شهدت مصر انفلاتًا أمنيًا فى العقد الأخير- على الأقل - نتيجة لسياسات الوزارة التى كثفت جهودها لحماية الحاكم وأسرته وبعض المقربين، على حساب الأمن العام، ولعل لتسمية أكاديمية الشرطة ب«أكاديمية مبارك» دلالة واضحة على توجه سياسات وزارة الداخلية التى غلَّبت الأمن السياسى على الأمن الجنائى. ومن ثم فإن الانفلات الأمنى كان موجودًا قبل ثورة 52 يناير على أرض الواقع، وأن أحداث الثورة أظهرته وأججته فبدا جليًّا للكافة، وتحول من انفلات أمنى إلى انهيار أمنى كامل طبقا للقاعدة المنسوبة للفيلسوف هيجل: «التراكمات الكمية تؤدى إلى تغيرات نوعية». فعلى إثر الضربة الأمنية التى تعرضت لها الأجهزة الشرطية فى 25 يناير وما تلاها والتى كان من أبرز ملامحها: انهيار شرطى تام، انتشار قوات الشرطة عشوائيًا، نفاد الذخيرة، احتراق السيارات، نهب الأقسام، فتح السجون، سرقة الأسلحة، وصدور قرار بحظر التجول واستدعاء القوات المسلحة للنزول إلى الشارع، وما أعقد ذلك من قتل المتظاهرين وحالات السطو المسلح على فروع عدد من البنوك وسيارات نقل الأموال ومقار الشركات، وكذلك خطف الأشخاص وطلب فدية مالية، وذلك فى المرحلة الانتقالية التى أدار فيها المجلس العسكرى شئون البلاد، ثم ما اقترف من أعمال الإرهاب والترويع المتعمد من قوى داخلية وخارجية لتنفيذ مخططات للفوضى لتحقيق أهداف سياسية معينة وفق أجندات خاصة منذ فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة وحتى الآن ومن أبرزها: اغتيالات للمئات من الضباط والمجندين وتفجيرات لمقار أجهزة سيادية وحرائق وسائل نقل عام وخاص وحرق منشآت عامة وخاصة، وحرق دور العبادة (كنائس - مساجد)، وتلك الأعمال اقترفها تنظيم الإخوان الإرهابى وأتباعه من الجماعات التكفيرية وازدادت حدة هذه العمليات فى أعقاب ثورة 30 يونيو علماً بأنها قد بدأت منذ الأيام الأولى لثورة 25 يناير. وتأتى أهمية استجلاء أسباب الانهيار والتدهور فى الأداء إلى الآن لكونها بمثابة تشخيص للمرض حتى نتعرف بجلاء على السبل الناجعة للتعافى منه من خلال إعادة البناء والإصلاح، التى بدونها تتعثر خطى إتمام نجاح الثورة، وتجعلها لا قدر الله ثورة غير مستكملة لأهدافها وفقًا للمصطلح الإنجليزى «Incomplete Revolution» وسنتناول أبرز الأسباب العامة لانهيار أجهزة وزارة الداخلية كافة، ثم نتناول سبل إعادة بناء وإصلاح تلك الأجهزة، وذلك على النحو التالى: أولاً - الأسباب العامة لانهيار أجهزة وزارة الداخلية:
1- سوء تقديرات قيادات وزارة الداخلية للمواقف والأزمات الأمنية.
وتجلى سوء تقدير قيادات وزارة الداخلية للمواقف والأزمات فى أحداث الثورة على صعيدين: الأول- سوء تقدير طبيعة الحركات الاحتجاجية المفجرة للثورة، ويظهره تصريح وزير الداخلية السابق حبيب العادلى لجريدة الأهرام صبيحة يوم 25 يناير، ومفاده: «أطالب المثقفين بضرورة توعية هؤلاء الشباب وحب وطنهم، فكيف لشباب يخرب وطنه، فالشباب نزولهم للشارع ليس له تأثير» والثانى- سوء تقدير حجم الحركات الاحتجاجية وتأثيراتها، وبرز ذلك خلال التحقيقات التى أجريت مع حبيب العادلى الوزير الأسبق والتى أشار خلالها إلى أن أجهزة الوزارة لم تكن تتوقع درجة إصرار الشباب على تلبية مطالبهم، وقدرتهم على الحشد إلى هذا الحد، بالإضافة إلى الفشل فى كشف دور جماعة الإخوان المسلمين فى تكدير صفو الأمن العام، وإفشال المنظومة الأمنية.
