ثمة مقولة تصف الشأن السياسى الأمريكي، سيما فى العقود الثلاثة الأخيرة؛ «تغيّرت الإدارات والسياسة واحدة».. ظاهريا تبدو العبارة صحيحة كثيرا، لكن فعليا يشوبها عدم الدقة إلى حد بعيد، على الأقل داخليا الذى يعد بدوره المحرّك غير المباشر الرئيس لجُلّ تحركات الإدارة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. إن الولاياتالمتحدةالأمريكية فى دورتها الرئاسية الخامسة والأربعين عُرضة كمعظم دول العالم التى تتلاعب بمصائر بعضها الآن -عُرضة - للتجاذب بين تيارات اليسار، سيما اليسار الراديكالي، وبين اليمين الذى تتبنى بعض أصواته اتجاها إصلاحيا داخليا، وأجندة تهدئة خارجية بالتبعية.. بحسب المشهد الآن فإن هناك حالة من القلق فى المجتمع الأمريكى تجاه تنامى الفكر الراديكالى اليسارى واستقطابه لشرائح اجتماعية يفترض أنها مثقفة إلى أعلى مستوي، ومرفهة اقتصاديا، وربيبة الفكر الرأسمالى الديموقراطى وآليات السوق الحرة والانفتاح الفكرى والثقافي، إلى حد لا يتورع معه أفراد هذه الشريحة الليبرالية بالغة التمايز عن تبنى لهجة عنف صريح تجاه المجتمع وتجاه سياسييه حال الخلاف السياسى كما هو الحال مع الجمهوريين مثلا. تُعزى التحليلات هذا التوجه التصادمى العنيف القائم بالأساس على الهوية السياسية إلى تنامى الدعم الديمقراطى لفكر الجهاد الإسلامى فى الشرق الأوسط ومحاولة تسكين تيارات العنف السياسى قسرا فى أنظمة الحكم الإقليمي، وهو ما حدا بإدارة أوباما إلى الرضوخ لعملية تبادلية حتمية تقضى بتوطين هذه التيارات على الأراضى الأمريكية، الأمر يتجاوز التسطيح الإعلامى الذى يعزى الأزمة إلى وجود جحافل اللاجئين فى أمريكا وأوروبا إلى حقيقة فساد النظام الحكومى الذى يتسامح مع فكر الإرهاب ويتعاطى معه أيديولوجيا إلى حد «تكييفه وتفصيله» على مقاس المواطن الأمريكي.. الولاياتالمتحدة مثلا التى خاضت حربا منظمة ضد الشيوعية إلى حد تدجين الروس المُجنَّسين على أرضها، لا تجد غضاضة فى «استيعاب» الفوارق الثقافية بين الجهاديين الإرهابيين وبين العقلية الأمريكية المتحررة فى حين أن الإرهاب الجهادى يتماس بشدة مع الفكر الأناركى اليسارى العنيف الذى اقتلعته أمريكا من أرضها قبلا. يتساءل المثقف الأمريكي: هل صار المجتمع والمجتمعات الغربية الحليفة بالتبعية أمام أزمة عنف سياسى تنذر بوادرها بكارثة فيما يصر الإعلام ليبرالى التوجه على التشويش عليها وتصديرها إلى الملعب الجمهورى باعتبارها أزمة مستحدثة مرتبطة كذبا بالوضع الاقتصادى المتدهور والكساد وتدنى معدلات البطالة وكلها بالمناسبة أزمات لصيقة الصلة بما اصطلح على تسميته بسياسات الإصلاح الاقتصادى والاستقطاع الضرائبى والإنقاذ المالى المؤسسى التى تبناها الديموقراطيون؟ مثال على هذا يعتبره حتى المحللون الاقتصاديون شديد الفجاجة؛ ويخص أزمة «جنرال موتورز» الشهيرة إبان موجة الكساد التى أعقبت الألفية إذ يرون أن تدخل «أوباما» بالأمر المباشر لضخ حصة حكومية هو نموذج للسياسة المالية الشمولية، فيما كان لترامب مثلا تصريح شهير فى لقاء له مع «ديفيد ليترمان» حين قال إن «جى إم» عليها أن تتقبل تقلبات السوق كأى شركة أخرى وتحاول توفيق أوضاعها ولو عبر إشهار إفلاسها والبحث عن تخريجة قانونية ومالية تحفظ حقوق عامليها. يأخذ المراقبون على ترامب -وكذا سياسيون جمهوريون كُثر - تخبطه السياسي، فهو نفسه كان عضوًا بالحزب الديموقراطى لفترة من حياته، قبل أن يتحول إلى الحزب الإصلاحي، ثم ينتمى للجمهوريين ويعود للانفصال عنهم ويعمل