائفة ضرورية كى تحسّن بها صورتى أنا وأختى أمام المجتمع الذى ستختلف نظرته لنا لو كانا مطلّقين!! أندهش لما أسمعه من صديقتى، أن مصارحة والدتها لها بنواياها فى الطلاق بمجرد زواجها هى وشقيقتها، جعل الفتاتين تخافان من الزواج ولا تقبلان على الفكرة، إن شقيقتها تخرجت منذ ثلاث سنوات وأجبرتها والدتها على خِطبتين ولكنها تفسخ الخطبة فى كل مرّة وتتعمد تزهيق خطيبها وإساءة معاملته حتى يتركها!! وكذلك تفعل صديقتى، إنها ترفض أن يتقرب أى شاب منها أو يتودد لها حتى لا تتعلق به وتحبه، وربما ينتهى الأمر بالزواج الذى صار شيئًا مرعبًا بالنسبة لها؛ خصوصًا أنه سيترتب عليه طلاق أبويها!! يحيرنى دائمًا ما تحكيه؛ خصوصًا بعدما تعرّفت على والدتها ووالدها، إن أمها سيدة جميلة رقيقة ذات ملامح طيبة وصوت هادئ، كما أن والدها وسيم أنيق ذو ابتسامة دائمة ووجه بشوش، وكان يبدو أمامنا أنه منسجم مع زوجته وهو يحدثها ويضاحكها، يبدو أنهما يتعمدان أيضًا أداء دور الزوجين السعيدين أمام أصدقاء ابنتيهما!! وفى يوم تجرأتُ وسألتُ صديقتى عن أسباب الخلاف بين والدها ووالدتها، فتزفر تنهّداتها ثم تقول بصوت لا يخلو من ألَم: لا يَغرنّك الانسجام الظاهرى الذى يتظاهران به أمام الناس، إنهما مختلفان فى كل شىء، إن أبى ودودٌ محبٌّ للحياة والخروج والسفر، وأمى امرأة تقليدية لا تستطيع أن تجارى مزاجه الذى يشبه مزاج الفنانين من تقلب وإحساس وحب للحياة، إن أمى انطوائية بينما هو اجتماعى، أحيانًا يفاجئنا أبى برغبته للسفر للإسكندرية ويطلب من أمى أن تُعد نفسها لنمضى يومًا هناك، ولكن والدتى ترفض بشدة مبررة أنها لا تحب المفاجآت والقرارات المجنونة وتطلب منه أن يخبرها قبلها بيومين على الأقل، كما أنها لا تخرج معه فى العزائم والمناسبات التى يدعى لها، كما ترفض أن يستقبل عائلته أو أصدقاءه على غداء أو عشاء، وحين يُصر تتعمد إحراجه فيضطر أن يحضر طعامًا جاهزًا ويقوم بمضايفة مدعوينه بمفرده بينما أمى لا ترحب بهم أو تبتسم فى وجوههم، فيشعر المدعوون بالحرج، حتى إن عائلة والدى لم تَعد تحضر لزيارتنا، كما أن أبى يحب الرسم وكثيرًا ما كان يسهر ليلًا ناثرًا أوراقه وألوانه يمارس هوايته المحببة فى إبداع لوحات جميلة، وكانت أمى لا ترحب بذلك وترى أنه بفرشاته وألوانه يلطخ الأرض والجدران حتى لو كان بلا قصد، وفى يوم ضاقت بأدوات الرسم فطلبت منه أن ينقلها عند والدته فى طنطا ويمارس هوايته التى تزعجها أثناء وجوده هناك!! أتذكر أن والدى يومها قد انفعل عليها انفعالًا شديدًا وألقى بألوانه وفُرَشِه فى وجهها، وخرج غاضبًا وهو يلعن اليوم الذى تزوج فيه من امرأة بلا إحساس.. مواقف كثيرة وأشياء صغيرة يختلفان فيها، حتى ذوقهما فى الأغانى متباين، فأبى يحب فيروز وأم كلثوم ونجاة وألحان عبدالوهاب والسنباطى، وأمى تميل للأغانى الصاخبة والألحان الشعبية، لا يوجد بينهما أى نقطة التقاء سوى حبهما لنا أنا وأختى وتعلّقهما بنا. أسالها وقد تعاطفت مع والدها: لماذا تزوَّجها إذن؟ تقول وهى لاتزال تُزفر تنهداتها فى ألَم: كانت شقيقة صديق، فتاة جميلة هادئة متعلمة، فوجدها مناسبة، وتزوج فى وقت قصير قبل أن يكتشف ذلك الخلاف فى الطبائع والميول. ونتخرج فى الجامعة ولم تكن صديقتى قد ارتبطت بأى قصة حب أو خطبة، وأظل على اتصال بها على فترات متباعدة، وفى يوم أتلقى اتصالًا تليفونيّا منها تدعونى على حفل زواجها، وكان ذلك بعد تخرّجنا بخمس سنوات، كما تخبرنى أن شقيقتها قد تزوجت منذ شهور. وأحضر زفافها وأشاهد والدتها ترتدى فستانًا سواريه غاية فى الرقة والأناقة بينما يقف بجوارها زوجها والد صديقتى باسمًا لامعًا وسيمًا كعادته فيبدو كأنه هو العريس، ويلتقط الصور وهو يتأبط ذراع زوجته بجوار ابنتهما العروس، وقد عرفت من صديقتى بعد ذلك أن طلاق أبويها قد تم فى اليوم التالى لزواجها!! ذلك الطلاق الذى حدث بالفعل منذ ما يقرب من خمسة عشر عامًا ولكنه كان طلاقًا صامتًا بلا ورق رسمى!!. زوج للتصوير لو لم تكن جاءتها تلك الترقية المهمة التى وضعتها فى منصب رفيع وجعلتها تحت الميكروسكوب والعيون لكانت أتممت الطلاق المتفق عليه، ولكن الأمور اختلفت ووجود زوج معها صار أمرًا ضروريّا لاستكمال الصورة أمام المجتمع، إنها ستحتاج لوجوده فى حفلات الاستقبال والعشاء مع المسئولين وأَمام الصحفيين وكاميرات التليفزيون، إن المجتمع سينتقص كثيرًا من قَدرها ونجاحها ومكانتها لو بدت أمامه امرأة مطلقة، إنه لايزال لا يعترف بامرأة من دون رجُل!!. ستضطر أن تُنقض اتفاقها مع زوجها لإتمام الطلاق الرسمى بينهما، الذى كان مقررًا أن يكون هذا العام بعد تسوية بعض الأمور المالية بينهما، ستصارح زوجها وتخبره أنها تريده بجوارها فى منصبها الجديد حتى لو كان وجودًا صوريّا، فهما منفصلان جسديّا منذ ما يقرب من خمس سنوات، وتعلم جيدًا أن زوجها له علاقات نسائية متعددة ولا تنزعج أو تمانع!!. ولم يكن يأتِى ببالها أنها ستحتاجه فى مشروع آخر أهم ولكن كشريك وهمى وليس كشريك حقيقى!! إنه مشروعها الخاص بها كامرأة تتقلد منصبًا مُهمّا وتحتاج زوجًا بشكل ضرورى كديكور مكمل للصورة!!، وهى تعرفه جيدًا لن يمانع لأنه سيستفيد من منصبها الجديد ومن تواجده بين الشخصيات العامة والمهمة.. إنه لا يفوّت الفرص أبدًا، حتى زواجه منها كان إحدى الفرص بالنسبة له، فهى ابنة رجل أعمال مهم لديه الكثير من المال والمشاريع فى الداخل والخارج، وهو متطلع ووصولى، وتزوجها من أجل الاستفادة من والدها بعد أن أقنعها أنه يحبها ولا يستطيع أن يعيش من دونها، وقد صدّقتْه وأصرّتْ على الزواج منه رُغم رفض والدها له؛ إلا أنه يوافق تحت ضغطها ودموعها وتهديدها بالانتحار لو حرمها منه، وبعد الزواج تكتشف خداعه وتعدد علاقاته ولكن بعد أن احتال عليها وأقنعها أن تنقل باسمه بعض ممتلكاتها، وكان لا بُدّ أن تتحمله بعد ذلك فى محاولة لاستعادة أملاكها التى انتزعها منها. وتنقل الصحف صورة السيدة الناجحة بصحبة زوجها الأسمر الوسيم وهما متشابكى الأيدى ضاحكان، ويكتب الصحفيون المقالات والتعليقات التى تؤكد على حياتهما الزوجية الناجحة وكيف أنها امرأة متميزة تسطيع الجمع بين دورها كزوجة ودورها كمسئولة وصاحبة منصب، وتتحدث أمام الإعلام عن التأثير الإيجابى لزوجها فى حياتها، وكيف أنه وراء كل امرأة ناجحة رجلًا مخلصًا واثقًا من نفسه، كما يتحدث هو عن قصة حبهما الدائم الذى يتجدد باستمرار وكيف أنها زوجة وأم رائعة، وأن عيد ميلادها مقدس لديه فلو كان مسافرًا يعود من أجل أن يشاركها أجمل أيام عمره وعمرها. كما تحرص زوجته ذات المكانة والمنصب الرفيع أن تنشر صورًا عائلية لهم تجمعها بزوجها وابنها وهى تتأبط ذراعهم وتحتضنه وتتناول معه الطعام فى المطاعم الشهيرة، وصور أمام برج إيفل فى باريس حيث يقضيان إجازتهما السنوية. وبعد نجاح الخطة التى قامت بها لتحسين صورتها وصورة زوجها المنفصلة عنه دون طلاق رسمى أمام الرأى العام، تنصحه بإخلاص قائلة: لا يضيرنى أن تعرف ما تشاء من النساء، ولكن لا بُدّ أن تحذر وتحتاط من الكاميرات والصحفيين!!.