2- مركزية إدارة مرفق الأمن فى مصر.
فى إطار ما يجرى عليه الحال فى مؤسسات الدولة كافة، وقد بدت مساوئ النهج المركزى فى المحافظات التى اشتعلت فيها الأحداث، وتقاعس المحافظون عن القيام بمسئوليات حفظ الأمن فيها، وفق مقتضيات قانون الإدارة المحلية، ويرجع ذلك إلى ما اشتهر عن سطوة وزير الداخلية وديكتاتوريته وتخوف المحافظين من بطشه أو مجرد الاقتراب مما يسلمون خطأ بأنه حماه، إلا جزئيًا فى بعض محافظات الصعيد التى تشهد أحداث تطرف دينى، حال تنصيب أحد قيادات الشرطة السابقين «البارزين» محافظًا لها.
3- الاستعانة بالبلطجية والخارجين عن القانون.
بدأت فكرة الاستعانة بالبلطجية والمسجلين والعناصر الإجرامية، فى مشاركة رجال الشرطة لبسط سيطرتهم على مناطق نفوذ الجماعات الدينية المتطرفة- بصعيد مصر تحديدًا- مما أدى إلى الكثير من المشاكل التى يصعب تداركها، والمتمثلة فى خلق مناطق تحت سيطرة هؤلاء الخارجين عن القانون بمعزل عن سلطة الدولة، وتجسد هذه العلاقة ما سماه البعض بشعار «البلطجية والشرطة إيد واحدة»، كانت العملية الانتخابية بأنواعها كافة (نيابية، محلية، رئاسية، نقابية، وغيرها) تدار بمعرفة أجهزة وزارة الداخلية التى كانت تستعين بالبلطجية وأصحاب السوابق فى تنفيذ توجهات النظام بشأنها، بالإضافة إلى أن أعمال إرهاب المعارضين للنظام ونشطاء حقوق الإنسان وضربهم وإهانتهم، كان للبلطجيين الدور الرئيس فيها، وانقلب السحر على الساحر، فاستغل البلطجية والمسجلون حالة إعياء وإنهاك قوات الأمن خلال أحداث الثورة، فقاموا بالهجوم على أقسام الشرطة وسرقة سلاحها، فصدقت مقولة: «لا تلم الثعبان إذا أدخلت رأسك فى جحره»!!.
يتم اقتداءً بالنموذج الفرعونى الذى أوردته الآية القرآنية الكريمة: «مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ». فلم يكن من المقبول المناقشة فى تنفيذ الأوامر أو الاعتراض على أية توجيهات صادرة عن قيادات الوزارة، حتى ولو كان الاعتراض مبنى على أسباب منطقية أو ضرورات مجتمعية أو بحوث ودراسات علمية، وكثرت فتاوى المبررين والمسوغين للباطل، حتى أن التشهير والاعتداء والتعذيب والقتل كان له مبررات، تندرج تحت دعاوى الحفاظ على الأمن العام والأمن الوطنى المصرى، الذى كانت كلمة «خط أحمر» دائماً ما تردف ذكره!!.
5- إقصاء الكفاءات البشرية توطئة لإنفاذ عملية توريث الحكم.
استغنت وزارة الداخلية خلال النصف الأخير من العقد المنصرم، عن أغلب الكوادر الأمنية التى تتحلى بالأخلاق الحميدة والموضوعية فى تقييم الأمور، خشية أن تمثل عائقًا لإنفاذ «مسلسل» التوريث، الذى كان القائمون عليه فى حاجة إلى الكوادر الأمنية التى كانت ستؤدى أداءً دراميًا لتحقيقه، وترجع خطورة هذا التوجه إلى ما سببه من تولد مشاعر الإحباط واللامبالاة فى أوساط الضباط الشرفاء؛ نظرًا لتَيَقُّنهم من صعوبة توليهم مناصب قيادية، أو الإبقاء عليهم مستقبلاً على أقل تقدير، فى ظل هذا المناخ.
