مطالبته بالديمقراطية، وضعت بذرة الخلاف مع جمال عبدالناصر بعد أن كان الود بينهما دافعا لناصر كى يسمى أكبر أبنائه «خالد». خالد محيى الدين، آخر رجال مجلس قيادة الثورة الباقين على قيد الحياة، ورغم المرض، لايزال الرجل قادرا على إثارة الزخم، حتى لو كان بخبر سرقة نياشينه من قبل «شغالة» لاتعرف قيمتها والقبض عليها فى ساعات قليلة.!! الآن وبعد 65 عاما من عمر الثورة التى غيرت وجه التاريخ فى مصر والمنطقة والعالم.. يجلس «الصاغ الأحمر» نسبة إلى توجهاته اليسارية - اللقب أطلقه عليه ناصر - فى بلكونة منزله على نيل الزمالك يتذكر عمرا لم يضع هباء. فى بداية الثورة كان خالد محيى الدين برتبة صاغ، ثم أصبح عضوا فى مجلس قيادة الثورة. كانت مهمته فى ليلة 23 يوليو هى الاستيلاء على الكتيبة الميكانيكية، وعزل المنطقة العسكرية بألماظة وكوبرى القبة، وإخراج وحدات من الفرسان لمساعدة الطيران فى الاستيلاء على المطارات. فى مارس 1954 اصطدم مع عبدالناصر وقيل يومها أنه يدير مخططا مع محمد نجيب إلى النوبة بعد أن رفض زملاؤه أعضاء مجلس قيادة الثورة السفر معه. لا يعرف الكثيرون أن خالد محيى الدين تم تعيينه رئيسا لوزراء مصر لمدة 6 ساعات، خلالها حاول نزع فتيل أزمة مارس 1954 والتى كادت تودى بالثورة كلها!! عن الساعات الست يقول خالد محيى الدين نفسه فى كتاب «ثوار يوليو يتحدثون.. للكاتب محمود فوزى»: نعم كنت رئيسا لوزراء مصر لمدة 6 ساعات فى أزمة مارس، وحين وصلت الأزمة إلى ذروتها وكان الشعب مع محمد نجيب، وكان عبدالناصر ومجلس الثورة معهم القوات المسلحة.. وقد عقد سلاح الفرسان اجتماعا وناقشوا عبدالناصر، ويومها أحس عبدالناصر بأن جزءا من القوات المسلحة لا يؤازره، وكان يرى عودة محمد نجيب لصالح الوحدة بين مصر والسودان، وكان من وجهة نظره أن أصلح شخص يمكن أن يتولى رئاسة الوزراء هو خالد محيى الدين، وأن مجلس الثورة يبتعد.. قلت لهم لا.. إذا ابتعد مجلس الثورة فإن الصورة العامة له ستكون سيئة.. قالوا يمكن أن نتعاون معك ولا نستطيع ذلك مع محمد نجيب، ونحن نحب البلد ولا نريد حربا أهلية، ثم أصبح بعدها فجأة سلاح الفرسان محاصرا والدنيا كلها مقلوبة والطائرات تحلق، وكانت أزمة كبيرة فكان لابد من تعيينى رئيسا للوزراء ودعوة مجلس الثورة للاجتماع وبحث الموقف، وتمخض عن الموقف الجديد الإجبار على عودة محمد نجيب. لم أستمر رئيسا للوزراء، الضباط من الصف الثانى من الضباط الأحرار رفضوا ومنعوا التنفيذ وتم إطلاق الرصاص، وكانت هناك خشية من قيام سلاح المدرعات والطيران بتحركات.. كانت نتيجة غير مأمونة العواقب، ونحن نحب مصر ولا نريد لها الدمار.. وسارت المظاهرات فى شوارع القاهرة والإسكندرية تطالب بعودة محمد نجيب إلى الحكم، وقد تقررت عودته لكن عبدالناصر خطط يومها كيف يخرج من هذه الأزمة بإعادة الجمعية التأسيسية والدستور والأحكام العرفية.. كان هناك 20 يوما هى التى أعد فيها عبدالناصر الرأى العام ليختار بين الثورة والديمقراطية. ويتابع الصاغ الأحمر قائلا: أزمة مارس كانت بدايتها المطالبات بعودة الحياة النيابية، وتظاهر عبدالناصر بالموافقة واقترح اسمى رئيسا للوزراء فترة مؤقتة يقوم خلالها بالتمهيد لعودة البلاد إلى الحياة الديمقراطية والتى كانت أحد مطالبى. واتفق معى عبدالناصر أن أذهب فى اليوم التالى إلى القيادة لتلقى هذا التكليف منه. وعند وصولى تعرضت للعنف من ضابط اسمه ربيع عبدالغنى حاول أن يمسكنى بشكل غير لائق وحينئذ جاء جمال سالم وضربه، بعدها تعرضت لشتائم من ضابط هو وحيد رمضان، ولم يكن أحد فى مجلس القيادة يتوقع ما حدث من رجال الصف الثانى من الضباط الأحرار فى مواجهة القرار الذى لم يصمد سوى 6 ساعات. بعد أزمة مارس الشهيرة والتى فى نهايتها خرجت الجماهير فى الشوارع تهتف ضد الديمقراطية وضد الأحزاب وضد الحياة النيابية. الطريف أنه ثبت لاحقا، بحسب مذكرات خالد محيى الدين نفسه «الآن أتكلم» أن تلك المظاهرات كانت مدبّرة، فقد ذكر أن