جملة معروفة يستقبل بها أي مريض طبيبه المعالج: طمني يا دكتور .. إنها جملة شائعة ومستعملة في حياتنا وأفلامنا ولا يخلو منها أي مشهد سينمائي يظهر فيه طبيب.. وعادة ما ينظر المريض أو أحد أقاربه إلي الطبيب برجاء ثم يقول بلهجة مؤثرة: طمني يا دكتور. والحقيقة لقد حاولت أن أجد ترجمة لهذه الجملة العبقرية في اللغات الأجنبية فلم أجد.. لأن السؤال المنطقي والطبيعي: مم أشكو يا دكتور؟.. ما المرض الذي أعاني منه يا طبيب؟.. ما هو العلاج المطلوب؟ ولكن طمني يا دكتور جملة شديدة الذكاء والخبث لأنها تعكس صورة واقعية لهروبنا الدائم من مواجهة الواقع والخوف منه.. فنحن ندفع بالطبيب بشكل غير مباشر كي يطمئننا ويقول: أبداً ولا حاجة.. كلها حاجات بسيطة.. ثم يتوفي المريض بعد أيام قليلة .. من الحاجات البسيطة! أذكر أنني عندما سافرت مع زوجي لإجراء عملية له في القلب بأمريكا، كنت قد قضيت شهراً كاملاً في مستشفيات القاهرة دون أن أعرف حقيقة وضع زوجي الصحي .. كان الأطباء يرددون أن أوجاعه وآلامه مجرد حاجات بسيطة!! طيب لما هي بسيطة لماذا نسافر لأمريكا.. ؟ ولما هي بسيطة لماذا نجري العملية من الأصل؟ هذه الأسئلة البديهية لم أطرحها علي الأطباء ولا علي نفسي .. لأنني كنت أنا أيضا أبحث عمن يطمئنني ويخدعني .. وعندما وصلت إلي كليفلاند فوجئت بالطبيب يستقبلني ويشرح لي بشكل محدد ودقيق وشديد الصراحة مدي خطورة الموقف وحدود المخاطرة في العملية.. ونسبة الشفاء الحقيقية .. وما قد يتعرض له من مشاكل وانتكاسات!! وأحسست بالدوار وسؤال يدور في رأسي ..لماذا أخفي عني الأطباء الحقيقة رغم معرفتهم بتفاصيل العملية وخطورة الحالة؟! ولكنهم - كما يبدو- فضلوا أن يخففوا الواقع لأن كده أسهل.. وألطف .. وأريح للجميع!! والحقيقة أننا جميعاً نبحث دائماً عمن يطمئننا حتي لو كان يخدعنا لأننا ندفعه بشكل ملتوٍ وخبيث كي يكذب علينا وعلي كل المستويات وأمام كل المشاكل فنحن نعرف جيداً لأننا نعاني .. وأننا دخلنا في مرحلة خطرة. ولكن منطق طمني يا دكتور يدفعنا إلي عدم مواجهة الواقع ويدفع المسئولين بالدولة إلي عدم مصارحة الناس بحجم المشاكل الحقيقي. فالتعليم المجاني ثبت فشله وأدي إلي تدهور التعليم في مصر!! ولكن لا داعي للمواجهة (أحسن الناس تزعل) .. والمصانع تخسر ومعدلات ساعات الإنتاج انخفضت إلي أدني مرحلة! (وما له برضه الحوافز والأرباح تصرف.. أحسن العمال ياخدوا علي خاطرهم..) ..والضرائب ضرورة ولكن بلاش دلوقتي (الناس مش ناقصة وجع قلب!!) وعندما انتشرت صحف المعارضة والفضائيات المفتوحة.. تصور بعض السذج وأنا منهم.. أنها بداية لمرحلة جديدة في مواجهة الناس بالحقائق والاعتراف بالأخطاء ثم معالجتها .. ولكن صحف المعارضة والمحطات الفضائية توقفت عند مرحلة اللطم علي الخدود .. وتوزيع الالتهامات.. وأصبحنا كل يوم نطالع عبر هذه الوسائل الإعلامية، وصلات من الندب وتوزيع الاتهامات والتهجم اللاعقلاني هرباً من مواجهة المشاكل بعقلانية.. فالاعتراف بالأخطاء والنواقص والسلبيات لا يكفي ولابد أن تعقبه مرحلة نواجه بشجاعة فيها أمراضنا ونأخذ قرارات مصيرية حاسمة حتي وإن كانت مؤلمة علي المدي القصير.. لما خرجت ألمانيا من الحرب كانت مدمرة اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً ومعنوياً .. وفكرت الحكومة الجديدة بدعم من الحلفاء أن تقدم رشوة للشعب الألماني من خلال توزيع بطاقات دعم علي أفراد الشعب حتي لا يشعروا بكم التدهور الذي وصلت إليه البلاد .. ولكن ذلك كان معناه أيضاً المزيد من الديون والعجز والالتزمات علي المدي البعيد.. وجاء وزير شجاع اسمه آير هارد ورفع شعار جديد هو بطاقة الدعم الوحيدة هي المارك الألماني. يعني بالبلدي تشتغل بجد، تجد دعمك .. ما تشتغلش لن تجد دعماً من الدولة.. وهذه كانت البداية لمرحلة جديدة في تاريخ ألمانيا. وفي عام 1968 وقف وزير المناجم الإنجليزي ليشرح لعمال التعدين ما سيحدث لصناعتهم بعد سنوات وقال لهم بصراحة ووضوح أن عددهم الذي كان يبلغ في ذلك الوقت 387 ألف عامل لن يكون في عام 1980 أكثر من 15 ألف عامل!! يعني من كل ستة عمال سيصبح خمسة عاطلين عن العمل .. والغريب أن العمال لم يثوروا عليه لأنهم مؤمنون بأن الحقيقة يجب أن تقال مهما كانت قاسية .. والصحف لم تتهمه بالخيانة.. ولم تفضحه وتشرشحه وتقلب عليه الرأي العام .. ولكنها أيدت صراحة الوزير وشجاعته لأن المعرفة هي السبيل الوحيد لمواجهة المشكلة مهما كانت مؤلمة والشعب من حقه أن يعرف وأن يشارك .. هذا هو دور الدولة ومهمة الإعلام. الهدف من الكلام ده كله.. أنه آن الأوان كي ننتقل من مرحلة: طمني يا دكتور!! لمرحلة: مواجهة أمراضنا بشجاعة ومتابعة العلاج بجدية.. وتناول الدواء مهما كانت مرارته لأنه سبيلنا الوحيد للشفاء قبل فوات الأوان.