6- الغرور والصلف والتعالى على الشعب المصرى.
ويمكن اعتبار الغرور والصلف والتعالى على الشعب المصرى بمثابة «العامل النفسى» المسبب لانتهاكات الحقوق والتضييق على الحريات، والمتمثل فى أن ضباط وأفراد شرطة كُثر تربوا على ثقافة الاستعلاء على المواطنين؛ فالأمن بالنسبة إليهم لا يتحقق إلا بالضرب والقمع والتعذيب، وهؤلاء يعتبرون نجاح الثورة هزيمة لهم، ويحسون بأنهم انكسروا أمام الناس؛ لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم فوق القانون، ولا يعرفون كيف يتعاملون مع المواطنين فى ظل القانون والمشروعية، ويجسد هذا المفهوم مقولتان، إحداهما: منسوبة إلى اللواء مجدى أبو قمر مدير أمن البحيرة الأسبق إبان ثورة 25 يناير، ومفادها: «اللى يمد إيده على سيده لازم يأكل بالجزمة»، والأخرى فى أعقاب ثورة 30 يونيو منسوبة إلى اللواء بالمعاش مجدى البسيونى ومفادها: «أخيراً الحكومة صحيت، وعلى الأمن تفعيل قانون التظاهر وبالجزمة، أيوه بالجزمة، وكفانا دلع بقى». وبالتالى فإن ضباط وأفراد الشرطة يتقاعسون عن حماية المصريين كأنما يعاقبونهم على قيامهم بالثورة، أو كأنهم يجبرونهم على أن يختاروا بين أمرين: إما التسليم بقمع الشرطة وإهاناتها، وإما التعرض لترويع البلطجية والخارجين عن القانون. وهنا يجب أن نتذكر مقولة الرئيس الأمريكى الأسبق بناجمين فرانكلين: «أولئك الذين يستبدلون الأمن بالحرية، لا يستحقون أيا منهما».
7- التَحَلُّل الأخلاقى.
لعله من قبيل الآثار الضارة للمهنة، تأثر قطاع كبير من أعضاء هيئة الشرطة بسلوك وأخلاقيات بعض ذوى النشاط الإجرامى، ولكن لو أن موظفى إنفاذ القانون لجأوا إلى ممارسات تخالف القانون أو تتجاوز ما منحه لهم من سلطات وصلاحيات؛ لتعذر التمييز بينهم وبين المجرمين، ولتعرض الأمن العام والسلامة العامة للخطر، ومن صور التحلل الأخلاقى التى ابتلى بها قطاع من الضباط وأفراد الشرطة، سواء فى تعاملهم مع المواطنين، أو داخل المنظومة الشرطية، هو ما دأبت عليه بعض قيادات الشرطة من توجيه أقذع الشتائم لبعض الضباط والأفراد الأقل رتبة، ورضاء أغلب المرؤوسين بذلك وعدم الاعتراض خشية تعرضهم لبطش الرؤساء؛ نظراً لغياب منظومة عادلة للتظلم داخل وزارة الداخلية، ومن ثم فإن تجاوز ضباط وأفراد الشرطة مع المواطنين لا يكون غريبًا أو مستبعدًا إذا ما وضعنا فى الاعتبار ما يسمى فى علم النفس ب«الإزاحة- «Displacement» أو ما يسميه البعض فى علم النفس السياسى بنظرية «سلوك صف الضابط»، وبمقتضاها تقوم الطبقات الأعلى سلطة أو نفوذًا بالضغط على الطبقات الأدنى؛ لإزاحة الضغوط النفسية الواقعة عليها من الطبقات الأعلى.
8- الفساد المالى.