كسياسى مستقل لفترة وجيزة ثم يعيد التحاقه بالاستمارة الجمهورية التى ترشح على قوائمها رئاسيا لهذه الدورة، فى الوقت الذى يعتبر هذا فى رأى آخرين «تجربة سياسية ثرية» وتفاعلاً تقييميًا مباشرًا قبل تبنى توجه سياسى بعينه، الحق أنه من الجلى أن «ترامب» لا يعكس ولا يمثل حتى هوية سياسية جمهورية بقدر ما هو - كجمهوريين جنوبيين كثر- يمثل نفسه كتاجر يقيم العملية السياسية ولو فى حدود اختصاصاته الرئاسية بحسابات المكسب والخسارة البراجماتية البحتة. هل ينتظر الشرق الأوسط فترة تهدئة بحكم الانتقال الحزبى الرئاسى فى الولاياتالمتحدة؟ الإجابة وإن تبدو غير واضحة لكنها تميل إلى الجانب الإيجابى إن أُحسن قراءتها والتعامل معها، فالجمهوريون أنفسهم يمثلون ضربا من فترة التقاط الأنفاس اللاهثة داخل المجتمع الأمريكى عقب سنوات السياسات الديموقراطية المزعزعة للحراك الطبقى الداخلى نفسه. يكفى اليسار الديموقراطى الليبرالى وموقفه «المتعالي» من الجمهوريين عملية واحدة مثل مذبحة إلينوى التى حاول فيها «جيمس هودجكينسون» اغتيال أعضاء الكونجرس وبعض السياسيين فى مباراة بيسبول ودية عادية، فيما يمتلك الرجل الذى جاوز الستين عملا يديره منزليا ويدر عليه أرباحا عالية بحسب تقاريره الضرائبية، ويعد مثقفا ذا مستوى تعليمى راقٍ، والأهم أنه مناوئ للسياسة الجمهورية ولترامب بشدة، ويتبنى توجها سياسيا تقدميا راديكاليا، وتردد أنه كان من بين المترددين على اعتصامات «وولستريت» متباينة الأطياف والمصالح والأهداف السياسية! عملية واحدة كهذى كفيلة بإثارة التساؤلات حول المدى الذى قد يصل إليه الراديكاليون اليسار إذا ما قرروا التعبير عن آرائهم أو بالأحرى «ديكتاتوريتهم» الفكرية، فما بالك إن كانت تمتد من شخص ك«هودجكينسون» يمثل نخبة ال1 % إلى أن تصل إلى هوليوود التى لم تجد فيها «مادونا» غضاضة فى أن تصرح فى مسيرة نسائية مناهضة لترامب بأنها تود لو تنسف البيت الأبيض نسفا إذ إنه لا يمثلها، كيثى جريفن الديموقراطية الليبرالية ترفع لافتة تصور شخصيات سياسية جمهورية مقطوعة الرأس غارقة فى دمائها، مسرحية ببرودواى تصور مصير الحكومة الجمهورية وقد انتهت بعملية اغتيال هى أقرب لمذبحة لا تقل بشاعة عن مذبحة «هودجكينسون»، وإن كانت تسبقها فى تراتبية العرض على جمهور المثقفين الذى احتفى بها بشدة، فضلا عن تاريخ طويل من الاغتيالات لا يبدأه كينيدى الذى قتل على يد واحد من معتنقى هذه الأيديولوجية «الجهاديقراطية»! فكرة الرئيس الموازى أو حكومة الظل أو الرئيس العراب ذاتها لا تخرج عن العقلية الديموقراطية الراديكالية، فأوباما هو آخر عنقود الرؤساء الذى لم يكف عن «رحلاته المكوكية» وآخرها رحلة التبريكات إلى «كوريا الجنوبية» التى يبدو أن رئيسها الجديد «موون جاي- إن» ينصت لأوباما بشدة ويعتبره صديقا له كلمة مسموعة حتى إنه سأله مباشرة النصيحة حول التعاطى مع أزمة بلاده وجارتها الشمالية، ويتردد أن نصيحة أوباما لم تخرج عن سيناريو تأليب جماعات الجهاد السياسى الذى اعتبره محللون إقليميون نذير اندلاع كارثة سواء حال فشلها، إذ إن الفشل يعنى مذابح إنسانية على خلفية سياسية فى كوريا الشمالية ذات النظام القمعي، بل كارثة أكبر حال نجاحها إذ إنها لا تستبعد نشوب حرب نووية بين الكوريتين! هذا التحول النوعى المحدود فى مسار تصعيد الصراع العالمى ربما يحمل فى طياته نفس مبررات تهدئة الصراع الإقليمى إذا حُسب جيدا أين وكيف نضع أقدامنا منه، لا يخص الحديث مصر فقط وإنما القوى الإقليمية اللاعبة جوارها أيضا!