سوف تظل أحداث الأربعاء 14 أغسطس الماضى علامة فارقة فى تاريخ الأقباط ومصدرا محوريا فى كتابة تاريخهم المعاصر.. من هذا المنطلق يأتى كتاب الأنبا مكاريوس، الأسقف العام بالمنيا، «رحيق الاستشهاد» والذى قدم فيه توثيقا دقيقًا لحرق الكنائس وخسائر الأقباط فى إطار روحى عميق يستلهم خبرة الأقباط فى توقعهم للموت حيث صار الجميع قاب قوسين أو أدنى من الاستشهاد، لا سيما بعدما تأكد لهم أن كل المسيحيين أصبحوا مستهدفين. الكتاب قدم له قداسة البابا تواضروس الثانى قائلا: هذه صفحات للتاريخ نسجلها ومازالت الأحداث الدامية ماثلة أمامنا كوطن وككنيسة وكمجتمع، نسجلها بصدق شهادة لكل العالم وكيف قدم أقباط مصر صورة مضيئة عن معانى الوطنية والأخوة والمواطنة وكيف طبقوا الوصية المسيحية بصورة أذهلت العالم والمصريين إننا نحبكم أيها المعتدون.. ونسامحكم.. ونغفر لكم.. ونصلى من أجلكم وسلامة حياتكم.. مبارك شعبى مصر.
الكتاب يعرض بدقة متناهية أحداث الأربعاء الدامى الذى تعرضت فيه كنائس المسيحيين ومؤسساتهم وممتلكاتهم لهجمة شرسة، وكانت قد سبقت تلك الاعتداءات تهديدات لجميع الأقباط فى طول البلاد وعرضها، سواء من أعلى المنصات - كما تؤكد مقاطع الفيديو - أو من خلال المنشورات التى وزعت وفيها تهديد صريح باستهداف كل من الأقباط والمؤسسة العسكرية وقوات الجيش، أو من خلال بعض الخطب التحريضية فى بعض المساجد، وقد قامت الكنيسة فى أكثر من مكان بنقل هذه التخوفات إلى المسئولين.
أطلقت إيبارشية المنيا مبادرة تحويل اليوم الذى تمت فيه الاعتداءات إلى عيد قبطى يحمل معنى الفرح والفخر.. ويقول الأنبا مكاريوس تلقينا العشرات من الاقتراحات بخصوص اسم لهذا العيد، مثل: رحيق الاستشهاد، التقدمة، الكنيسة مجمرة بخور، من أجل الوطن، نيروز جديد، نيروز صغير، عيد النصرة، الابن الضال، ذبيحة حب، حصاد البركات، ذبيحة المسيح
عيد القرابين المقدسة، عيد الوطنية القبطية، ضريبة وطنية الأقباط، عيد الكنيسة القبطية المصرية.. وغيرها.
طرحنا على الأطفال سؤالا عن رأيهم فيما حدث، ووصلتنا ردود كثيرة، اخترنا منها الآتى: - ميرا نصرى: (الصف السادس الابتدائى): ربنا بيختبر إيمان أولاده إن كانوا هايتحملوا الضيق ولا لأ.
- ليزا صموئيل (أولى ابتدائى): احنا كنا زمان بنستهتر بالكنيسة وبنلعب فيها ونرمى فيها ورق لكن دلوقتى بنصلى فى الحوش.. احنا اتعلمنا ازاى نحترم بيت ربنا، بعدما اتحرق فينا قيمته.
- يوساب رضا «رابعة ابتدائى»: ربنا قال لنا قبل كده إن فى العالم هايكون ضيق، ده مش جديد علينا.
- عبدالمسيح جرجس «سنة سادسة»: على فكرة اللى حصل معانا دلوقتى زى اللى حصل للشهداء زمان، لكن ربنا ما سابهومش.
- مريم منتصر «سادسة ابتدائى»: عندما كنت أذهب إلى الكنيسة قبل احتراقها كنت أشعر بفخامة المبانى وديكوراتها، وكنت أقضى وقتا صغيرا للصلاة، لكن بعد احتراقها لايهمنى المبانى، فإن قلبى مشتاق جدا للصلاة وإلى ربنا.