مما لا شك فيه أن هناك ضباطًا وأفراد شرطة مارسوا الفساد فى العهد البائد بصورة تتفق والوصف الذى أوردته الآية القرآنية الكريمة: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا)، وكانوا يربحون أموالاً طائلة بطريقة غير مشروعة، وهؤلاء قضت الثورة على مكاسبهم، وبالتالى لم يعد لديهم باعث حقيقى على العمل فى ظل الظروف الراهنة؛ لأنهم تعودوا على دخول مرتفعة، فأصبح عليهم أن يعيشوا على رواتبهم فحسب. ولكن الإنصاف يقتضى القول إن العاملين الشرفاء بوزارة الداخلية- على اختلاف درجاتهم - وهم كُثر وفى أمس الحاجة لتحسين أحوالهم الوظيفية، واقتراح أن يصدر قرار وزارى بصفة عاجلة لاستثناء العاملين بوزارة الداخلية والدفاع والعدل من الحد الأدنى والأقصى للأجور؛ نظراً لكونهم لا يحق لهم ممارسة أى أعمال أخرى بجانب وظيفتهم، ولارتفاع نسبة المخاطر التى يتعرضون لها، وذلك تحقيقاً للعدل ومنعاً للتحايل الذى يجرى على أرض الواقع للحصول على دخول مرتفعة بالمخالفة للقرار الوزارى الذى يحدد الحد الأقصى بمبلغ 24 ألف جنيه. وفى هذا السياق أيضًا، تجدر الإشارة إلى أهمية إحكام الرقابة المالية على الإدارة العامة للحسابات بوزارة الداخلية وسرعة محاسبة القائمين عليها، التى كانت تمنح العطايا للوزير ولقيادات الوزارة المقربين من الوزير، فى الوقت الذى يعانى فيه جهاز الشرطة بأسره من ضيق ذات اليد.
9- ازدياد حدة كراهية المواطنين لجهاز الشرطة لدرجة غير مسبوقة.
يمثل جهاز الشرطة فى مصر عبر التاريخ - باختلاف المسميات التى أُطلقت عليه- أداة قمع فى أيدى الحكام الطغاة وهم كُثر، باستثناء فترات قليلة فى ظل الخلافة الإسلامية والدولة الوطنية التى تولت مقاليد الأمور فيها حكومات ديمقراطية، ولكن طغيان وفساد جهاز الشرطة فى العهد البائد بلغ ذروته، ومن ثم بلغت كراهية المواطنين مبلغًا مماثلاً، ويرجع ذلك إلى ازدياد حدة تعمية وتعتيم وزارة الداخلية على مختلف الجرائم التى ارتكبها موظفوها ضد الأبرياء، ومن أبرز تلك الجرائم: (تعذيب عماد الكبير- قتل كل من خالد سعيد والسيد بلال) وإحدى الحالتين لم تكتمل إجراءات التحقيق والمحاكمة فيها حتى الآن. ومن الدروس المستفادة فى هذا الشأن، أن إشارات الإنذار التى لاحت فى الأوساط الجماهيرية، وأظهرت سقوط حاجز الخوف الذى كان متولدًا فى نفوس المواطنين من جهاز الشرطة وتولد مشاعر الانتقام منهم، وصوَّرته العديد من الأفلام السينمائية، كان من الواجب أن يفطن القائمون على وزارة الداخلية إلى خطورتها، لا أن يواجهوها بغرور واستعلاء كما أظهره لقاء حبيب العادلى وزير الداخلية الأسبق فى التليفزيون المصرى بمناسبة الاحتفال بعيد الشرطة، والذى ذكر فيه عبارة: «كل إنسان بيسىء للشرطة، أنا بعتبره إنسان كاره لنفسه وللبلد».
ثانياً: سبل إعادة بناء أجهزة وزارة الداخلية وإصلاحها.