جمال عبدالناصر اعترف له بأنه دفع 4 آلاف جنيه لتدبير تلك المظاهرات. بعد تلك الأحداث المتلاحقة والساخنة آثر خالد محيى الدين - ربما تحت ضغوط من عبدالناصر - الابتعاد إلى سويسرا لبعض الوقت. بعد عودته إلى مصر ترشح فى انتخابات مجلس الأمة عن دائرة كفر شكر عام 1957وفاز فى تلك الانتخابات، ثم أسس أول جريدة مسائية فى العصر الجمهورى وهى جريدة المساء. وشغل منصب أول رئيس للجنة الخاصة التى شكلها مجلس الأمة فى مطلع الستينيات لحل مشاكل أهالى النوبة أثناء التهجير. تولى خالد محيى الدين رئاسة مجلس إدارة ورئاسة تحرير دار أخبار اليوم خلال عامي1964 و1965 وهو أحد مؤسسى مجلس السلام العالمى، ورئيس منطقة الشرق الأوسط، ورئيس اللجنة المصرية للسلام ونزع السلاح. حصل على جائزة لينين للسلام عام 1970 وأسس حزب التجمع العربى الوحدوى فى 10 أبريل 1976. اتهمه الرئيس السادات بالعمالة لموسكو، وهى تهمة كانت توجه للعديد من اليساريين العرب فى حقبتى السبعينيات والثمانينيات، وفى السنوات التى سبقت اعتزاله السياسى أبى المشاركة فى انتخابات رئاسية مزمعة فى مصر ليقينه بأن الانتخابات لن تكون نزيهة وأن مشاركته ستستخدم لتبرير شرعية الرئيس مبارك. يرى البعض فى تخليه طوعا عن قيادة حزب التجمع مثالا للحكومة والمعارضة فى أهمية التغيير وتداول السلطة. كان عضوا فى مجلس الشعب المصرى منذ عام 1990 حتى عام 2005 حينما خسر أمام مرشح الإخوان. وجاءت مذكرات خالد محيى الدين بعد 40 عامًا من قيام الثورة وتحديدا فى العام 1992 بصياغة الدكتور رفعت السعيد لتكشف قدرًا كبيرًا من الأسرار، مثل: لماذا عارض عبدالناصر التقيد ببرنامج التنظيم، حقيقة العلاقة مع أمريكا، علاقة عبدالناصر وخالد محيى الدين بالإخوان وبالشيوعيين، وصلة السادات بالسفارة البريطانية. خالد محيى الدين، مؤسس حزب التجمع الوحدوى التقدمى، ذى التوجه الشيوعى ورئيسه حتى اعتزل العمل العام، والحاصل على قلادة النيل، ترعرع فى جو صوفى نقشبندى، فأجداده وأهله كانوا شيوخًا فى هذه الطريقة الصوفية التى لها جذور كثيرة فى الدول العربية، فجده لأمه هو الشيخ الخليفة محمد عاشق وله فى المنزل مسجد، ويقول الصاغ الأحمر عن صوفيته: «التصوف نوع من الجانب الأخلاقى الخاص بالشخص واللى بيعمله.. الكل متدين وكله بيصلى لكن التصوف بيديله رحيق ثانى لأنه مبنى على محبة وأخوة وأن الإنسان مالوش غرض، بيعمل كده مش علشان إنه يخش الجنة لا علشان يرضى نفسه ويرضى الله.» انضم خالد محيى الدين إلى جماعة الإخوان عام 1945 أى قبل قيام تنظيم الضباط الأحرار، وكان معه كل من الضباط جمال عبدالناصر، وكمال الدين حسين، وعبداللطيف البغدادى، وحسن إبراهيم، ولكن سرعان ما انفضت هذه المجموعة بعد حرب فلسطين عن الإخوان، بعدما تعثرت العلاقات، وبخاصة أن انضمام الضباط للجماعة وفقا لما جاء فى مذكرات سامى شرف، مدير مكتب جمال عبدالناصر، هى حاجتهم إلى قوة دفع من جماعة سياسية قوية تساندها وتحمى ضباطها فى حالة وقوع أية علميات قبض أو فصل من الخدمة أو ما إلى ذلك تعسفية. ترك الضابط اليسارى جماعة الإخوان، وانضم إلى تنظيم «حدتو» الشيوعى، أو ما يطلق عليه «الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى» كما كان جمال عبدالناصر على اتصال، بهذا التنظيم الشيوعى، وذلك عن طريق القاضى أحمد فؤاد، الذى ظل على اتصال بتنظيم الضباط الأحرار، آمن بالأفكار المركسية وأيقن أن السياسة علم لها قوانين ولها قواعد. خالد مُحيى الدين مولود في «17 أغسطس1922» فى كفر شكر فى محافظة القليوبية. تخرج من الكلية الحربية عام 1940 وفى 1944 أصبح أحد الضباط الذين عرفوا باسم تنظيم الضباط الأحرار والذين انقلبوا على حكم الملك فاروق سنة 1952 وكان وقتها برتبة صاغ، ثم أصبح عضوا فى مجلس قيادة الثورة، حصل على بكالوريوس التجارة عام 1951 مثل كثير من الضباط الذين سعوا للحصول على شهادات علمية فى علوم مدنية بعد الثورة وتقلدوا مناصب إدارية مدنية فى الدولة.