ومن التأملات اليومية التى كتبها الأنبا مكاريوس أثناء الأحداث نختار منها:
قبلتم سلب أموالكم بفرح لأنكم رثيتم لقيودى أيضا وقبلتم سلب أموالكم بفرح، عالمين أن لكم مالا أفضل فى السماوات وباقيا.
«عبرانيين 34:10» يشير القديس بولس إلى الذين تحملوا الكثير من الآلام مثل الطرد من الوظائف والحرمان من الامتيازات ومصادرة الأموال وغيرها من ألوان الهوان.
والسلب المقصود هنا بحسب ما قصدته اللغة هو عمليات السطو والنهب الواضح والتدمير، فقد كان الاستيلاء على ممتلكات المسيحيين يتم جهارا، ولكنهم قبلوا ذلك بفرح لأنه من أجل الله ومصر، لقد أدركوا أنهم وإن خسروا هذه الأملاك التافهة، فلهم فى السماء كنز لايسرق: عالمين فى أنفسكم أن لكم مالا أفضل فى السماوات وباقيا.
والمقصود بعالمين فى أنفسكم أنكم اقتنيتم أنفسكم وهو الأهم من الأموال، أن يخسر إنسان كل ما حوله لأجل المسيح ولكى يربح نفسه من يهلك نفسه من أجلى يجدها «متى 16:25» حتى لو خسر الإنسان ثيابه، بل إن ضرب فى جسده وتعذب وقتل هذا الجسد، وخسر اسمه وشهرته ومكانته وكرامته، فإن روحه أغلى وأبقى بصبر كم اقتنوا أنفسكم «لو19:21» إن قبول سلب الأموال بفرح هو تعامل أرقى مع الأمر، فهو ليس مجرد احتمال للخسارة أو استسلام للظلم بسبب العجز، كلا وإنما بقلب راض وفرح، مقدمين شهادة بذلك للمسيح، فإن الاستشهاد ليس فقط بسفك الدم، ولكن أيضا باحتمال إساءات الآخرين، وعلى قدر تعلق قلوبنا بمحبة الله نستهين بالماديات، فلا تنزعج أن اغتصبها منك أحد أو طمع فيها. لقد تعرى المسيح لأجلنا، ننظر إليه وهو معلق على الصليب فنخجل أمام حبه، ونستخف بالتالى بكل ما يشغلنا عنه من أمور العالم.
كان جنود الرومان يقتسمون ثياب المسيح بينهم بينما يتجرع هو أشد الآلام، نقول ذلك لكل من رأى كنيسته تهدم وتحرق بالنار، وتباع محتوياتها علنا بأبخس الأثمان، خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكى أربح المسيح «فيلبى 3:8».
«ك.ى» تحكى قصة معاناتها.. وكذلك المتجر الخاص بأسرتها لاعتداء وحشى بدءا من النهب إلى التحطيم إلى إشعال النيران وشبت النار فى المنزل والمتجر وهرع سكان البيت إلى الخارج ولم يكن سوى مخرج الباب الرئيسى للمنزل حيث تجمهر عدد كبير من المعتدين بأنواع متعددة من الأسلحة ما أن رآهم حتى هجموا عليهم ونزعوا منهم ما كانوا يحملون فى أيديهم، ثم اختطفوا تلك السيدة مع طفلها وهددها بقتله غير أن الطفل وصل إلى أسرته بأعجوبة ولا يعرف لا الطفل ولا أهله كيف عاد سالما.
أما هى فقد نزعوا خاتمها وأقراطها وقاموا بتقطيع شعرها بطريقة وحشية وأشبعوها لطما بقسوة على وجهها ونزعوا حذاءها وأجبروها على السير فوق قطع الزجاج المكسر حتى دميت قدماها مما أثر على أعصاب بطن القدمين وبعد ذلك حملوها عنوة إلى مكان مهجور بقصد الاعتداء عليها وظلت تقاوم وحشيتهم بل طلبت منهم أن يقتلوها عوضا عن الإساءة إليها، ولكن الله أرسل أناسا لينقذوها بأعجوبة من بين أيديهم ويحملوها بعيدا بينما المعتدون يتبعونهم أملا فى استعادتها من جديد.