الحدث الأكثر غرابة في التاريخ السياسي الحديث للولايات المتحدةالأمريكية، حدث بالفعل، بعدما أصبح دونالد ترامب مرشحاً مؤكداً سيخوض الجولة النهائية للانتخابات الرئاسية في الثامن من نوفمبر المقبل ضد بيرني ساندرز أو هيلاري كلينتون عن الحزب الديموقراطي.. رجل سيمثل الحزب الجمهوري اليميني المحافظ بينما هو طلق مرتين ويعادي اتفاقيات التجارة الحرة وله مواقف سابقة مؤيدة للإجهاض. تواجد ترامب كمرشح أوحد عن الحزب الجمهوري، وهو الذي لم يشغل أي منصب سياسي، بعدما أطاح بمنافسيه الواحد تلو الآخر وجميعهم من أصحاب التاريخ الطويل في العمل السياسي، يُعد بمثابة المعجزة التي فسرها هنري أولسين أستاذ العلوم السياسية المتخصص في شئون الجمهوريين، بقوله: «الحزب يعيش حرباً أهلية منذ 6 سنوات»، ويؤكد أولسين أن الحزب الجمهوري كان منقسماً لأربعة أجنحة متصارعة: جناح ليبرالي علي وشك الاختفاء، ووسط محافظ معتدل، وجناحين متشددين أحدهما متدين والآخر ليس كذلك. التيارات الأربعة عاشت السنوات الماضية صراعات لم تتوقف حول قضايا محورية أهمها الهجرة والإجهاض، فضلاً عن قضايا اقتصادية استراتيجية أبرزها التصويت علي الميزانية، وهو ما سهل لترامب المجيء من بعيد كاشفا كل مساوئ المنظومة ومروجاً لنفسه باعتباره الشخص الذي سيتفادي التنظير والجدل العقيم الذي تعيش فيه النُخب، حتي وإن وصفه خصومه بالشعبوي الديماجوجي فإنه في النهاية يعبر عما يشعر ويفكر فيه الناس. هنري أولسين يؤكد أن الحزب الجمهوري أصبح ضحية أطراف متصارعة كل منهم يحاول إثبات عمقه ونقائه الأيدلوجي، وهو نفس ما حاول فعله المرشح الجمهوري باري جولد واتر عام 1964 فخسر أمام الديموقراطي ليندون بي جونسون، فبينما حاول الأول إظهار أنه يحمل آلام أمة تعاني من آثار الكساد العظيم (1929)، وتبعات الحرب العالمية الثانية، كان خطاب الثاني مركزاً علي كيف نجعل من أمريكا «مجتمعا عظيما» من خلال التركيز علي ما يشغل حاضر جمهور الناخبين ومستقبلهم وليس ماضيهم، وهو نفس الخطاب الذي يستخدمه ترامب. درس ريجان في عام 1982 تعلم الجمهوريون الدرس، حيث فاز رونالد ريجان بالرئاسة، وهو الرجل الذي يضعه المحافظون في مصاف الأساطير السياسية، ويتذكر الجميع في الثماني سنوات التي أمضاها في البيت الأبيض أنه قلل الضرائب وخرج من كل مواجهات الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي منتصراً، وكانت معظم العمليات العسكرية الخارجية في عهده ذات فعالية وكفاءة، إضافة لسياسة خارجية ناجحة وتسامح تجاه المهاجرين غير الشرعيين. رونالد ريجان ظل الخط الأحمر والشخص الوحيد الذي لم يتجاوزه دونالد ترامب وحظي باحترامه وكذلك جميع المرشحين الجمهوريين في الانتخابات التمهيدية وحاول الكل استلهام أفكاره منه باستثناء المرشح المنسحب جيب بوش شقيق الرئيس السابق جورج دبليو بوش الرئيس رقم 43 في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية، وابن الرئيس الأسبق جورج بوش الرئيس الذي يحمل الرقم 41، بل كان الرئيسان موضع شبهة واتهام بخيانة الحقبة «الريجانية» لكل من يستحضر سيرة أي منهما، فالأول هو الجمهوري الوحيد، منذ الحرب العالمية الثانية الذي فشل في الحصول علي فترة رئاسية ثانية وسمح بزيادة الضرائب من خلال كونجرس هيمن عليه الديموقراطيون، أما الرئيس رقم 43 فقد رحل تاركاً خلفه ميراثاً ثقيلاً متمثلاُ في حربين شنهما علي العراق وأفغانستان فضلاً عن أزمة مالية اقتصادية مزدوجة وعجز بالخزانة مقداره تريليون دولار في يناير 2009 بعدما تسلمها بفائض قيمته تريليون دولار أيضاً في يناير 2001. فبعد رونالد ريجان كانت كل الهزائم في الانتخابات الرئاسية بالنسبة للجمهوريين نتاج الانحراف عن المبادئ المعتدلة للرئيس الأربعين في تاريخ الولاياتالمتحدة، والمبالغة في الجنوح تجاه سياسات يمينية متشددة وهو ما أسقط جيب بوش، وتيد كروز وماركو روبيو وبن كاريسون وجون كاسيك، كل منافسي ترامب في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب، والمحسوب أغلبهم علي ما يُعرف بTea Party أو حزب الشاي، وهو الجناح المتشدد داخل الحزب الجمهوري. ميلاد حزب الشاي عام 2009 جاء كرد فعل علي عودة