منذ عهد قريب جدًا، بدأت هيئات إنفاذ القانون فى دول العالم ، أو بالأحرى مسئولو الإدارة الاستراتيجية فيها، تستشعر مدى ما تسببه هياكلها الشديدة البيروقراطية والمركزية من إعاقة لفاعليتها وكفاءتها. ويكمن حافز التغيير فى تزايد الضغط السياسى الذى يُمارس من خارج الهيئة بأكثر مما ينبع من اقتناع داخلى كامل بأن البيروقراطية والأنظمة التراتبية «Hierarchical» ربما كانت سمات أقل استصوابًا فى بيئة ديناميكية دائمة التغير. ولذا يجرى استحداث واختبار مفاهيم جديدة للإدارة، يختفى فيها أسلوب صنع القرار المتجه من أعلى إلى أسفل، لتحل محله مفاهيم «الإدارة الذاتية self management- والمسئولية عن النتائج - result responsibility» وهى مفاهيم تستهدف إشراك جميع مستويات الهيئة فى تحمل المسئولية، وكذلك فى التمتع بالتقدير على الأداء الجيد، ويكتسب مفهوم «الشرطة المجتمعية- Community Policing» تأييدًا متزايدًا. واسترشادًا بالمفاهيم والسياسات سالفة الذكر، التى تنتهجها أجهزة إنفاذ القانون فى الدول المتقدمة، يمكن تحديد أبرز سبل إعادة بناء أجهزة وزارة الداخلية وإصلاحها فى أعقاب الثورة فيما يلى:
1- تفهم المقاصد الحقيقية لوظيفة إنفاذ القانون. 1- 2- 3- وظيفة إنفاذ القانون هى خدمة عامة نشأت عن وجود القانون، وتتمثل مسئولياتها فى الحفاظ على القانون وإنفاذه، وحفظ النظام العام، وتقديم المساعدة والعون أثناء الطوارئ، وهى ليست بالمهنة التى تتمثل فى تطبيق حلول نمطية لمشكلات نمطية تحدث على فترات منتظمة، بل هى فن استيعاب القانون «نصًا وروحًا- «the letter and the spirit» فالموظفون المكلفون بإنفاذ القانون يجب أن يكونوا قادرين على التمييز بين «درجات لا حصر لها من اللون الرمادى- «innumerable shades of grey»، وليس مجرد التمييز بين الأسود والأبيض، والخطأ والصواب. وانطلاقًا مما سبق، يُرى استبدال شعار الشرطة «الشرطة درع القانون وسيفه» بالشعار الحالى «الشرطة فى خدمة الشعب»، وذلك لاتساقه والمقاصد الحقيقية لوظيفة إنفاذ القانون كما عرَّفتها الجهات المعنية على المستوى الدولى من جهة، ولعدم جدوى الشعار الأول من جهة أخرى. 3-
2- سرعة إنفاذ آليات العدالة الانتقالية.
وذلك عبر آلياتها الخمس المعروفة، وهى: المحاكمات والتحقيق، ولجان الحقيقة، والتعويضات لجبر الأضرار، والإصلاح المؤسسى، وإحياء الذاكرة الجماعية للضحايا لضمان عدم التكرار، والتى يجرى إنفاذ آلياتها ببطء نسبى، مما سبَّب مشاعر من عدم الرضا فى الأوساط الجماهيرية.
3- الإصلاح التشريعى (الدستور - القانون - اللوائح التنظيمية).
- فيما يتعلق بالدستور:
وجود قوات الأمن المركزى والتى تُعتبر تشكيلات «شبه عسكرية - Paramilitary» مخالف للدستور، ويحتاج الأمر إلى تعديل دستورى.
وجود القضاء العسكرى المنوط به محاكمة أعضاء هيئة الشرطة، رغم كونها هيئة مدنية نظامية، يحتاج إلى معالجة تشريعية (تم التقدم بدراسة مفصلة إلى اللجنة التأسيسة للدستور، لجنة الخمسين، وتسليمها فى مضبطة لجنة الحوار المجتمعى، وتضمنت مقترحات لتلافى هذه المثالب وللأسف لم يلتفت إليها).
- فيما يتعلق بالقوانين واللوائح التنظيمية:
ومن أبرزها تلك القوانين واللوائح المنظمة لمسئوليات ولصلاحيات موظفى إنفاذ القانون، والمنظمة لقانون هيئة الشرطة، والتى تحتاج إلى تعديلات لقصورها عن معالجة التطورات وتلبية الاحتياجات الأمنية والوظيفية.