الديموقراطيين للبيت الأبيض من خلال رجل أفرو أمريكي، فضلاً عن أنه نتيجة طبيعية لإخفاق عواجيز الحزب Grand old Party وتمكن حزب الشاي الجديد من اكتساح انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام 2010 وفي العام نفسه ألغت المحكمة الدستورية العليا، التي كان يسيطر عليها شخصيات جمهورية، سقف الإنفاق الانتخابي، فتحالف أغنياء راديكاليون ومثقفون من ورثة ريجان في حرب ضد المحافظين المعتدلين في الحزب. ويري هنري أولسين أن تلك «الحرب أنهكت الطرفين ولم يربحها أحد، وكان المستفيد الوحيد هو دونالد ترامب الذي استطاع اجتذاب جمهور جديد من الناخبين»، كما أن هناك نقطة أخري في غاية الأهمية استفاد منها ترامب وأوضحها أولسين علي النحو التالي: «أي شخص مسجل علي القوائم الانتخابية للحزب يمكنه الذهاب للتصويت، ولا يُشترط أن يكون الناخب مدرجاً علي قوائم الأعضاء العاملين علي غرار الحزب الديموقراطي»، وهو ما أكده ديفيد فروم، كاتب خطب بوش الابن، وذلك في مقال بمجلة The Atlantic الليبرالية بعنوان «الثورة الجمهورية الكبري»، حيث أوضح أن الحرب بدأت حينما اعتقد أثرياء الحزب والسياسيون الذين يعتمدون عليهم في التمويل، أن حزب الشاي عبارة عن حركة مهمتها العمل لكل ما فيه صالح أسواق المال في وول ستريت»، وهو ما اعتبره كاتب المقال خطأً كبيراً. ويبدو الكاتب علي حق فيما ذهب إليه حيث إن جمهور الناخبين الجمهوريين في نيويورك صوت لصالح ترامب، وهو مايعد بذلك موافقة علي رفع الضرائب علي الأغنياء. ويضيف ديفيد فروم: «الناخبون الجمهوريون لم يعد يهمهم تقليص مظلة التضامن الاجتماعي التي وفرها أوباما للفقراء، ولم يعد يهمهم مكافحة زواج مثليي الجنس الذي يؤيده الديموقراطيون، بل كل ما يهمهم هو وقف موجات الهجرة غير الشرعية لاسيما من المكسيك، التي تتسبب في خفض أجورهم حيث يقبل اللاجئون بأقل القليل»، ولهذا وعد ترامب ببناء جدار بطول الحدود الأمريكيةالمكسيكية ويصف اللاجئين من ذلك البلد باللصوص والمغتصبين وهو ما يعجب جمهور الناخبين. تغيير مفاجئ وشهدت الأيام الأخيرة، تصريحات عدائية بين رئيس الكونجرس الأمريكي، الجمهوري، بول ريان، ومرشح الحزب الأوحد، حيث أعلن الأول عدم استعداده لتأييد الثاني في الوقت الحالي، فرد ترامب إنه لا يدعم هو أيضاً سياسات ريان، معربا عن تطلعه لاتفاق بينهما في المستقبل. ويبدو أن الحزب الجمهوري أدرك مدي تورطه ما بين الحلول المطروحة حول تأييد ترامب والتخلي عن مبادئ الحزب، أو عدم تأييده وخسارة تأييد العديد من الناخبين الذين أدلوا بصوتهم لترامب، ما دفعهم لعقد اجتماع صدر عنه بيان مشترك لكل من ترامب وريان، أكدا فيه أن الولاياتالمتحدة لا يمكن أن تخضع ل4 سنوات أخري من حكم أوباما، الذي تمثله المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون الأقرب من بيرني ساندرز للحصول علي بطاقة الحزب الديموقراطي، ولهذا فإن علي الجمهوريين الالتفاف حول مبادئه المشتركة، وأجندته المحافظة، وبذل المزيد من الجهد للفوز بالانتخابات الحالية. وقال البيان، إن الاجتماع كان «عظيما، حيث تضمن الاعتراف بالخلافات، فضلا عن المساحات المشتركة في الحوار بين أعضاء الحزب»، مؤكدا أن هناك مناقشات أخري من المقرر أن تجري لاحقا، مشددا علي الثقة في وجود فرصة كبيرة لإعادة توحيد الحزب والفوز في الانتخابات، وهو ما سيتم العمل عليه سويا لتحقيق هذا الهدف، وكتب ترامب علي صفحته بموقع التواصل الاجتماعي تويتر «كل الأمور تتجه إلي الحل». وفي تغيير مفاجئ لوجهة نظره حيال ترامب، قال رئيس الكونجرس، إن «إنجازات ترامب في الوصول لعدد أصوات من الناخبين يفوق أي مرشح جمهوري آخر.. إنه حدث لا نظير له»، معربا عن أمله في توجيه الدعم للمرشح المفترض لدعم سياسة المحافظين، وأكد ريان، أن الاجتماع كان (مشجعا)، إلا أن عملية توحيد الحزب قد تحتاج لبعض الوقت. وقال أعضاء الحزب، إنه ليس هناك أي توقعات في الوقت الحالي حول نتائج الاجتماع وتوحيد آراء الحزب، حيث ناقش الاجتماع عددا من القضايا، منها الهجرة وسياسة الضرائب، وكيفية أن يكون ترامب «شخصا لطيفا»، بعدما كان الرافضون له في الحزب الجمهوري يصفونه بال«الدجال المحتال».