4- الإصلاح المؤسسى الذى يراعى المبادئ الأساسية لقانون حقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى.
وللإصلاح المؤسسى قواعد متعارف عليها فى مختلف دول العالم المتقدم، والتى تضع ضوابط لمساءلة الأجهزة الأمنية فى الدول الديمقراطية، وفق المسئوليات والصلاحيات الممنوحة لموظفى إنفاذ القانون، وتقييم أدائها على ضوء التزاماتها بتلك القواعد من جهة، واستبدال المفهوم التقليدى للأمن الوطنى «القومى» الذى يتخذ من الدولة وحدته الأساسية، بالمفهوم الحديث له والمعروف ب«الأمن الانسانى- Human Security» الذى يتخذ من الفرد وحدته الأساسية فى التحليل بحيث يصبح محورًا أى سياسة أمنية أو اقتصادية أو سياسية هو تحقيق أمن الأفراد.
5- تأسيس مدونة لقواعد السلوك الأخلاقى للموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين.
ويتعين على موظفى الإدارة المسئولين فى هيئات إنفاذ القانون أن يراقبوا المواقف والسلوك، لا من منظور الأخلاق الشخصية فحسب، بل ومن منظور «الأخلاق الجماعية- Group Ethics» ويمدنا تاريخ إنفاذ القانون بأمثلة متنوعة من بلدان مختلفة تبين لنا كيف يمكن أن تؤدى الأخلاق الجماعية المشكوك فى صوابها إلى تشويه سمعة هيئة إنفاذ القانون بكاملها، وكثيرًا ما تهتز أسس هيئات لإنفاذ القانون فى أرجاء مختلفة من العالم من جراء فضائح الفساد المتوطن، والمشاركة الواسعة النطاق فى الجريمة المنظمة، والعنصرية والتمييز. هذا وقد لقيت مسألة الأخلاق المهنية فى إنفاذ القانون قدرًا من الاهتمام فى الصكوك الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والعدالة الجنائية الصادرة عن (الجمعية العامة للأمم المتحدة - الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبى).
6- تأسيس جهاز معلوماتى كفء منوط به حماية الأمن الداخلى.
وذلك شريطة أن يواكب هذا الجهاز المتطلبات الثورية، وأن يخضع لمختلف وسائل الرقابة (تشريعية- قضائية- شعبية- مجتمعية- ذاتية) لتلافى انحرافات جهاز مباحث أمن الدولة السابق، على أن يتم استبدال نيابة أمن الدولة العليا التى ثبت انحيازها للسلطة التنفيذية، بلجنة قضائية «خاصة» تابعة للمجلس الأعلى للقضاء، للإشراف على قطاع الأمن الوطنى، عقب إصدار قانون ينظم عمله، حيث إنه منذ ثورة يناير وحتى الآن لم يصدر قانون ينظم عمله؟!.
7- سرعة تنفيذ البرامج الدولية المتعارف عليها فى مجال مد جسور الثقة بين المواطنين وجهاز الشرطة فى إطار مفهوم الشرطة المجتمعية.
تهتم العديد من المنظمات والجمعيات لا سيما العاملة منها فى الحقل التطوعى، بتنفيذ «برامج بناء الثقة - Trust Building Programs» المفتقدة بين المواطنين فى المجتمعات التى عانت فى بعض الفترات من «تفكك اجتماعى»- Social Disintegration نتيجة لصراعات عرقية وطائفية. فعلى سبيل المثال: أجرت المنظمات الدولية - ذات الصلة بالأمم المتحدة - إبان إنفاذها لتلك البرامج فى إقليم دارفور بالسودان، عدة دورات فى صورة «ورش عمل»، شارك فيها ممثلون عن الفصائل السودانية المتناحرة، وضباط الشرطة السودانية، وقوات حفظ السلام المشاركة فى المهمة، وممثلو المجتمع المدنى فى آن؛ بغية التعرف على أسس إعادة الثقة المفقودة بين الأطراف، وممارستها والتدريب عليها فى مناخ معرفى يسوده الوئام.